حمص تشتعل: جذور التوتر بين البدو وسكان حيّ المهاجرين تكشف هشاشة الأمن السوري

في مدينة يعرفها السوريون باسم “قلب الثورة” و”قلب الحرب” و”قلب الجراح”، عادت حمص اليوم لتدقّ ناقوس خطر لم يبتعد يوما، فبين أزقّة حيّ المهاجرين دوى صباح الأحد صوت الرصاص، معلنا جولة جديدة من التوتر الأهلي، بدا للوهلة الأولى محليا، لكنه يحمل في طياته ما هو أعمق بكثير من خلاف بين سكان ومسلّحين من البدو.

شهد الحيّ هجوما بالأسلحة من قبل مجموعة مسلحة من بدو بني خالد، استهدف مدنيين ومحال تجارية، مخلفا قتيلين وعدة إصابات وأضرارا مادية جسيمة، ومع تدفق الأخبار من المدينة على نحو متسارع ومضطرب، بدا واضحا أنّ ما يجري ليس مجرد حادث أمني عابر، بل امتداد لشبكة معقّدة من التوترات المتراكمة بين الدولة والمجتمع، وبين مكونات اجتماعية لم تتصالح بعد مع آثار الحرب السورية الطويلة.

من رصاص الصباح إلى حظر المساء

منذ منتصف النهار، ومع اتساع رقعة الاشتباك لتطال أحياء الأرمن والعباسية وضاحية الباسل وشارع الستين، تحوّلت حمص إلى مدينة شبه مغلقة، وأطلقت وزارة الداخلية قرارا بفرض حظر تجوال شامل من الخامسة مساء حتى الخامسة صباحا، في محاولة لاحتواء الانفلات الأمني الذي لم تفلح تعزيزات الأمن العام وحدها في ضبطه.

لكن حتى مع دخول العربات المدرعة إلى الشوارع، ظل المشهد مضطربا؛ أصوات إطلاق نار متقطعة، نوافذ مغلقة، متاجر أُحرقت في الأرمن، ومواطنون يهرعون لتخزين الخبز والماء تحسبا لليلة ثقيلة، وكانت المدينة تختنق تحت طبقة كثيفة من الخوف وذاكرة حرب لم تندمل بعد، وأحقاد لم تُغسل بمرور الزمن.

البدو في حمص: جماعة على الهامش

لفهم ما جرى اليوم، لا يكفي النظر إلى تفاصيل الرصاص والسيارات المحترقة، فبنو خالد، القبيلة المنتشرة في بادية حمص وحماة، يعيشون منذ عقود على هامش الدولة والمجتمع، بين الرعي والتهريب والعمل الموسمي، تشكل علاقتهم بالسلطة خيطا رفيعا من الولاء والريبة، وخلال سنوات الحرب، دخل بعض أفرادها في تحالفات مع فصائل المعارضة أو القوى الرديفة للنظام، ما جعلهم في موقع ملتبس بعد انتهاء المعارك الكبرى.

في حيّ المهاجرين، أحد آخر معاقل الاستقرار “النسبي” وسط المدينة، يُنظر إلى وجود البدو أحيانا بعين الشكّ، خاصة مع ارتفاع وتيرة السرقات وحوادث السلاح الفردي، وما جرى اليوم يبدو أنه انفجار لتلك التوترات الكامنة، حيث اصطدمت جماعة تشعر بالإقصاء مع حيّ يتشبّث بهويته وذاكرته الجريحة. فالمهاجرون، الذين دفعوا ثمنا باهظًا خلال السنوات الماضية، لا يرون في “الهجوم” سوى حلقة جديدة من استهداف يستعيد لغة الحرب القديمة: “نحن” و”هم”.

الدولة كقوة غائبة وحاضرة

تعاملت قوات الأمن مع الحدث بخليط من الحزم والارتباك، الانتشار الكثيف للأمن العام والمصفحات العسكرية، والطوق المفروض على المستشفيات والأحياء، يشير إلى قلقٍ عميق لدى السلطة من عودة العنف الأهلي، لا سيما في مدينةٍ كانت ميدان التجربة الأكثر دموية خلال العقد الماضي.

لكن السؤال الأكبر: لماذا انفجر الوضع الآن؟
الجواب لا يكمن فقط في حادث عرضي أو سوء تفاهم بين أفراد، بل في مناخ من التسيّب الأمني وغياب الثقة بين المواطن والأجهزة الرسمية، وفي اقتصاد منهك جعل السلاح وسيلة حياة، وفي بيئة اجتماعية لم تُرمّم بعد خطوطها الفاصلة، فالدولة هنا تبدو كمن يحاول “إدارة التوازن” بين الجماعات بدل فرض القانون، وهو توازن هشّ ينهار عند أول احتكاك.

التحريض الطائفي: النار التي تشتعل في الهامش

تؤكد مصادر ميدانية أنّ دعوات وتحريضا ذا طابع طائفي انتشر على وسائل التواصل خلال ساعات الظهر، بالتزامن مع عودة المسلحين إلى الأحياء، ولم يكن ذلك مفاجئا في مدينةٍ تتقاطع فيها الذاكرة المذهبية مع جراح الحرب، فالانقسام ليس جديدا، لكنه اليوم أكثر قابلية للاشتعال في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وتآكل نفوذ الدولة المركزية.

إن أخطر ما في مشهد اليوم هو عودة “لغة الهوية” لتفسير العنف، فحين يتحوّل السلاح من أداة جريمة إلى وسيلة إثبات للوجود، تغدو كل حادثة مرشحة لأن تتحول إلى مواجهة أهلية، وخطورة ما جرى لا يتوقف عند حدود المدينة، بل يهدد بإعادة إنتاج أشكال المناطق المغلقة؛ أحياء للعلويين، أخرى للسنة، وثالثة للبدو، في بلدٍ لم يعد يحتمل تقسيمات جديدة.

حمص كمرآة لسوريا ما بعد الحرب

ما يجري في حمص ليس سوى انعكاس مضاعف لما يحدث في سوريا عموما؛ دولة تبحث عن هيبتها المفقودة، ومجتمع منهك يفتقد الثقة، واقتصاد يُغذي العنف بدل أن يُسكّنه، منذ سقوط النظام السابق، حاولت السلطة الجديدة تقديم صورة “الاستقرار”، لكن الوقائع على الأرض من السويداء إلى دير الزور، ومن إدلب إلى حمص تقول إن هذا الاستقرار هشّ، قائم على الخوف أكثر من العدالة، وعلى الولاءات أكثر من القانون.

البدو يجدون أنفسهم اليوم متّهمين وملاحقين في كل حادثة أمنية، في المقابل، يشعر سكان الأحياء العلوية بأنهم محاصرون داخل خوف قديم، يتجدد كلما دوّى الرصاص قرب منازلهم، وفي هذا المناخ، يغدو الأمن مهمة مستحيلة، فكيف يمكن ضبط مدينة لم يتعافَ نسيجها الاجتماعي من عقد من الدم؟

بين الرواية الرسمية والرواية الميدانية

من اللافت أن التغطيات الإعلامية الرسمية اكتفت بالحديث عن “مجموعة مسلّحة من البدو” دون توضيح طبيعة الهجوم أو خلفياته، بينما تداول ناشطون مقاطع تظهر اشتباكات متبادلة بين مسلحين من الطرفين، ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول دور “الردّ الأهلي” في تصعيد الموقف.
هذا التضارب في السردية ليس تفصيلا تقنيا؛ بل هو جزء من أزمة الحقيقة في سوريا، حيث يحتكر كل طرف روايته عن “الأمن” و”الخطر”، وتُدفن الوقائع تحت ركام الخوف والتخوين.

في خلفية كل هذا، ثمة عامل آخر لا يقل أهمية: الاقتصاد.
ففي محافظةٍ تتجاوز فيها معدلات الفقر 80%، ويفتقر شبابها إلى فرص العمل، يصبح السلاح مصدر رزق، والمجموعات المسلحة التي هاجمت اليوم ليست تنظيمات إرهابية بالمعنى التقليدي، بل شبكات محلية تعيش على التهريب وفرض الإتاوات، مستفيدة من فراغ السلطة وضعف القانون، وحين يتقاطع ذلك مع الانتماء العشائري أو الطائفي، يصبح الانفجار مسألة وقت لا أكثر.

ما الذي ينتظر حمص؟

مع حلول المساء، عادت المدينة إلى ما يشبه الصمت المجهد؛ حظر التجوال فرض هدنة قسرية، لا سلاما حقيقيا، فالقوة وحدها لا تعالج هشاشة النسيج، ولا تُعيد الثقة إلى مجتمعٍ انهكته الحرب.
إن ما تحتاجه حمص اليوم ليس المزيد من المصفحات، بل مصالحة حقيقية تعترف بالهامش وتُعيد تعريف الأمن بوصفه خدمة لا عقوبة.

التحذير الأكبر الذي تومض به هذه الأحداث هو أن البلد الذي لم يتعلم من جراحه، سيعيد إنتاجها، فطالما بقيت القضايا الاجتماعية والأمنية تُدار بعقلية الإخماد لا الإصلاح، فإن كل حي في سوريا قابل لأن يصبح “المهاجرين” آخر.

هذه ليست مجرد قصة محلية؛ إنها فصل آخر من رواية بلدٍ يحاول النجاة من ذاته، فمن فوق أسطح حمص، يطلّ الغبار الرمادي على مدينة تعرف أكثر من غيرها أن الحرب لا تنتهي حين تصمت المدافع، بل حين يتعلم الناس كيف يتحدثون بلا خوف.
وفي يوم آخر من تشرين، تذكّرنا حمص أن الهدوء في سوريا ليس إلا استراحة قصيرة بين عاصفتين.

اشتباكات حي المهاجرين في حمص – التحديث

حمص على حافة الجرح

تحليل تفاعلي لأحداث اشتباكات حي المهاجرين والتداعيات الأمنية والاجتماعية

جريمة القتل المروعة في زيدل – السبب المباشر للاشتباكات

  • عُثر على رجل وزوجته مقتولين داخل منزلهما في بلدة زيدل جنوب حمص
  • تعرضت جثة الزوجة للحرق بعد القتل
  • وُجدت في موقع الجريمة عبارات تحمل طابعاً طائفياً
  • باشرت الجهات المختصة جميع الإجراءات القانونية اللازمة
  • تم فتح تحقيق لكشف ملابسات الجريمة

الخسائر البشرية والمادية

العوامل المسببة للاشتباكات

المناطق المتأثرة بالاشتباكات

تسلسل زمني للأحداث

قبل الاشتباكات

جريمة القتل في زيدل

عُثر على رجل وزوجته مقتولين داخل منزلهما في بلدة زيدل جنوب حمص، مع وجود عبارات طائفية في موقع الجريمة.

صباح الأحد

بداية الاشتباكات

هجوم مسلح على حي المهاجرين كرد فعل على جريمة القتل، مما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة عدة آخرين وأضرار مادية في المحال التجارية.

منتصف النهار

اتساع رقعة الاشتباك

امتدت الاشتباكات لتشمل أحياء الأرمن والعباسية وضاحية الباسل وشارع الستين، وتحولت حمص إلى مدينة شبه مغلقة.

الخامسة مساءً

فرض حظر التجوال

أعلنت وزارة الداخلية فرض حظر تجوال شامل من الخامسة مساء حتى الخامسة صباحاً في محاولة لاحتواء الانفلات الأمني.

العوامل الكامنة وراء الأزمة

جريمة القتل المروعة

العثور على رجل وزوجته مقتولين في منزلهما بزيدل مع حرق جثة الزوجة وعبارات طائفية في موقع الجريمة.

التوتر الطائفي

وجود عبارات طائفية في موقع الجريمة أدى إلى تأجيج المشاعر وتصعيد التوتر بين المكونات الاجتماعية.

الذاكرة الجريحة

جراح الحرب الأهلية التي لم تندمل بعد، وأحقاد لم تُغسل بمرور الزمن بين مكونات المجتمع.

غياب الثقة

انعدام الثقة بين المواطن والأجهزة الرسمية، وتسيّب أمني جعل السلاح وسيلة للرد على الجرائم.

تم إنشاء هذا الرسم البياني التفاعلي بناءً على تحليل أحداث اشتباكات حي المهاجرين في حمص – جميع البيانات مستمدة من المحتوى المقدم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *