عدالة بلا عنوان.. تحوّل محاكمة مجازر الساحل في سوريا إلى طقس سياسي لإغلاق الجرح

ليس هناك عدالة تُبنى على الفراغ، ولا محكمة تستطيع أن تحكم بالحقّ حين تُقام في مكان غير مكان الجريمة، ففي حلب، المدينة التي شهدت ما يكفي من المآسي لتعرف الفرق بين العدالة والتمثيل المسرحي، انعقدت محاكمة المتهمين في مجازر الساحل السوري، وما عُرض أمام الكاميرات غابت عنه العدالة، وأصبح نموذجا في هندسة الذاكرة القانونية لتُبقي الجرح مفتوحا، بينما تدّعي أنها تعالجه.

العدالة، كما كتب أستاذ قانون دولي بجامعة ميدلسبِكس بلندن، وليام شاباس، في أكثر من موضع، ليست فعلا شكليا يُرضي القانون، بل أخلاقي يُواجه السلطة حين تكون هي الجلّاد، وما جرى في حلب كان نقيض هذا المبدأ تماما، فالجريمة وقعت في الساحل، والمتهمون أُوقفوا في إدلب، والمحكمة انعقدت في حلب، والقرار سيصدر من دمشق.

هذا التوزيع الجغرافي ليس صدفة إجرائية، بل خريطة سياسية للتهرّب من المسؤولية عبر توزيع الدم كي يتبدّد أثره، وتوزيع العدالة كي تفقد عنوانها.

المدينة التي نُفيت منها العدالة

في هذه المحاكمة، تمّ اختراع “عدالة متنقّلة” لا تجرؤ على الوقوف في المكان الذي نزف، واختيار حلب كان مقصودا لتجريد الساحل من حقّه الرمزي في أن يرى جلّاديه وجها لوجه، فالعدالة البعيدة مكانيا تصبح بالضرورة بعيدة وجدانيا، فتُدار من غرف مغلقة لا تعرف رائحة الأرض التي احمرّت بالدم.

حجّة “الاعتبارات اللوجستية” التي تذرّعت بها السلطات، تكشف ما هو أعمق من مجرد خلل إداري، فهي اعتراف بأنّ العدالة تخضع لمنطق السجن لا لمنطق الحق، أي أنّ المكان الذي يُتاح فيه احتجاز المتهمين هو الذي يُملي مكان المحكمة، وليس المكان الذي يُلزم الذاكرة بأن تنطق، بهذا المعنى تحوّلت العدالة إلى وظيفة من وظائف إدارة السجون، لا وظيفة من وظائف الضمير العام.

ميزان العدل الزائف

القاعة كانت مسرحا لرمزية مقيتة؛ أربعة عشر متهما، نصفهم من “الفلول” ونصفهم من وزارة الدفاع، وهذه القسمة التي قُدّمت كأنها ميزان عدل، ليست سوى محاولة للتنصّل من السؤال الأخطر: من الذي أمر؟ من الذي وقّع؟ من الذي أدار؟

صُمّم هذا التوازن الرقمي بعناية ليخلق وهما بالمساواة، وكأنّ الدم توزّع بعدالة بين الجانبين، أو المأساة كانت نزاعا متبادلا لا مجزرة من طرف واحد، فهذا الإجراء هندسة رمزية للذنب، تُحوّل العدالة إلى معادلة حسابية خالية من الروح والضمير.

هذا التوازن المصطنع يُخفي جوهر الحقيقة بأن الجريمة لم تكن فعلا فرديا أو انتقاما عشوائيا، بل سلسلة من القرارات تبدأ من رأس الهرم وتنتهي عند اليد التي ضغطت الزناد، وحين يُوزَّع الاتهام بهذه الطريقة، يُمحى الرابط بين السياسة والعنف، وتتحوّل المحاكمة إلى لوحة حسابية تتقاسم فيها السلطة المسؤولية مع “فلولٍ” بلا وزن حقيقي، ليبدو المشهد عادلا في الظاهر ومفخخاً في المضمون.

