في ظل اقتصاد لا يزال يعيد تشكيل نفسه بعد أكثر من عقد ونصف من الصراع، تظهر الأزمات القطاعية كأعراض بنيوية تكشف خللا أعمق في آليات صنع القرار الاقتصادي، وفي العلاقة بين الدولة والسوق والمنتج المحلي.
أزمة قطاع الدواجن في سوريا ليست مجرد جدل حول الفروج المحلي والمستورد، بل نافذة تُطلّ منها ملامح السياسة الاقتصادية السورية بكل تناقضاتها؛ من قرارات تتبدّل مع الريح، وأسواق تغرق فيما يفترض أن تكون سلعا وطنية، ومنتجون يواجهون وحدهم قسوة التكاليف بلا درع يحميهم.
من خلف أرقام الأعلاف والمحروقات والدولارات، تتشكل حكاية أكبر لاقتصادٍ مربك تُثقل كاهله قرارات قصيرة النظر، ومصالح متشابكة لا ترى في المزارع إلا رقما في معادلة السوق.
القرار كعرض لمرض هيكلي
حين قررت وزارة الاقتصاد والصناعة السماح باستيراد الفروج التركي المجمّد “للمنشآت الصناعية المرخّصة بصناعة اللحوم”، بدا القرار تقنيا وتنظيميا، لكن المسألة أبعد بكثير من تفاصيل الاستيراد؛ إنها تمسّ توازن السوق المحلي واستدامة قطاع يشغّل أكثر من مليون عامل.
قرار المنع الصادر قبل أشهر، والذي أُلغي لاحقا بشكل جزئي، كان خطوةً نحو حماية الإنتاج المحلي، وضبط الجودة في ظروف مناخية صعبة، إلا أن القرار الجديد أعاد فتح الباب للاستيراد عبر ثغرة “المعامل الصناعية” ما سمح عمليا بتسرب الفروج المستورد إلى الأسواق الاستهلاكية العامة.
هذا التناقض بين القرارين يعكس اضطراب البوصلة الاقتصادية السورية عبر غياب رؤية شاملة تحدّد الأولويات بين تشجيع الإنتاج المحلي وحماية المستهلك واستقرار السوق، والقرار بدا وكأنه ردّ فعل على ضغط السوق، وليس خطة ضمن سياسة اقتصادية متكاملة.
الاقتصاد السوري في مرآة قطاع الدواجن
قطاع الدواجن في سوريا لم يكن يوماً هامشياً، قبل الحرب كان من أبرز القطاعات الزراعية المصدّرة، يتمتع بفائض إنتاجي ويغطي نسبة كبيرة من احتياجات السوق المحلية، لكن الحرب والعقوبات، وانهيار البنى التحتية، جعلت هذا القطاع أحد أبرز ضحايا الاقتصاد المنهك.
اليوم، ومع قفزات التكاليف الإنتاجية بنسبة 300%، يواجه المربّون معادلة مستحيلة؛ تكاليف مستوردة بالدولار، وسوق محلي محدود القدرة الشرائية بالليرة المنهارة.
حين تبلغ تكلفة الكيلوغرام الواحد من الفروج المحلي 1.71 دولارا، في حين يغرق السوق بمنتج مستورد أرخص، فإن النتيجة الحتمية هي انكماش الإنتاج الوطني وتآكل فرص العمل، وخسارة قطاع الدواجن ليست خسارة غذائية فحسب، بل ضربة لاقتصاد ما بعد الصراع الذي يُفترض أن ينهض على دعم الإنتاج المحلي واستثمار الموارد الوطنية.
الاقتصاد السوري بين السيادة الغذائية والانفتاح غير المحسوب
من منظور السياسات العامة، يمكن قراءة هذا الملف ضمن جدلية “السيادة الغذائية” مقابل “الانفتاح التجاري”.
في اقتصاد ما بعد الصراع، عادة ما تكون الأولوية لتأمين الغذاء عبر الإنتاج المحلي، بهدف تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وإعادة تشغيل القوى العاملة، وتقليص الحاجة إلى العملة الصعبة.
لكن في سوريا، تميل السياسات إلى معالجة آنية قصيرة الأمد، تفضّل تدفّق السلع على دعم القطاعات المنتجة، وهذا النمط من التفكير جعل السوق السورية هشة أمام تقلبات الأسعار العالمية، وعاجزا عن حماية موارده الوطنية.
تجربة البوسنة والهرسك بعد الحرب، تُظهر أن غياب السياسات الزراعية الرشيدة بعد النزاع أدّى إلى تدمير البنية الريفية، واستيراد الغذاء بأسعار باهظة رغم خصوبة الأراضي المحلية، والتشابه مع الحالة السورية مقلق، فقرار استيراد الفروج المجمّد ليس مجرد مسألة إدارية، بل علامة على غياب مشروع وطني للسيادة الغذائية.
الفجوة بين القرار والميدان
تُبرز حالة الدواجن فجوةً عميقة بين صانع القرار في دمشق والمنتج في المزرعة.
المربّي يواجه أسعارا فلكية للمدخلات:
- طن العلف بـ 550 دولارا.
- المازوت بـ 180 دولارا للبرميل.
- والأدوية بـ 0.27 دولار للصوص الواحد.
في المقابل، تُتخذ القرارات دون دراسة واقعية للقدرة الإنتاجية أو لهيكل الكلف.
يُمنح الاستيراد امتيازا لمعامل صناعية تمتلك أصلا قدرة مالية على المناورة، بينما يُترك المنتج الصغير يواجه السوق وحده.
