في الجغرافيا، كما في التاريخ، لا وجود للفراغ، وعندما يكتب باحث إسرائيلي كـ”تال بيري” تقريرا بعنوان “التهديد الذي يواجه الشرع”، فهو لا يصف واقعا، بل يعبّر عن خوف عميق متجذر في العقل الأمني “الإسرائيلي” من المجهول السوري الذي لا يمكن التنبؤ به.
المقال الذي نشره مركز ألما، وهو مركز أبحاث أمني “إسرائيلي” يراقب ما وراء حدود الجليل، لا يقرأ سوريا بوصفها دولة، بل كرقعة من تضاريس مشتعلة، كل تلّة فيها قادرة على أن تتحوّل إلى بندقية موجهة نحو الشمال.
الخوف الإسرائيلي القديم في ثوبٍ جديد
منذ انهيار الدولة السورية نهاية عام 2024، ظلّ الهاجس “الإسرائيلي” ثابتا؛ من يملك السلطة في دمشق؟
لكنّ مقال بيري يُظهر تحوّلا في هذا السؤال، فلم يعد القلق منصبا على “من يحكم سوريا”، بل على ما سيحدث بعد سقوطه، فالمقال يتعامل مع شخصية أحمد الشرع بوصفها “الواجهة الأخيرة للاستقرار”.
المفارقة أن هذا الاستقرار، كما يصفه الكاتب نفسه، ليس إلا “استقرار اللااستقرار”، أي نظام هشّ يعيش على الحافة، يهدئ التناقضات بالقوة ويُخفي الانفجار القادم تحت عباءة السيطرة.
في هذا الخطاب تكمن فلسفة “الأمن الإسرائيلي”، فلا تبحث عن السلام، بل عن “قابلية التنبؤ”، فـ”إسرائيل” لا تخشى العدو القوي بقدر ما تخاف من الفوضى الضعيفة؛ لأن الجيوش يمكن ردعها، أما الميليشيات، فلا وطن لها كي تخسره.
“الشرع” كمرآة للقلق الإسرائيلي
المقال الإسرائيلي لا يناقش شخص أحمد الشرع بقدر ما يستخدمه كرمزٍ لحالة سورية مضطربة، فهو في نظرهم “رئيسٌ لا يثق به أحد”، لا الغرب ولا المتطرفون، ولا حتى جيشه الجديد الذي يتكوّن، كما يقول التقرير، من ميليشيات جهادية أعيدت تسميتها.
المقال يصف هذه التركيبة بأنها “قنبلة موقوتة” حيث تكمن المفارقة؛ النظام الجديد الذي يفترض أن يكون بديلا عن الفوضى، يحمل في بنيته جينات الفوضى ذاتها.
لكنّ الأهم في هذا التحليل هو التركيز على ما يسميه بيري بـ”الراية الحمراء”، والمقصود هنا المفاوضات الأمنية بين سلطات دمشق وتل أبيب، فبالنسبة للكاتب “الإسرائيلي”، هذه المفاوضات هي القشة التي تقصم ظهر النظام، فهي تثير حفيظة المتشددين داخل الجيش والأمن، وتفتح الباب لمحاولات اغتيال أو انقلاب داخلي، فيضع المقال المفاوضات ذاتها في موقع عبثي، فما تراه واشنطن طريقا نحو الاستقرار، تراه تل أبيب طريقا إلى الانفجار.
سوريا كما يراها “ألما”: خريطة أخطار وليست دولة
يستحضر المقال سلسلة من السيناريوهات لما يسميه “اليوم التالي للشرع”؛ انهيار وتفكك وفوضى ومجازر طائفية، وإعادة تموضع لداعش، وتدفق تركي محتمل نحو دمشق.
كل ذلك يُرسم بلغة باردة ومفصّلة تشبه تقارير الاستخبارات أكثر من المقالات البحثية، لكنه في جوهره ليس قراءة لسوريا، بل إسقاط لقلق “إسرائيلي” على المشهد السوري.
فالكاتب لا يتحدث عن معاناة السوريين، ولا عن أسباب هذا الاضطراب المزمن، بل عن كيف يمكن أن تمتد تداعياته إلى ما وراء الجولان.
جنوب سوريا بالنسبة له ليس منطقة سكنية، بل “ساحة عمليات”، والدروز هناك ليسوا مواطنين، بل “ملفا إنسانيا – أمنيا” يتطلب “جاهزية إسرائيلية للدفاع والإجلاء”.
بهذا المنطق، يتحوّل السوريون في النص إلى عناصر ضمن معادلة دفاعية، وليسوا بشرا يعيشون مأساة وطنية، وكأن “إسرائيل” لا ترى سوى “الخرائط العسكرية” حيث تُمحى المدن وتبقى النقاط.
بين الخطر والفرصة: “إسرائيل” وحسابات الجنوب
يُبرز المقال أن أكبر خطر لـ”إسرائيل” في حال انهيار النظام السوري هو تحول الجنوب إلى منصة إرهاب،
لكنه في الوقت ذاته يلمّح إلى ما يمكن أن يكون فرصة استراتيجية من خلال إنشاء “منطقة أمنية عازلة” تمتد من جبل الشيخ إلى عمق السويداء، تضمّ الدروز، وتُدار بتنسيق “إسرائيلي” – أمريكي، في نسخة جديدة من “المنطقة الآمنة” القديمة في جنوب لبنان.
المنطق ذاته الذي حكم سياسة “الحزام الأمني” في الثمانينيات يُستعاد اليوم بوجه جديد: حماية الأقليات بوصفها حماية للحدود.
هذه المقاربة ليست جديدة في التفكير “الإسرائيلي”، فمنذ نشوء الدولة العبرية، كانت “الأقليات”– المسيحية أو الدرزية أو الكردية – تُرى كـ”حلفاء طبيعيين” في بيئة عربية معادية، لكن في السياق السوري الجديد، تبدو هذه الورقة أكثر تعقيدا، فالدروز في سوريا ليسوا كتلة سياسية موحدة، و”إسرائيل” تدرك أن أي تدخل مباشر لحمايتهم يخلق ضدهم موجة عداء جديدة، ومع ذلك، يصرّ المقال على أن “التحدي الرئيسي لإسرائيل في فوضى اليوم التالي هو حماية الدروز” وكأن الجنوب السوري سيتحول إلى ساحة اختبار أخلاقي لـ”إسرائيل” أمام العالم.
ما وراء النص: إسقاط المخاوف على الجغرافيا
بيري يكتب من موقع الخبير الأمني، لكن لغته تكشف شيئا أعمق من التحليل الاستخباراتي، فهي لغة الخوف من المجهول.
هو يتحدث عن “الفوضى القادمة” كقدر محتوم، وعن “الذبح المحتمل للأقليات” كحقيقة ينتظرها الزمن، فلا مكان في النص لأي تصور لسوريا قابلة للحياة، ولا لأي احتمال لبناء دولة متماسكة.
في هذا التصوير، تتحول سوريا إلى أرض محكومة بقوانين الانهيار، وتصبح مهمة “إسرائيل” ليست في صنع السلام، بل في إدارة حافة الهاوية.
إنها “جغرافيا الخوف” التي تظهر حين يرى صانع القرار في الخرائط أكثر مما يرى في الناس، ويختزل التاريخ في خطوط دفاع.
رسائل ضمنية للغرب
المقال موجه بوضوح إلى جمهور غربي، وربما إلى واشنطن تحديدا، فالإشارة المتكررة إلى “ضرورة التنسيق الإسرائيلي-الأمريكي”، والدعوة إلى “الاستعداد المشترك للفوضى”، تعني أن الرسالة ليست مجرد تنبيه، بل محاولة لتوجيه السياسة الأمريكية.
المغزى لا تراهنوا كثيرا على النظام الجديد في دمشق، ولا تسحبوا يدكم من الجنوب السوري، لأن انهياره يفتح بوابة الفوضى على حدود “إسرائيل”.
يتحول النص إلى أداة ضغط سياسي أكثر من كونه تقديرا استخباراتيا محايدا، فهو يهيّئ الرأي العام “الإسرائيلي” والغربي لتقبّل فكرة التدخل الوقائي، إنسانيا أو عسكريا، تحت ذريعة حماية “الأقليات” ومنع تمدد الإرهاب.
الزمن الدائري للفوضى
ما يلفت في المقال هو شعور التكرار وكأن التاريخ السوري يعيد إنتاج ذاته أمام أعين “إسرائيل”، فالنظام يتغير، لكن “التهديد” يبقى؛ والتحالفات تتبدل، لكن “الفوضى” تظل الثابت الوحيد، وهذه الرؤية الدائرية للأحداث ليست جديدة في الفكر الاستراتيجي “الإسرائيلي”، الذي يفضل أحيانا التعامل مع “عدو يمكن التنبؤ به” على التعامل مع “حليف لا يُفهم”.