العدالة الحقيقية لا تقيس التوازن بين عدد المتهمين، بل بين الحقيقة والإنكار، بين من صاغ القرار ومن نفّذه، بين من صمت عن الدم ومن أراقه، أما هذه القاعة، فقد بدت كأنها صُمّمت لتكافئ التوازن لا الحقيقة، وتُظهر المأساة كخلافٍ داخلي يمكن حله بالتماثل، لا كجريمة يجب أن تُدان بالاسم والمسؤولية.

الزمن كأداة لتقييد الحقيقة

ما سُمّي بـ”العلنية” كان السخرية الأشد مرارة، فالكاميرات التي وُضعت في القاعة لم تكن لتكشف الحقيقة، بل لتُراقب حدود ما يُسمح أن يُرى، فالوجوه محجوبة، والهويات مبهمة، والتصوير مقنّن كأنّ العدالة تُبث على قناة رسمية لا على ضميرٍ عام.

تحوّلت العلنية إلى قشرة شفافية تخفي تحتها طبقات من التعتيم، فمن المفترض أن تكون الكاميرا أداة لكشف الجريمة، لكنها استخدمت لحراسة السردية الرسمية، فهي علنية مُصمَّمة بدقّة لتُشبع الفضول دون أن تُغذي الوعي، وتُظهر الحركة لا المضمون، وتُبقي المتفرج داخل مشهدٍ مرسوم سلفا، ففي هذا المسرح المرئي، تُصبح الصورة جدارا جديدا للصمت، وتتحوّل الشفافية إلى وسيلة لإخفاء ما لا يجوز أن يُرى، لا ما يجب أن يُعرف.

الزمن كأداة لتقييد الحقيقة

العدالة التي تُعلن قبل يومين من موعد الجلسة لا تريد أن تُحاكَم، بل أن تُستعرض، فالإعلان المتأخر ليس سهوا إداريا بل تقنية مقصودة لشلّ الفعل القانوني، فلا وقت لتوكيل محامين، ولا لإعداد المرافعات، ولا حتى لمراجعة الأدلة.

في محاكم القضايا الكبرى يحتاج الدفاع إلى أسابيع لتحليل وثيقة واحدة، فكيف حين تكون القضية مجزرة؟ يومان لا يكفيان لترتيب دفاع قانوني في جريمة عادية، فكيف في واحدة من أفظع المجازر في تاريخ سوريا الحديث، حيث يتقاطع الدم بالسياسة، والشهادة بالتهديد؟

ضغط الزمن ليس عرضا عابرا، بل أداة لتقليص المساحة الممنوحة للحقيقة، فكلما ضاق الوقت، تقلّص هامش المساءلة، واتسع نطاق الرواية الرسمية، فالعدالة المستعجلة ليست عدالة مضغوطة فحسب، بل عدالة مُعَدّة مسبقا، تتحرّك ضمن جدول سياسي لا ضمن منطق قضائي، فتتحوّل السرعة إلى شكل جديد من أشكال القمع؛ قمعٍ لا يُمارَس بالسلاح، بل بالساعة، حيث يُستبدل التحقيق بالتوقيت، ويُختزل الحقّ في فقرةٍ تُتلى ثم تُطوى.

ذكاء اصطناعي… وغباء عدلي

في لحظة بدت كأنها ذروة العبث، قال أحد المتهمين، وهو ضابط من وزارة الدفاع يظهر في مقطع مصوّر وهو يُعدم أشخاصا جاثين، إن الفيديو “ذكاء اصطناعي”، لكنّ المأساة لم تكن في الذريعة، بل في تلقّي القاضي لها بلا ارتباك، بلا تفنيد ومساءلة.

لم تُطلب خبرة تقنية، ولم يُستدعَ خبير بصري، ولم يُجرَ أي اختبار للمصداقية، وتحوّلت عبارة “ذكاء اصطناعي” إلى رخصة للنجاة من الدم، وإلى وسيلة لمسح صورة الإعدام من الذاكرة القانونية، وهذه الشكل من المحاكمات هو نموذج من العدالة التي تُحاكم الصورة وتترك الفعل، فلا تملك الشجاعة لمواجهة الأدلة، وتتحوّل إلى مؤسسةٍ لتطهير الضمير، لا لمحاسبة الجناة.

