زيارة وفد البنك الدولي وصندوق النقد إلى دمشق في تشرين الثاني 2025 لم تكن شأنا تقنيا كما حاولت البيانات الرسمية تقديمها، فاللغة الدبلوماسية الباردة التي تحدّثت عن “برنامج انخراط مكثف” و”دعم فني لتقوية البيانات الاقتصادية”، تقفز فوق المحاولة الجديدة لإعادة هندسة الاقتصاد السوري بعد عقد ونصف من الانهيار، وسط واقع اقتصادي يشبه حقل أنقاض أكثر منه دولةً قابلة للإصلاح.
البيانات التي صدرت عن البنك الدولي في تقريره الأخير Syria Macro-Fiscal Assessment 2025 تُظهر صورة اقتصاد فقد أكثر من 70% من قيمته الاسمية منذ عام 2011، لينكمش الناتج المحلي الإجمالي من نحو 76 مليار دولار إلى 21.4 مليار دولار في عام 2024، أما التقديرات الجديدة فتتحدث عن نمو متواضع لا يتجاوز 1% في 2025، بعد انكماش بنسبة 1.5% في 2024.
تبدو هذه الأرقام كأنها وعود على ورق أكثر مما هي إشارات إلى انتعاش فعلي، إذ لا يمكن بناء نمو مستدام فوق اقتصاد فقد بنيته الإنتاجية والمؤسسية.
معادلة “الانخراط المكثف”
الاتفاقات التي جرى التوصل إليها خلال زيارة بعثة الصندوق إلى دمشق (10–13 تشرين الثاني 2025) تتضمن أربعة محاور رئيسية:
- تحسين قاعدة البيانات الوطنية من خلال إعادة بناء الحسابات القومية والنظام الإحصائي المتهالك.
- إصلاح النظام الضريبي عبر تشريع جديد يهدف لتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات العامة.
- إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي بغية استعادة الاتصال مع النظام المالي العالمي.
- دعم إعداد موازنة 2026 وضبط العجز المالي الذي يُقدّر حاليا بنحو 8% من الناتج المحلي.
كما أعلن البنك الدولي عن حزمة دعم فني وتمويلي بقيمة تقارب مليار دولار على ثلاث سنوات، تُخصّص لإصلاح المالية العامة وتحديث القطاعات الإنتاجية.
لكنّ هذه المليارات ليست سوى “إشارة ثقة” رمزية، فتكلفة إعادة إعمار البنية التحتية وحدها تُقدّر بنحو 216 مليار دولار، وهذا الفارق الهائل بين الحاجة والإمكان يضع الإصلاحات الموعودة أمام اختبار قاسٍ، فهل يمكن لتمويل محدود وإصلاحات تقنية أن تغيّر مسار اقتصاد انهار في عمقه الاجتماعي والمؤسساتي؟
قراءة في مؤشرات الهشاشة
المعطيات تُظهر أن الاستثمار كنسبة من الناتج لا يتجاوز7.6% (مقارنة بـ19% قبل 2011)، وأن معدل البطالة ما زال بين 35 إلى 40% من القوة العاملة، أما التضخم فيدور حول100% سنويا، وهو ما يعني أن كل مكسب اسمي في النمو سيتآكل قبل أن يشعر به المواطن.
الاقتصاد غير الرسمي الذي يقدَّر أنه ما بين 20 إلى 40% من النشاط الاقتصادي الحقيقي؛ يُشكّل الظل الذي يبتلع كل محاولات التنظيم والجباية، ما يجعل أي إصلاح ضريبي صادق في ظاهره مهدّدا بأن يتحول إلى أداة ضغط إضافية على الفئات القليلة التي ما تزال ضمن الاقتصاد الرسمي، بينما يبقى الجزء الأكبر من الثروة يدور في دوائر لا تلمسها القوانين.
منطق الإصلاح في غياب الدولة
لغة البنك الدولي وصندوق النقد بما تحمله من مصطلحات “الانضباط المالي” و”تحسين الكفاءة” و”إعادة هيكلة القطاع العام”؛ تفترض وجود دولة قادرة على التنفيذ، وجهاز إداري يطبّق السياسات ويحاسَب عليها، لكن الواقع السوري مختلف جذريا، فالدولة لم تعد تحتكر القرار الاقتصادي أو المالي، والاقتصاد يعمل في الغالب عبر شبكات غير رسمية، بعضها مرتبط بأجهزة أمنية أو مصالح عسكرية، وبعضها متصل برؤوس أموال في المهجر.
في هذا السياق، يصبح الحديث عن تقشف مالي أو تحرير ضريبي بلا قاعدة اجتماعية أو مؤسسات رقابية، أقرب إلى عملية نقل منظمة للخسائر نحو الطبقات الدنيا.
التنبؤ بالمؤشرات: ما الذي ينتظر سوريا؟
إذا أخذنا السيناريو الذي يعرضه البنك الدولي على محمل الجد، فإن السنوات الثلاث المقبلة ستشهد:
- نموا حقيقيا بين 1 و1.5% سنويا (أي شبه ركود).
- استمرار التضخم في حدود 60–80% بفعل ضعف العملة وقصور الإنتاج المحلي.
- تحسّن طفيف في الإيرادات الضريبية (من 5 إلى 8% من الناتج) مع فرض ضرائب غير مباشرة جديدة.
- تراجع العجز المالي من 8% إلى قرابة 5% إذا التُزم بإصلاحات الدعم والضرائب.
- توسّع محدود في الاستثمار العام الممول من منح خارجية لا تتجاوز 300–400 مليون دولار سنويًا.
لكنّ هذه المؤشرات الإيجابية مشروطة بسيناريو “استقرار سياسي وأمني نسبي”، وهو شرط لا يزال هشا، أي انزلاق في سعر الصرف أو تجدد للعقوبات أو اضطراب أمني سيعيد الاقتصاد فورا إلى الانكماش.
السيناريوهات البديلة: مستقبل الاقتصاد السوري بين الهشاشة والانكماش
إذا كان السيناريو الرسمي يفترض استقرارا سياسيا نسبيا ومرونة في سعر الصرف، فإن الواقع الميداني والسياسي يجعل هذا الافتراض هشا، فكل المؤشرات البنيوية من ضعف القاعدة الإنتاجية، واتساع الاقتصاد غير الرسمي، وانقسام السيطرة الإدارية، وانعدام الثقة المجتمعية؛ تشير إلى أن سوريا أقرب إلى سيناريو انكماش ممتدّ منه إلى استقرار متوسط الأجل.
في هذا السيناريو السلبي، يمكن توقّع ما يلي خلال الأعوام الثلاثة المقبلة (2026–2028):
- تراجع النمو الحقيقي إلى ما دون الصفر في حال استمرار تآكل القوة الشرائية وانخفاض تحويلات الخارج.
- ارتفاع التضخم إلى 100–120% سنويا نتيجة استمرار ضعف العملة ونقص العرض السلعي، خصوصًا في حال توسيع الكتلة النقدية لتمويل العجز.
- تآكل الإيرادات الضريبية الفعلية بسبب توسّع التهرب وتراجع النشاط الرسمي، رغم التشريعات الجديدة.
- زيادة الدين المحلي عبر إصدار أدوات دين حكومية داخلية، ما يعمّق دوامة التضخم.
- تراجع سعر الصرف إلى مستويات قياسية (ربما تتجاوز 50 ألف ليرة للدولار في السوق الموازية) في ظل غياب احتياطيات نقدية كافية.
- هروب إضافي لرأس المال البشري والمالي، إذ لا يتوقع المستثمرون استقرارا طويل الأجل أو بيئة قانونية ضامنة.
هذه الصورة القاتمة ليست تخمينا، بل مستخلصة من الاتجاهات الموضوعية في البيانات: انخفاض الاستثمار إلى 7% من الناتج، تضخم مستمر فوق 90%، وانكماش في القطاعات الإنتاجية مقابل توسّع في المضاربة المالية والعقارية.
لكن يمكن أيضا تخيّل سيناريو إيجابي محدود وإن كان مشروطا بمتغيرات نادرة الحدوث في البيئة السورية الحالية:
- تحسّن تدريجي في العلاقات الإقليمية مع دول الخليج وتركيا، ما يفتح المجال لتدفّقات استثمارية صغيرة (100–200 مليون دولار سنويا) في قطاعات البنية التحتية والطاقة.
- تحرير نسبي في التجارة البينية مع العراق ولبنان والأردن، ما يزيد الصادرات بنحو 10–15% خلال ثلاث سنوات.
- استقرار أمني جزئي في المدن الكبرى يسمح بعودة نشاط الخدمات والسياحة الداخلية.
- مساعدات إنسانية وتحويلات المغتربين قد تضخّ ما بين 3 إلى 4 مليارات دولار سنويا في الاقتصاد غير الرسمي، وتؤمّن درجة من السيولة الاجتماعية المؤقتة.
ومع أن هذه العوامل يمكن أن تدفع النمو إلى نحو 2 إلى 2.5% سنويا بحلول 2028، إلا أنها تظلّ قصيرة الأمد، ولا تمسّ بنية الاقتصاد الريعي – الاحتكاري التي تعيق أي تحول هيكلي حقيقي، فبدون قضاء مستقل، ومؤسسات رقابية فعالة، واستقلال جزئي في السياسة النقدية، ستظل الإصلاحات الخارجية معلّقة في الفراغ، وأشبه بترميم واجهة بناء مهدّم.
بين السياسة والاقتصاد
من الخطأ النظر إلى اتفاقات البنك الدولي والصندوق كعملية تقنية خالصة، فهي جزء من معادلة سياسية جديدة تحاول من خلالها المؤسسات الدولية إعادة تطبيع العلاقة مع حكومة ما بعد الحرب، ضمن إطار “استقرار أدنى” يضمن الحد الأدنى من السيطرة على الموارد.
في المقابل، يبدو أن الحكومة السورية الحالية تتعامل مع هذه الشراكة كوسيلة لإعادة التموضع دوليا أكثر من كونها التزاما فعليا بالإصلاح، فالمطلوب ليس مجرد قانون ضريبي جديد، بل تحول في بنية الحوكمة الاقتصادية من شفافية في الخصخصة، واستقلال نسبي للمصرف المركزي، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
اقتصاد على الحافة
يبدو أن سوريا تدخل مرحلة جديدة تُختبر فيها الوصفات التقليدية لصندوق النقد في بيئة غير تقليدية إطلاقا، فالبلد الذي يعيش على اقتصاد ظل متشابك، وبلا طبقة وسطى قادرة على امتصاص الصدمات، يواجه الآن وصفة تقشفية “مسبقة الدفع”، وإذا كانت التجربة السابقة مع “اقتصاد السوق الاجتماعي” (2005-2011) انتهت بانفجار اجتماعي، فإن تكرارها اليوم فوق أنقاض دولة يؤدي إلى نتائج أكثر قسوة.
مليار دولار من المنح لا يمكن أن تُصلح اقتصادا فقد 216 مليارا من أصوله، لكنّ السؤال الحقيقي ليس في حجم المال، بل في من يملك القرار وكيف يُوزّع العبء، وما لم تُبنَ سياسة اقتصادية على قاعدة من العدالة الاجتماعية والشفافية، ستظلّ كل برامج الإصلاح مجرد إعادة ترتيب على سطح الركام.
إن سوريا اليوم ليست بحاجة إلى “إعادة توازن ماكرو-اقتصادي”، بل إلى إعادة تأسيس للعقد الاجتماعي الذي يمنح للأرقام معنى، وللاقتصاد مستقبلا يتجاوز الإحصاءات إلى حياة يمكن التنبؤ بها.
سوريا والبنك الدولي: بين وعود الاستقرار وحدود الاقتصاد المنهار
تطور الناتج المحلي الإجمالي (بالمليار دولار)
مؤشرات الاقتصاد الكلي
مقارنة مع ما قبل الأزمة (2011)
التوقعات متعددة السناريوهات
مقارنة السيناريوهات المستقبلية (2026-2028)
سيناريو البنك الدولي (الأساسي)
• نمو حقيقي 1-1.5% سنوياً
• تضخم 60-80% سنوياً
• تحسن طفيف في الإيرادات الضريبية (5-8% من الناتج)
• تراجع العجز المالي إلى 5%
• توسع محدود في الاستثمار العام
السيناريو الإيجابي (مشروط)
• نمو حقيقي 2-2.5% سنوياً بحلول 2028
• تحسن في العلاقات الإقليمية واستثمارات محدودة
• تحرير تجاري مع الجوار يزيد الصادرات 10-15%
• استقرار أمني جزئي يعيد نشاط الخدمات
• مساعدات وتحويلات 3-4 مليار دولار سنوياً
السيناريو السلبي (الأكثر ترجيحاً)
• تراجع النمو الحقيقي إلى ما دون الصفر
• تضخم 100-120% سنوياً
• تآكل الإيرادات الضريبية الفعلية
• هروب إضافي لرأس المال البشري والمالي
• تراجع سعر الصرف إلى 50 ألف ليرة/دولار