ولذلك، فإن “استقرار اللااستقرار” الذي يتحدث عنه بيري ليس مجرد وصفٍ للوضع السوري، بل هو تعبير عن الرغبة “الإسرائيلية” في تجميد الزمن عند نقطة يمكن السيطرة عليها.
سوريا ليست خريطة أمنية
ما يقدمه مركز ألما هو قراءة دقيقة لتوازنات القوى، لكنه قراءة أحادية تنظر إلى سوريا من وراء منظار عسكريٍ ضيق.
التحليل يغيب عنه البعد الإنساني والاجتماعي وحتى الاقتصادي، كأن الدولة السورية ليست سوى مساحة جغرافية تُقاس بدرجة الخطر على “إسرائيل”.
الحديث عن “العلويين والدروز والأكراد” يأتي دائما في سياق “المشكلة الأمنية” وليس “التنوّع الاجتماعي”، وهذه الزاوية تكشف ليس فقط رؤية المؤسسة “الإسرائيلية” لسوريا، بل أيضا عجزها عن تخيّل جيرانها كدولٍ طبيعية قادرة على الاستقرار الذاتي.
الخوف من الغد كسياسة دائمة
مقال تال بيري ليس تقريرا عن سوريا، بل اعتراف “إسرائيلي” غير معلن بأن الحدود الشمالية ستبقى جبهة مفتوحة إلى أجل غير مسمى.
فحتى لو وُقع اتفاق أمني، وحتى لو هدأ الجنوب، فإن “الخوف من الغد” هو الوقود الحقيقي لسياسة الإسرائيلي تجاه سوريا التي لا تبحث عن حل، بل عن تأجيل دائم للانفجار، ففي هذه الجغرافيا، كل من يسعى إلى الاستقرار المطلق، إنما يبني بيته على الرمال المتحركة.
سوريا في عيون تل أبيب: الخوف من الفراغ والبحث عن الجدار الأخير
تحليل مرئي للرؤية الإسرائيلية للأزمة السورية واستراتيجيات التعامل معها
الرؤية الإسرائيلية للوضع السوري
المخاوف الإسرائيلية الرئيسية
الخوف من المجهول
عدم القدرة على التنبؤ بتطورات المشهد السوري بعد انهيار النظام
تحول الجنوب إلى منصة إرهاب
احتمال تحول المناطق الجنوبية إلى قواعد للجماعات المسلحة
عودة تنظيم داعش
إعادة تموضع التنظيم واستغلال الفراغ الأمني
التدخل التركي
تدفق القوات التركية نحو دمشق وتأثير ذلك على التوازن الإقليمي
السيناريوهات المحتملة من المنظور الإسرائيلي
تطور الرؤية الإسرائيلية للأزمة السورية
انهيار الدولة السورية
بداية الهاجس الإسرائيلي الثابت: “من يملك السلطة في دمشق؟”
التحول في السؤال الأمني
القلق لم يعد منصبا على “من يحكم سوريا” بل على “ما بعد سقوط النظام”
التركيز على أحمد الشرع
اعتباره “الواجهة الأخيرة للاستقرار” في نظام هش يعيش على الحافة
الخوف من “اليوم التالي”
سيناريوهات الانهيار والتفتت والفوضى والتدخلات الإقليمية
استراتيجيات التعامل الإسرائيلية
الأطراف المؤثرة في الملف السوري
مقارنة بين الرؤية الإسرائيلية والواقع السوري
الخلاصة: سوريا كخريطة أمنية وليس كدولة
التحليل الإسرائيلي يقدم قراءة دقيقة لتوازنات القوى، لكنه قراءة أحادية تنظر إلى سوريا من وراء منظار عسكري ضيق. يغيب عنه البعد الإنساني والاجتماعي وحتى الاقتصادي، كأن الدولة السورية ليست سوى مساحة جغرافية تُقاس بدرجة الخطر على إسرائيل.
“ما يقدمه مركز ألما هو إسقاط لقلق إسرائيلي على المشهد السوري، وليس قراءة لسوريا بحد ذاتها. فالكاتب لا يتحدث عن معاناة السوريين، ولا عن أسباب هذا الاضطراب المزمن، بل عن كيف يمكن أن تمتد تداعياته إلى ما وراء الجولان.”