لا يمكن اعتبار القرار “اقتصاديا” فقط؛ إنه قرار سياسي بامتياز، يعيد توزيع القوة الاقتصادية من صغار المنتجين إلى كبار المستوردين، تحت غطاء الصناعة، وهذه السياسة تعيد إنتاج اللامساواة في اقتصاد ما بعد الصراع، وتعمّق الفجوة بين الريف المنتج والمراكز التجارية.
الاقتصاد السياسي للقرار
لتحليل السياسات العامة في سوريا، لا بد من تفكيك البنية التي تُنتج القرار نفسه، فاقتصاد ما بعد الحرب يُدار غالبا ضمن منظومة مركزية متشابكة بين الدولة ورجال الأعمال النافذين، حيث تتقدّم المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
القرار المتعلّق بالفروج المجمّد يمكن قراءته في هذا الإطار؛ حيث يتحوّل الاستيراد إلى قناة لنفوذ اقتصادي جديد يربط بين المستثمرين والسلطة، على حساب المنتجين المحليين الذين يفتقرون إلى أدوات الضغط.
هنا، تبرز مشكلة الحوكمة الاقتصادية في سوريا من غياب الشفافية وازدواجية المرجعيات وانعدام المشاركة في صنع القرار، وكلها سمات تُضعف فعالية السياسات العامة وتجعلها أقرب إلى “إدارة أزمات” منها إلى “إدارة تنمية”.
ملامح سياسة عامة بديلة
لو قرأنا المشهد بعين إصلاحية، لوجدنا أن الحل لا يكمن في العودة إلى الحظر أو الانفتاح، بل في بناء سياسة اقتصادية متوازنة تراعي ثلاث أولويات:
- دعم الإنتاج المحلي عبر أدوات واقعية:
- دعم الطاقة للمزارع المنتجة.
- تسهيلات ائتمانية لصغار المربين.
- إعفاءات ضريبية مؤقتة للقطاعات الزراعية المتضررة.
- ضبط الاستيراد ضمن معايير شفافة:
- استيراد مقيّد بالكميات اللازمة للصناعة حصرا.
- رقابة ميدانية على منافذ التوزيع لمنع تسريب المستورد إلى الأسواق العامة.
- ربط السياسات الزراعية بالسياسات الاجتماعية:
- لأن قطاع الدواجن يشكّل شبكة أمان اجتماعي لآلاف الأسر الريفية.
- انهياره يعني توسّع البطالة والهجرة الداخلية، أي تهديد مباشر للاستقرار الاجتماعي.
هذه الرؤية لا تقتصر على قطاع الدواجن؛ إنها نواة لإعادة التفكير في مفهوم “الأمن الاقتصادي” في سوريا ما بعد الحرب، باعتباره جزءاً من إعادة بناء العقد الاجتماعي.
الدروس المستفادة من تجارب ما بعد الصراع
في البوسنة وكوسوفو وجنوب السودان، تبيّن أن القرارات الاقتصادية غير المتناسقة بعد النزاعات يمكن أن تدمّر فرص التعافي لعقود.
المعادلة البسيطة هي أن كل دولار يُصرف على دعم الإنتاج المحلي، يُوفر ثلاثة دولارات لاحقا من الاستيراد والبطالة والفساد، وفي سوريا، حيث الاقتصاد يعتمد على الواردات في معظم القطاعات، يصبح كل قرار استيراد غير محسوب بمثابة تفكيك لبنية الإنتاج الوطني، وليس مجرد تصحيح للسوق.
بين النداء والقرار
لا يمكن فصل قضية الدواجن عن المشهد الأوسع؛ فهي مرآة للاقتصاد السوري في مرحلة انتقالية، يحاول أن يتعافى لكنه ما زال عالقا في شبكة قرارات متناقضة، بلا رؤية وطنية واضحة، فالاقتصاد لا يُشفى بالقرارات، بل بالثقة بين الدولة ومواطنيها، فالثقة، وليس القرار، هي ما ينقص اليوم الاقتصاد السوري، وثمن غيابها يُدفع في كل مائدة طعام، وفي كل مزرعة تُغلق أبوابها بصمت.
الدواجن السورية بين السوق والقرار
قراءة في مأزق السياسات العامة الاقتصادية
مقارنة تكاليف الإنتاج المحلي والمستورد
هيكل تكاليف إنتاج الدواجن
تطور القرارات والسياسات
قطاع الدواجن من أبرز القطاعات الزراعية المصدّرة، يتمتع بفائض إنتاجي
انهيار البنى التحتية، ارتفاع التكاليف بنسبة 300%، تراجع الإنتاج
منع استيراد الدواجن لحماية الإنتاج المحلي وضبط الجودة
السماح بالاستيراد “للمنشآت الصناعية المرخّصة” مما سمح بتسرب المستورد إلى الأسواق
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
بدائل السياسات العامة
مقارنة مع تجارب ما بعد الصراع
غياب السياسات الزراعية الرشيدة بعد النزاع أدّى إلى تدمير البنية الريفية، واستيراد الغذاء بأسعار باهظة رغم خصوبة الأراضي المحلية.
سياسات ما بعد الصراع ركزت على الاستيراد بدعم خارجي مما أدى إلى تآكل القاعدة الإنتاجية المحلية واعتماد دائم على المساعدات.
غياب الرؤية المتكاملة للسياسات الزراعية بعد الاستقلال أدى إلى تدهور الأمن الغذائي رغم وفرة الموارد الطبيعية.
الاقتصاد لا يُشفى بالقرارات، بل بالثقة بين الدولة ومواطنيها
ثمن غياب الثقة يُدفع في كل مائدة طعام، وفي كل مزرعة تُغلق أبوابها بصمت

