وسط التحولات المتسارعة التي أعادت رسم خريطة السلطة في سوريا خلال عام واحد، يبرز خطاب وزير الخارجية السوري الجديد أسعد الشيباني، لا بوصفه تصريحا سياسيا عابرا، بل وثيقة تعكس كيف تفكّر النخبة الحاكمة في مرحلة ما بعد النظام السابق.
في المقابلة التي أجراها مع المجلة في تشرين الثاني 2025، يقدّم الشيباني رواية متماسكة ظاهريا عن “النقلة الدبلوماسية الهائلة” التي جعلت سوريا تنتقل، في أقل من عام، من كيان منبوذ إلى فاعل دولي يلتقي قادة مجلس الأمن الخمسة.
لكن ما من بين سطور في حديثه ليس مسألة نجاح دبلوماسي، فهو يشي ببنية فكرية كاملة لرؤية للسلطة والهوية وللعالم.
الواقعية كعقيدة خلاص
يكرّر الشيباني مفردة “الواقعية” على نحوٍ يكاد يكون عقائديا، فالدبلوماسية السورية كما يصفها “تتعامل بشكل واقعي ومثابر”، و”تستفيد من الأخطاء”، و “تحدّد خطة واضحة”.
غير أن هذه الواقعية ليست وصفا لسلوك سياسي بقدر ما هي تبرير لوجود السلطة الجديدة، فـ”الواقعية” في خطابه تتحول إلى فكرة خلاص جوهرية؛ مقابل “جنون” النظام السابق، و”انغلاقه الأيديولوجي”، تأتي الواقعية الجديدة لتمنح سوريا طريق النجاة.
إنها “دبلوماسية صادقة”، كما يقول، تخلو من “المراوغة والكذب”، فلا تُقدَّم الواقعية كخيار سياسي، بل كـ”فضيلة أخلاقية”، أي أن القيادة الجديدة ليست فقط الأقدر، بل “الأصدق” أيضا، وهنا يختلط السياسي بالمقدّس تماما كما تفعل الأنظمة التي جاءت باسم “التحرير” أو “النهضة” أو “الثورة الدائمة”.
بين الإرادة والشخصنة
في خطاب الشيباني، يتراجع الدور المؤسسي للدولة لصالح إرادة الفرد القيادي، فيتحدث عن “رؤية الرئيس أحمد الشرع”، وعن قرارات تُتّخذ من لحظة إدراك شخصي، وعن لقاءات حاسمة خاضها هو بنفسه مع الروس والأميركيين.
لا نكاد نلمح جهازا دبلوماسيا أو مؤسسة خارجية؛ كل شيء يُدار من قمة رأس الهرم، وكأن الدولة، في وعيه، ليست جهازا بل إرادة متجسّدة، وهنا يطلّ شبح قديم من التراث السياسي السوري؛ تمجيد الفرد، ولكن بلسانٍ جديد.
الخطاب يتخلّى عن شعارات “المقاومة والممانعة”، لكنه يحتفظ ببنيتها النفسية، فالقائد الذي “لا يعرف الهزيمة”، و”يستمر رغم الخسارة”، و”يحوّل الانهيار إلى فرصة”.
هذه اللغة التي تجمع بين الثقة المطلقة والبطولة الفردية تُعيد إنتاج منطق السلطة المطلق، فهي اختراع للسلطوية في ثياب الواقعية.
المصالحة مع الخارج… كاختبار للذات
يقرأ الشيباني التحول في الموقف الدولي من سوريا بوصفه استجابة لـ”صدق الخطاب السوري الجديد”، لكن خلف هذا التبسيط، ثمة مخيال كامل عن علاقة الداخل بالخارج، فالعالم، في نظره، ليس شبكة مصالح معقّدة، بل مسرح اختبار أخلاقي؛ من يثبت جديته وصِدقه، يربح الاعتراف.
هكذا يتحول “الاعتراف الدولي” من نتيجة لمعادلات القوة، إلى مكافأة أخلاقية على حسن السلوك، وفي هذا المنطق نزعة أبوية معكوسة؛ فإذا كان النظام السابق عامل العالم بعدائية متعالية، فإن النظام الجديد يريد أن ينال “رضى الخارج”.
ما يطرحه الشيباني يجعل العالم مرآةً لذاته، لا شريكا في صناعة الواقع، فالسياسة الخارجية في تحليل دول ما بعد الصراع، تصبح وسيلة لإثبات “الأنا الوطنية”، لا أداة لإعادة بناء الدولة.
محو الماضي لتثبيت الحاضر
واحدة من أكثر السمات اللافتة في خطاب الشيباني هي طريقته في التعامل مع التاريخ القريب.
حين يتحدث عن خسارات الثورة بين 2016 و2020، لا يستحضرها بوصفها مأساة وطنية، بل “مرحلة تقييم”، فالانهيار يصبح درسا، والهزيمة تصبح خطوة على طريق النصر.
إنه تطهير رمزي للماضي، شبيه بما تصنعه الحركات التي تصل إلى السلطة بعد عقود من الصراع، فتمحو ما قبلها لتبدأ “من الصفر الأخلاقي”، لكن هذا “الصفر” وهمي، لأنه يقوم على نسيان متعمد للبنيةالاجتماعية والسياسية التي جعلت المأساة ممكنة أصلا.
لا يتحدث الشيباني عن العدالة الانتقالية، أو المصالحة، أو المحاسبة، أو حتى عن الخسائر البشرية، فالماضي لا وجود له إلا كمادة رمزية لإثبات جدارة السلطة الجديدة، وفي هذا النسيان المنظّم بذرة الخطر، فحين تُمحى الذاكرة، تُعاد كتابة الجغرافيا السياسية بممحاة الخلاص.
الشعب ككيان رمزي لا كفاعل
في كامل المقابلة، لا يظهر “الشعب السوري” إلا ككيان متجانس متلق، فيتحدث عن “الشعب اختار التغيير”، و “الشعب يريد أن يرتاح”، و “الشعب رأى المصداقية”.
لا يُذكر التنوع الطائفي، ولا الخريطة الاجتماعية، ولا المعارضة المدنية، ولا مناطق الإدارة الذاتية في الشمال والشرق،هذا توحيد قسري للذات الوطنية يعيد إنتاج مركزية الدولة ويختزل الأمة في إرادة واحدة تمثلها القيادة.
إنه تصور أبوّي للسياسة، يرى في الجماهير مادة يجب توجيهها لا إشراكها، وهذا النمط نتاج لموروث الإمبراطوريات والأنظمة العسكرية التي تعتقد أن “الاستقرار” أهم من المشاركة، وأن “الطاعة” شرط للحكم الرشيد.
الواقعية السياسية في خطاب الشيباني ليست واقعية مؤسسات، بل واقعية السلطة.
روسيا: من عقدة العدو إلى شريك الأمر الواقع
حين يتحدث الشيباني عن العلاقة مع موسكو، يروي قصة مثيرة تكشف طريقة تفكير القيادة الجديدة.
يقول إنهم “حيّدوا” الروس بعد عملية “ردع العدوان”، ثم أجروا مفاوضات مباشرة “وجها لوجه” في معبر باب الهوى، دون وساطة.
المشهد يحمل رمزية كبيرة: المقاومة السابقة تتحول إلى حوار، والعدو العسكري يصبح شريكا محتملاً.
لكن اللغة التي يستخدمها تكشف أكثر مما تُخفي، فهو يتحدث عن الروس كما لو كانوا خصما يجب إقناعه لا شريكا متكافئا، ويصفهم بأنهم “أذكى من الإيرانيين” و”براغماتيون أكثر”، والرسالة المضمرة وهي أن سوريا الجديدة تعرف كيف تتعامل مع الكبار، كيف “تغريهم” بالمصالح لا بالشعارات.
في هذا التحول من الشعور بالمظلومية إلى فنّ الإغواء السياسي، يبرز نمط السلطة الجديدة في دولة صغيرة تحاول أن تتقن لغة القوى الكبرى عبر خطاب عقلاني مصلحي، لكنها تبقى في جوهرها رهينة ميزان القوى نفسه.
الواقعية هنا ليست استقلالا، بل تكيّفا محسوبا مع الهيمنة.
“العقدة الإيرانية” والاصطفاف العربي
حين يُسأل عن إيران، يجيب الشيباني بنبرة قاطعة: الإيراني “لم يعد قادرا على فعل شيء للنظام السابق”، أي أن نفوذه تراجع تلقائيا، وهذا التبسيط يخفي انحيازا استراتيجيا واضحا نحو المحور العربي الغربي، فهو يبدأ حديثه بالإشادة بزيارة السعودية بوصفها “الوجهة الأولى”، ويصف المشاركة في الأمم المتحدة بأنها “رفع العلم” بعد الغياب الطويل.
الخطاب موجّه بلغة رمزية إلى الرياض وواشنطن أكثر مما هو موجه إلى الداخل، فهو يقول نحن الجيل الذي يمكن التعامل معه، لسنا عبئا أيديولوجيا ولا ورقة إيرانية.
وهذا جوهر الواقعية الشرق أوسطية الجديدة، أن تكون قابلا للترويض، منفتحا على الشراكات، لكن دون أن تفقد وجهة السيادة الشكلية، فهي دولة “تُدار” بمرونة، لا دولة “تتحكم” في مصيرها.
الواقعية كسردية وطنية جديدة
يستخدم الشيباني مفردات مثل “الرؤية الواضحة”، و “الصدق”، و “المصلحة الوطنية” و “الانفتاح”؛ ليصوغ منها أيديولوجيا بديلة عن الأيديولوجيا.
فبدل الشعارات الثورية أو القومية، هناك خطاب عقلاني محايد ظاهريا، لكنه لا يقل إقصاء عنها، فمن لا يشارك هذه “الواقعية” الجديدة يُعدّ خارج التاريخ، “أسيرا لمسلمات معلّبة”، حسب تعبيره، فتتحول الواقعية إلى معيار للانتماء الوطني، وتُعاد صياغة الهوية السورية حول مفهوم المصلحة لا الحرية، وحول الاستقرار لا التعدد، فهذه واقعية ما بعد الصراع، التي تُبرر بقاء السلطة لأنها تعرف كيف تتحدث بلغة المصالح الدولية.
بين الإعمار والسيادة
ينهي الشيباني حديثه بتأكيد أن العلاقة مع روسيا ستُعاد “على أساس منتظم ومحترم”، وأن القواعد العسكرية لن تبقى “ديكورا”، فخلف هذه الجمل التقنية يكمن السؤال الجوهري، فهل تستطيع سوريا إعادة بناء نفسها دون أن تتحول إلى ساحة تجريب للمصالح الأجنبية؟
الخطاب يوحي بأن الحل بسيط، فمن يضع المصلحة الوطنية أولا يربح، لكن في واقع ما بعد الحرب، حيث تتقاطع مشاريع الإعمار مع شبكات النفوذ، تبدو هذه الثقة ضربا من البراءة الجيوسياسية.
فالإعمار ليس قرارا سياديا بل حقل نفوذ دولي، والواقعية التي يدعو إليها الشيباني ربما تنقلب على نفسها حين تبدأ حسابات التمويل والضمانات الأمنية.
ولأن خطابه يخلو من أي رؤية للمجتمع، يبدو وكأن الدولة السورية الجديدة سيعاد بناؤها من الخارج إلى الداخل، لا العكس.
الواقعية كأيديولوجيا ما بعد الثورة
لا يقدّم الشيباني برنامجًا سياسيا بقدر ما يقدّم سردية خلاص، فالنظام القديم انهار وجاء جيل جديد يعرف كيف يتكلم مع العالم بلغة العقل.
إنها استبداد واقعي، مطمئن ومفعم بالثقة والبراغماتية، لكنه لا يؤمن بالناس، ولا يعترف بالصدفة، ولا يفسح مكانا للضعف أو التعدد، فالواقعية هنا تفقد تواضعها، وتتحول إلى أسطورة أخرى من أساطير الخلاص، فخطاب أسعد الشيباني، في جوهره، يطرح واقعيةٌ تؤمن أنها خلّصت سوريا من أوهامها، بينما تنسج بهدوء وهما جديدا، لكنه أكثر خطورة على سوريا وبقاءها.
أسعد الشيباني و”واقعية الخلاص”
سردية القوة الجديدة في سوريا – تحليل الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة
“الواقعية في خطاب الشيباني تتحول إلى فكرة خلاص جوهرية؛ تمنح سوريا طريق النجاة”
مكونات خطاب “الواقعية الجديدة”
الواقعية كعقيدة خلاص
يكرّر الشيباني مفردة “الواقعية” على نحوٍ عقائدي، محوّلاً إياها من وصف لسلوك سياسي إلى تبرير لوجود السلطة الجديدة و”فضيلة أخلاقية”.
بين الإرادة والشخصنة
يتراجع الدور المؤسسي للدولة لصالح إرادة الفرد القيادي، مع التركيز على “رؤية الرئيس أحمد الشرع” والقرارات الشخصية.
المصالحة مع الخارج
يُصوّر التحول في الموقف الدولي كاستجابة لـ”صدق الخطاب السوري الجديد”، محوّلاً الاعتراف الدولي إلى مكافأة أخلاقية على حسن السلوك.
تطور الخطاب الدبلوماسي
محو الماضي لتثبيت الحاضر
يتعامل مع التاريخ القريب كـ”مرحلة تقييم” بدلاً من مأساة وطنية، في عملية تطهير رمزي للماضي.
الشعب ككيان رمزي
يظهر “الشعب السوري” في خطابه ككيان متجانس متلقٍ، دون ذكر التنوع الطائفي أو الخريطة الاجتماعية.
روسيا: من عدو إلى شريك
يتحدث عن “تحييد” الروس وتحولهم من عدو عسكري إلى شريك محتمل، مستخدماً لغة تكشف نظرة للروس كخصم يجب إقناعه.
التركيز المفاهيمي في الخطاب
الخاتمة: واقعية تنسج وهماً جديداً
“الواقعية هنا تفقد تواضعها، وتتحول إلى أسطورة أخرى من أساطير الخلاص. خطاب أسعد الشيباني يطرح واقعيةٌ تؤمن أنها خلّصت سوريا من أوهامها، بينما تنسج بهدوء وهما جديدا أكثر اتزانا، لكنه لا يقل خطورة.”

