في مشهد يبدو غير مألوف في السياق السوري، خرج رئيس لجنة التحقيق في أحداث السويداء، القاضي حاتم النعسان، في مؤتمرٍ صحفي بدمشق ليقدّم رواية الدولة، أو بالأحرى روايتها الجديدة، عن واحدة من أكثر المحطات دموية والتباسا في الجنوب السوري.
لكن ما بدا كعرض تقني لتفاصيل التحقيق، انكشف في عمقه كاختبار نادر لقدرة السلطة السورية على التعامل مع فكرة “المساءلة الداخلية” دون أن تهتز منظومة السيطرة التي اتسمت بها وكما ترسمها.
من المقاطع إلى المحاضر: دولة تحاكم نفسها أمام الكاميرا
الجملة التي تصدّرت المؤتمر كانت صادمة في معناها السياسي أكثر من دلالتها القانونية: “قامت اللجنة بطلب قانوني لتوقيف عددٍ من عناصر الجيش والأمن ممن ثبت ارتكابهم انتهاكات، بناء على تحقيقات قامت بها اللجنة وبناء على مقاطع من وسائل التواصل الاجتماعي”.
لأول مرة، تستخدم جهة رسمية لسلطة في دمشق عبارات مثل “مقاطع السوشال ميديا” و”تحليل الأدلة الرقمية” كمنطلق لإجراءات قانونية ضد عناصر أمنية وعسكرية.
ذلك ليس مجرّد تحول لغوي، بل تحوّل رمزي في آلية إدارة الحقيقة، فالسلطة التي كانت ترفض سابقا الاعتراف بمحتوى الفيديوهات المنتشرة عن جرائم الساحل، باتت تعتبرها “أدلةً مبدئية” يمكن البناء عليها ضمن سياقٍ قانوني منضبط.
لكن السؤال الذي بقي معلقا في أذهان الحاضرين هو: هل هذا التحول نتيجة اقتناع بالشفافية؟ أم استجابة اضطرارية لضغوط داخلية ودولية بعد تصاعد الانتقادات لتعامل القوات النظامية مع سكان السويداء والعشائر في الجنوب؟
في كلتا الحالتين، بدا أن اللجنة تحاول صياغة رواية مؤسساتية مضادة للفوضى الرقمية، فأعلنت أنها شكّلت فريقا تقنيا مختصا لتحليل المقاطع المصوّرة، والتحقق من صحتها، وتحديد مكانها وزمانها بدقة، قبل تحويلها إلى مواد جنائية قابلة للإحالة للقضاء.
اللغة التي استخدمها النعسان مثل “التكييف القانوني الدقيق”، و”تناسق الأدلة الرقمية والميدانية”، و”إعادة بناء تسلسل الأحداث”، كانت محاولة واضحة لإضفاء طابع قضائي صارم على وقائع ميدانية لا تزال غارقة في التعقيد الاجتماعي والسياسي.
900 إفادة وشهود محميّون: بين المنهجية والخوف
أعلنت اللجنة أنها استمعت إلى أكثر من 900 إفادة، بينها نحو 800 محضر موثّق من ضحايا وذويهم وشهودٍ مدنيين من السويداء ودرعا ودمشق وريفها.
وأكدت أنها ضمنت “السرية القانونية” للشهود وامتنعت عن كشف هوياتهم حماية لهم من “سلطة الأمر الواقع” في السويداء، في إشارةٍ إلى الجماعات المسلحة المحلية.
على الورق، تبدو هذه الإجراءات خطوة في الاتجاه الصحيح. لكنها في الممارسة، تكشف عن مأزق السلطة في كسب المصداقية في روايتها، فإذا كانت اللجنة غير قادرة على دخول مدينة السويداء بالكامل،
كما أقرّ رئيسها، فكيف يمكنها ضمان الوصول المتكافئ لجميع الأطراف؟ وهذا الغياب الميداني يجعل من التحقيق، مهما بلغت جودته التقنية، ناقصا في الجغرافيا والتمثيل، فالسلطة تحاول التحقيق في جريمة لم تتمكن بعد من استعادة مسرحها.
العدالة كفعل سياسي: توازن على حافة الشرعية
من زاوية سياسية، يشكّل هذا المؤتمر اختبارا لمدى استعداد سلطة دمشق لفتح ملفات تمسّ جهازها الأمني والعسكري علنا.
إعلان توقيف عناصر من الأمن والدفاع ليس تفصيلا إجرائيا، بل تحد ضمني لاثبات شفافية السلطة، لكن النعسان، وبلغة حذرة ودقيقة، أوضح أن التوقيفات جرت “من قبل الوزارات المختصة”، أي الداخلية والدفاع، وليس بقرار قضائي مستقل، وهذه الإشارة الصغيرة تحمل معناها الكبير، فالعدالة لا تزال تعمل من داخل الجهاز نفسه الذي يُفترض أن يُدان والمتهم بما حدث.
في هذا التناقض تكمن المفارقة الكبرى، فاللجنة ترفع شعار “التحقيق المستقل”، لكنها لا تملك سلطة تنفيذية مستقلة؛ تطلب التوقيفات، لكنها لا تأمر بها؛ تلاحق الجناة المحتملين، لكنها تعمل ضمن بنية مؤسساتية تضع سقفا غير معلن لما يمكن قوله وما يجب كتمانه.
ومع ذلك، فإن مجرد خوض هذا المسار في بيئة أمنية حساسة يُعدّ في حد ذاته مؤشرا إلى تراجع طفيف في منسوب إنكار السلطة، وربما الإيحاء بإعادة تعريف لمفهوم “المسؤولية الرسمية” في سوريا ما بعد الحرب.
المسار الإنساني: التعليم بوصفه ترميما للثقة
وسط الحديث عن الانتهاكات والأدلة، خصصت اللجنة جزءا من المؤتمر لما سمّته “المسار الإنساني” لعملها؛ التعاون مع وزارتي التعليم العالي والتربية لتسهيل حضور طلاب السويداء امتحاناتهم في دمشق، وتذليل العقبات الإدارية أمامهم.
يبدو هذا التفصيل إداريا، لكنه في البنية الرمزية للتحقيق يحمل بعدا آخر، فهو محاولة السلطة الادعاء بأنها استعادت العلاقة مع مجتمع متصدّع عبر أدوات مدنية، بعدما فقدت أدوات السيطرة التقليدية.
التحقيق كمرآة للسلطة: بحث عن شرعية قانونية جديدة
ما قدّمه المؤتمر هو أكثر من تقرير مرحلي، إنه محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والحقيقة في سوريا، وتسعى اللجنة إلى إثبات أن النظام قادر على محاسبة بعض أفراده دون أن يفقد هيبته، وأن العدالة يمكن أن تُمارس ضمن الحدود التي تسمح بها السياسة، لا خارجها.
لكن هذا المسار محفوفٌ بالمخاطر، فإذا أُنجز التحقيق من دون نتائج ملموسة كالمحاكمات العلنية أو التعويضات أو اعترافٍ بمسؤولية مؤسساتية، فسيتحوّل إلى مجرد تمرين بيروقراطي في العلاقات العامة، يهدف إلى امتصاص الضغط الدولي أكثر مما يهدف إلى إنصاف الضحايا.
أما إذا مضت اللجنة فعلا نحو محاسبة عناصر من الأجهزة النظامية، فستدخل البلاد مرحلة جديدة من الاعتراف الرسمي بالانتهاكات، وهو مسألة ستفتح الباب أمام قضايا أخرى مثل مجازر الساحل والاغتيالات التي تجري في حمص وقرى الغاب.
بين العدالة الممكنة والعدالة المؤجلة
في نهاية المؤتمر، أعلن رئيس اللجنة تمديد عملها شهرين إضافيين “لضمان تحقيقٍ منصفٍ ينصف الجميع”،
والتمديد، رغم مبرراته التقنية، يكشف عن إحساس ضمني بأن الحقيقة لم تُكتشف بعد، وأن الوصول إليها يتطلب أكثر من الشجاعة القانونية؛ إرادة سياسية لتحمّل تبعاتها.
“الحقيقة” هي أكثر ما تخشاه الأنظمة الهشّة، لأنها لا تُعيد تعريف استقرارها بل تُهدّد بقاءه نفسه، وهذا ما تبدو اللجنة تلامسه اليوم، فالتحقيقٌ يسير على حافة الانهيار بين الاعتراف والإنكار، والقانون كإجراء شكلي والسياسة كقيد فعلي، والرغبة في ترميم الثقة والخشية من أن يؤدّي كشف الحقيقة إلى انهيار ما تبقّى من شرعية االسلطة.
نحو عدالة ما بعد الخوف
يبقى المؤتمر الصحفي للجنة التحقيق في أحداث السويداء لحظة فارقة في مسار السلطة السورية نحو ما يمكن تسميته بـ”العدالة المراقَبة”، فهي إجراءات تضطر لممارستها تحت ضغط المجتمع الدولي.
بين ثنايا هذا الحذر، لا تظهر ملامح تحوّل حقيقي فهو محاولة لإعادة تدوير الخطاب الرسمي بعباراتٍ جديدة، فالسلطة لا تشرح ما كانت تنفيه، بل تعيد صياغة الإنكار في قالب قانوني أكثر تهذيبا، فيما تظلّ المؤسسة الأمنية بمنأى عن المساءلة الفعلية، إذ تُحاكم عناصرها الصغرى لتبرئة بنيتها الكبرى.
لا يمكن اعتبار هذا الشكل من التحقيق خطوة نحو شرعية جديدة، بل آلية ضبط رمزية تهدف إلى امتصاص الغضب الداخلي وتهدئة النقد الخارجي دون تغيير جوهري في بنية المحاسبة أو موازين القوة.
وتبقى “العدالة غائبة ما دامت السلطة لا تُدان من داخلها، بل تتظاهر بالمراجعة كي تضمن استمرارها، محافظة على حدود دقيقة بين الاعتراف التكتيكي والإنكار البنيوي.
لجنة التحقيق في أحداث السويداء: العدالة المؤجلة والإنكار المنظّم
ملخص التقرير
خرج رئيس لجنة التحقيق في أحداث السويداء، القاضي حاتم النعسان، في مؤتمرٍ صحفي بدمشق ليقدّم رواية الدولة عن واحدة من أكثر المحطات دموية والتباسا في الجنوب السوري. هذا التحليل يتناول أبعاد هذا التحقيق وآليات عمله وتداعياته على مستقبل العدالة والمحاسبة في سوريا.
أبرز النتائج والتحديات
التحول الرمزي
لأول مرة تستخدم جهة رسمية في دمشق مقاطع وسائل التواصل الاجتماعي كأدلة في إجراءات قانونية ضد عناصر أمنية وعسكرية.
التحدي الميداني
اللجنة غير قادرة على دخول مدينة السويداء بالكامل، مما يجعل التحقيق ناقصًا في الجغرافيا والتمثيل.
المسار الإنساني
التعاون مع وزارتي التعليم العالي والتربية لتسهيل حضور طلاب السويداء امتحاناتهم في دمشق.
العدالة المراقبة
العدالة تمارسها السلطة وهي تراقب نفسها، مع الحفاظ على حدود دقيقة بين الاعتراف التكتيكي والإنكار البنيوي.
الاستنتاجات الرئيسية
يبقى المؤتمر الصحفي للجنة التحقيق في أحداث السويداء لحظة فارقة في مسار الدولة السورية نحو ما يمكن تسميته بـ”العدالة المراقَبة”، فهي عدالة تمارسها السلطة وهي تراقب نفسها، وتخشى من انعكاس الصورة عليها.
بين ثنايا هذا الحذر، لا تظهر ملامح تحوّل حقيقي فهو محاولة لإعادة تدوير الخطاب الرسمي بعباراتٍ جديدة، فالدولة لا تشرح ما كانت تنفيه، بل تعيد صياغة الإنكار في قالب قانوني أكثر تهذيبا، فيما تظلّ المؤسسة الأمنية بمنأى عن المساءلة الفعلية، إذ تُحاكم عناصرها الصغرى لتبرئة بنيتها الكبرى.