بدت محكمة حلب كأنها طقس سياسي، لا إجراء قضائي؛ حفل رمزي لتبرئة الدولة من ذنبها الأخلاقي، أكثر مما هي محاولة لإنصاف الضحايا، فهي تُعيد تمثيل الجريمة نفسها، ولكن على مستوى رمزي، فالجلاد الذي أعدم الضحايا بالرصاص، يُعدمهم الآن بالكلمة، والقاضي الذي يفترض أن يكون حارس الحقيقة، يشارك في إعادة دفنها.

العدالة هنا لا تُبنى، بل تُختزل إلى مشهدٍ يُرضي الكاميرا ويُخدّر الذاكرة العامة. إنّها لحظةٌ تذكّر بمحاكم صربيا والبوسنة في تسعينيات القرن الماضي، حيث استُخدم القضاء أداةً لتلميع صورة الدولة، لا لمحاسبة قاتليها.

غياب الضحايا… وإدانة الدولة

غاب عن المحكمة صوت أهل الساحل، فلم يُدعَ أحد من ذوي الضحايا لحضور المحاكمة، ولم يُسمح لهم حتى بمتابعتها بكرامة، وكأن العدالة لا تخصّهم، فهم مجرد هامش في رواية تُكتب بيد الجلاد نفسه، وهذا الغياب جريمة ثانية عبر حرمان الضحية من حقّها في الشهادة، وحرمان الذاكرة من حقّها في التوثيق.

هذه المحاكمة جزء من مسار أوسع من إعادة إنتاج السلطة للشرعية عبر أدوات العدالة، عبر نقل المحكمة من الساحل، وتوزيع المتهمين، وحجب الوجوه، وقبول الذرائع العبثية… وكلها حلقات في عملية واحدة في هندسة النسيان، وطريقة للدولة في القول إنّها “فعلت ما عليها”، دون أن تفعل شيئا في الجوهر، فالعدالة الشكلية تُخدّر الجرح، لكنها لا تلئمه، والذاكرة السورية، التي جُرحت في الساحل، تُعاد الآن إلى القفص، محكومةً باسم القانون.

حين يتحوّل القضاء إلى مسرح للسلطة، يصبح كل حكم إدانة جديدة للعدالة نفسها، وفي حلب، خُرقت العدالة مرتين، الأولى حين نُقلت بعيدا عن مسرح الجريمة، والثانية حين صمتت عن الحقيقة، فما حدث محاكمة لفكرة العدالة ذاتها.

الساحل ما زال ينزف، والمحكمة في حلب لا تسمع إلا صدى نفسها، وفيما بين الدم والصمت، يبقى السؤال معلقا: من سيحاكم العدالة حين تُصبح جزءا من الجريمة؟

عدالة بلا عنوان

عدالة بلا عنوان

رحلة العدالة الضائعة بين الساحل وإدلب وحلب ودمشق

مقارنة بمحاكم جرائم الحرب العالمية

مستوى الشفافية

محطات العدالة الضائعة

الساحل

الجريمة

ارتكبت المجزرة في الساحل، لكن الضحايا منعوا من حضور المحاكمة. العدالة تبدأ بعيداً عن موقع الألم.

إدلب

الاعتقال

تمت عمليات الاعتقال في إدلب، بعيداً عن موقع الجريمة الأصلي، مما يزيد من تعقيد رحلة العدالة.

حلب

المحاكمة

انعقدت المحاكمة في حلب بذريعة “اعتبارات لوجستية”، مع منع وسائل الإعلام من الاقتراب من المتهمين.

دمشق

القرار

صدر القرار النهائي من دمشق، مكملاً دائرة العدالة الممزقة على أربع محطات متباعدة.

الاستنتاج

ما جرى في حلب لم يكن محاكمة بقدر ما كان طقساً تطهيرياً لمؤسسة تريد أن تبرئ نفسها من عبء الدم. العدالة هنا مورست كإجراء شكلي، مثل صلاة تقام بلا إيمان.

“العدالة الحقيقية لا تحتاج كاميرا لتثبت وجودها، بل إلى شجاعة النظر في الوجوه، وإلى قاضٍ يسأل، وإلى مؤسسة لا تخاف من مرآتها.”

في نهاية المطاف، بقي سؤال معلق فوق البلاد: هل يمكن للعدالة أن تقام على أرض تخاف من ظلها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *