من اختراق أيار 1967 إلى استعراض 2025: من يملك سماء المشرق؟

في أيار من عام 1967، قبل أسابيع قليلة من اندلاع حرب حزيران، اخترقت مقاتلتان سوريتان من طراز “ميغ 21” المجال الجوي “الإسرائيلي” في عملية جريئة نُفذت على ارتفاع منخفض، لتصوير مواقع تمركز القوات “الإسرائيلية” في الجليل ومحيط بحيرة طبريا، كانت تلك اللحظة أقرب ما تكون إلى تحد رمزي لهيبة “إسرائيل” الجوية، التي كانت آنذاك في طور بناء أسطورتها كقوة لا تُقهر.
اليوم، بعد ما يقارب ستة عقود، شهدت السماء نفسها مشهدا معاكسا؛ أكثر من 15 طائرة “إسرائيلية” من طرازات F-35 وF-16  وF-15  تجول بحرية فوق كامل الجغرافيا السورية، من الجولان إلى اللاذقية، دون أن تُطلق طلقة واحدة أو تجد من يعترض طريقها.
بين الحادثتين، تمتد مسافة زمنية تروي قصة الشرق الأوسط المعاصر، وكيف تحوّل الهواء من مساحة مغامرة إلى فضاء للهيمنة، وكيف صارت السماء مرآة صافية لانكسار موازين الأرض.

1967: حين كان الهواء أفقًا للمخاطرة

في تلك المرحلة من التاريخ، كانت السيادة الجوية في المشرق مفهوما هشا لكنه مفتوح على الاحتمالات؛ فسلاح الجو السوري، المدعوم سوفييتيا والمتحفّز أيديولوجيا، كان يرى في كل اختراق حالة رمزية “لتحطيم أسطورة التفوق الإسرائيلي”.

كانت الطلعة الجوية فوق الجليل في أيار 1967 أكثر من مجرد استطلاع؛ فهي إعلان بأن السماء ليست ملكا مطلقا لـ”تل أبيب”، وأن الإرادة السياسية يمكن أن تترجم إلى عمل ميداني رغم الخطر.

في المقابل، تعاملت “إسرائيل” مع تلك الحادثة كصفعة على وجه العقيدة الأمنية التي بنتها بعد 1956، وردّت بتكثيف دورياتها الجوية فوق الجولان، وأطلقت مشروعا لتطوير منظومات الإنذار المبكر والرادارات الأرضية، وهي البذرة التي ستنضج لاحقا لتتحول إلى أحد أعمدة الردع الإسرائيلي.

حينها، كانت السماء ساحة صراع بين شجاعة فردية وخوف المؤسسات، فالطيار السوري كان يغامر بحياته في فضاء مفتوح، بينما كانت “إسرائيل” تبني هندسة الخوف واليقظة الدائمة.

2025: السيادة الجوية كأداة للهيمنة السياسية

ما حدث في سماء سوريا في تشرين الثاني 2025 لم يكن مجرد استعراض عسكري، بل بيان سياسي مكتوب بخط الطائرات النفاثة.
المقاتلات “الإسرائيلية” رسمت مسارا دقيقا يمرّ فوق مناطق النفوذ التركي والروسي والسوري معا، فلم يحدث أي اشتباك أو رد فعل عسكري، لكن الرسالة كانت أوضح من أي خطاب دبلوماسي: “من يملك السماء، يملك الكلمة الأخيرة”.

هذه العملية حملت في كل مرحلة من مسارها رسالة مختلفة: إلى أنقرة تذكير بأن نفوذها في شمال سوريا هش ومراقَب، وإلى موسكو تحقير مبطّن لقدرة منظوماتها الدفاعية، وإلى دمشق إنذار بحدود السيادة الممكنة.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى: ففي حين كانت مقاتلتان سوريتان عام 1967 تجازفان لتثبتا الوجود، فإن خمس عشرة مقاتلة “إسرائيلية” عام 2025 تحلّق لتثبت الغياب الكامل للآخرين.

من الرمزية إلى الهيمنة: تحوّل فلسفة القوة

إن السماء لم تعد “فضاءً رمزيًا للبطولة”، بل أصبحت أداة لإنتاج النظام، ففي 1967، كان الصراع الجوي تجليا للإرادة، محكوما بالرغبة في تحدي الخوف، أما اليوم، فهو تجل للعجز، حيث تصبح القوة المطلقة وسيلةً لـ”إذلال من لا يملك حتى خيار المقاومة”.

في الماضي، كانت السيادة الجوية تُقاس بالشجاعة والتكتيك، أما اليوم فتُقاس بالصمت الراداري؛ من الذي يُرصد ولا يرد؟ من الذي يرى الطائرة ولا يجرؤ على تشغيل المنظومة؟
تلك هي لغة الردع الجديدة في الشرق الأوسط، أسلوب يقوم على التظاهر بالقوة عبر الفعل الأحادي، وتثبيت الهزيمة عبر مشهد بلا ضجيج.

الدروس المقلوبة من التاريخ

حين نقارن بين العمليتين، تظهر ثلاثة فروقات جوهرية:

  1. طبيعة الفاعل: في 1967 كانت سوريا دولة تمتلك إرادة المبادرة رغم ضعفها التقني، بينما في 2025 بدت محاطة بحلفاء أقوياء، تركيا بالدرجة الأولى ثم روسيا، لكن دون إرادة دفاعية حقيقية.
  2. وظيفة السماء: كانت في الماضي مسرحا للاشتباك الرمزي، أما اليوم فهي مساحة لتكريس النفوذ.
  3. ردّ الفعل: في الحادثة الأولى، جاء الرد الإسرائيلي سريعا ومباشرا، في الثانية، كان الرد الروسي والتركي صمتا يُغني عن البيان.

هذا التحوّل لا يعكس فقط ضعف البنى العسكرية الإقليمية، بل أيضا تآكل فكرة السيادة الوطنية في زمن التعددية الأمنية، فالسوري حتى لا يعرف أي علم يرفرف فوقه؛ علم الدولة أم الحليف، أم طيف الطائرة التي تحلّق في السماء.

السماء كمرآة للخراب الجيوسياسي

حين حلّقت طائرات الميغ السورية في 1967، كانت هناك جبهة عربية مشتركة، وخطاب قومي يحشد الطاقات، وجغرافيا مفتوحة نحو مواجهة كبرى.
أما اليوم، فالمشهد السوري مجزّأ بين أربع سيادات متنازعة: سيادة تركية في الشمال، روسية في الساحل، أمريكية في الشرق، وإسرائيلية في الجنوب والجو.
في مثل هذا التوزيع، لم يعد الفضاء الجوي مجرد أداة للحرب، بل أصبح مؤشرا على تفكك القرار السياسي نفسه.

الجغرافيا حين تتكلم، يصمت التاريخ، وفي سوريا اليوم، السماء تتكلم بوضوح لم تعرفه الأرض منذ عقود، فما لم تستطع الجيوش تغييره، تقوم به الطائرات عبر استعراض صامت يحسم ميزان القوى بلا معركة.

رسالة إلى الحلفاء قبل الخصوم

الطلعة الجوية “الإسرائيلية” الأخيرة لم تكن موجهة إلى دمشق وحدها، بل إلى موسكو وأنقرة أيضا، فمنذ بداية التدخل الروسي في سوريا عام 2015، كان الوجود الجوي الروسي يُقدَّم بوصفه “مظلّة سيادية” للدولة السورية، أما اليوم فهذه المظلّة مثقوبة.
المنظومات الروسية المتطورة من طراز “إس-400” لم تُفعّل، والرادارات اكتفت بالمراقبة، أما تركيا، التي كانت تتباهى بقدرتها على ضبط الشمال السوري، فاكتفت بالصمت.
وهذا الصمت في ليس حيادا بل اعترافا ضمنيا بالتفوق الإسرائيلي، وبالخلل الاستراتيجي في التوازن الإقليمي برمته.

من رياح الحرب إلى فراغ الردع

المثير في المقارنة بين أيار 1967 وتشرين 2025 ليس الفارق التكنولوجي، بل الفارق في المعنى، فحين اخترقت الميغ السورية أجواء “إسرائيل”، كانت الرسالة تقول: “نستطيع أن نصل إليكم ولو للحظة”، أما اليوم، فحين تحلّق الطائرات “الإسرائيلية” فوق اللاذقية، فهي تعلن: “نستطيع أن نأتي متى شئنا، وأنتم لا تملكون حتى لحظة واحدة للرد”.

بهذا المعنى، أصبحت السماء فضاء مملوكا بالكامل لقوة واحدة، لا تتحدى أحدا، لأنها لا تجد من ينازعها أصلًا؛ إنها هيمنة بلا خصوم، وبهذا تفقد الحرب معناها التقليدي، لتصبح مجرد إدارة للفراغ.

السيادة كطيف يتلاشى في الأفق

ما بين الميغ التي اخترقت الجليل عام 1967 والمقاتلات “الإسرائيلية” التي اخترقت اللاذقية عام 2025، مسافة زمنية تختصر رحلة الانحدار العربي من فعل الإرادة إلى فعل الغياب.
في الحادثة الأولى، كان الهواء ساحة للمغامرة، وفي الثانية، صار مسرحا للهيمنة، لكن كلا المشهدين يشتركان في شيء واحد أن من يملك السماء يملك التاريخ، لأن التاريخ في المشرق يُكتب دائما من الأعلى، لا من الأرض.

ولعل أكثر ما يوجز التحول أن الطيار السوري في الستينيات كان يخاطر بحياته ليُثبت أن “إسرائيل” ليست مطلقة اليد.
أما الطيار “الإسرائيلي” اليوم، فيكفيه أن يطير ببطء، بثقة مطلقة، فوق كل المدن التي كانت يوما محور المقاومة، ليثبت أن السماء لم تعد ميدان الشجاعة، بل سجلا مفتوحا للهيمنة.

سماء بلا حدود: تطور ميزان السيادة الجوية بين سوريا وإسرائيل

سماء بلا حدود: تطور ميزان السيادة الجوية بين سوريا وإسرائيل

من ربيع 1967 إلى خريف 2025

أيار 1967

مقاتلتان سوريتان من طراز “ميغ 21” تخترقان المجال الجوي الإسرائيلي في عملية جريئة لتصوير مواقع القوات الإسرائيلية.

الرسالة: “نستطيع أن نصل إليكم ولو للحظة”

تشرين الثاني 2025

أكثر من 15 طائرة إسرائيلية من طرازات F-35 وF-16 وF-15 تجول بحرية فوق كامل الجغرافيا السورية.

الرسالة: “نستطيع أن نأتي متى شئنا، وأنتم لا تملكون حتى لحظة واحدة للرد”

الجانب 1967 2025
طبيعة الفاعل سوريا تمتلك إرادة المبادرة رغم ضعفها التقني سوريا محاطة بحلفاء أقوياء لكن دون إرادة دفاعية حقيقية
وظيفة السماء مسرح للاشتباك الرمزي مساحة لتكريس النفوذ
رد الفعل رد إسرائيلي سريع ومباشر صمت روسي وتركي
نوعية العمليات اختراق محدود ومحفوف بالمخاطر تحليق حر ومطلق دون مقاومة
التوازن الاستراتيجي تحدي رمزي للهيبة الإسرائيلية هيمنة إسرائيلية بلا منازع

الدروس المستخلصة

  • السماء لم تعد “فضاءً رمزيًا للبطولة”، بل أصبحت أداة لإنتاج النظام والهيمنة
  • تآكل فكرة السيادة الوطنية في زمن التعددية الأمنية
  • المشهد السوري مجزأ بين أربع سيادات متنازعة: تركية، روسية، أمريكية، وإسرائيلية
  • المنظومات الدفاعية المتطورة (مثل إس-400 الروسية) لم تُفعّل في مواجهة الطائرات الإسرائيلية
  • تحول السيادة الجوية من قياسها بالشجاعة والتكتيك إلى قياسها بالصمت الراداري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *