سوريا بعد عام من التحول السياسي: إدارة المخاطر ترسم ملامح شرق المتوسط الجديد

منذ الثامن من كانون الأول 2024، اليوم الذي بدل فيه انتقال السلطة في دمشق ملامح المشهد الإقليمي، باتت خريطة الشرق الأوسط تبدو كما لو أنه يًعاد رسمها من جديد.

لم يكن الحدث السوري مجرد تغير سياسي داخلي، بل لحظة مفصلية أعادت تعريف الأمن في شرق المتوسط، وأدخلت الإقليم في مرحلة “إدارة المخاطر” بدلا من “إدارة النفوذ”. فخلال عام واحد فقط، تراجعت إيران، وتمددت إسرائيل، وتبدلت معادلات القوة التي حكمت المنطقة لأكثر من عقد.

نهاية التوازن القديم

كان النظام السوري، رغم إضعافه في سنوات الأزمة الطويلة، يمثل ركيزة في توازن القوى الإقليمي، ولم تكن طهران أو حزب الله وحدهما من يشكلان محور المواجهة مع إسرائيل، بل دمشق هي نقطة الارتكاز التي تدور حولها السياسة الدفاعية للمحور المناهض للغرب، لكن مع انهيار الجيش السوري وحله رسميا بقرار من السلطة الجديدة، انهارت تلك المعادلة.

فقدان المؤسسة العسكرية لم يكن مجرد تحول إداري؛ بل زلزال جيوسياسي أفرغ الخريطة السورية من إحدى أهم أدوات الردع في الشرق الأوسط، فسارعت بغداد إلى بناء خطوط دفاعية على طول حدودها الغربية خشية تسرّب الفوضى، بينما فرضت إسرائيل في الجنوب واقعا أمنيا جديدا، بإقامة منطقة عازلة تمتد من درعا إلى القنيطرة، مع سيطرة جوية شبه مطلقة.

بهذا الانهيار، انتهت مرحلة التوازن الكلاسيكي في الإقليم، لتحل محلها مرحلة فراغ القوة، والرؤية، والهوية السياسية.

دمشق وواشنطن.. انفتاح ما بعد القطيعة

لكن الحدث الأكثر رمزية، ودلالة على تغير موازين الإقليم، هو الانفتاح السياسي غير المسبوق بين سلطات دمشق وواشنطن، فبعد عقود من العداء العقائدي والمواقف الصدامية، فتحت السلطة الجديدة في دمشق قنوات اتصال سياسية مع الإدارة الأمريكية غير مؤطرة بعد، لكنها تعبّر عن تحوّل عميق في طبيعة الخطاب السوري.

ورغم أن هذا الانفتاح لم يلغ الخطر “الإسرائيلي” أو يعالج ملف الجولان، إلا أنه كسر أحد “تابوهات” الشرق الأوسط: فكرة أن سوريا لا يمكن أن تكون على طاولة تفاوض مع الولايات المتحدة، ومع تراجع حدة العداء الأمريكي في الخطاب الرسمي، بدا أن واشنطن نفسها تتعامل مع دمشق الجديدة ببراغماتية حذرة، قائمة على مفهوم “الاحتواء الوقائي” لا “العقاب السياسي”.

إدارة المخاطر.. المفهوم الحاكم

بعد عام من التحول، أصبح مصطلح “إدارة المخاطر” هو التوصيف الأدق للسياسات الدولية تجاه سوريا، فالقوى الكبرى، واشنطن، موسكو، أنقرة، وتل أبيب، لا تبحث عن حلول نهائية، بل عن كيفية منع الانفجار، التواجد العسكري المحدود لكل طرف لم يعد أداة ضغط، بل وسيلة لاحتواء الفوضى ومنعها من الامتداد خارج الحدود السورية.

الإدراك السائد لدى هذه القوى هو أن سوريا، في لحظتها الراهنة، ليست ميدان صراع مباشر، بل مساحة هشّة يُخشى منها أكثر مما يُراد امتلاكها، لذلك لم تتراجع الوحدات العسكرية الأجنبية، بل أعادت انتشارها؛ فالأميركيون في دمشق ومحيطها، والإسرائيليون في الجنوب، والروس في نقاطهم الساحلية القديمة.

هذا النمط من التموضع لا يعكس سياسة هيمنة، بل ما يمكن تسميته بـ”الهندسة الوقائية للأمن”، حيث يصبح الاستقرار المؤقت غاية بذاته، لا وسيلة لتحقيق نفوذ.

الانحسار العربي وتراجع التأثير الإقليمي

على الضفة الأخرى، فقدت العواصم العربية، التي كانت لعقد ونصف أحد أضلاع التفاعل مع الأزمة السورية، تأثيرها المباشر، فالقاهرة مشغولة بإدارة تحدياتها الاقتصادية، والرياض تعيد تعريف أولوياتها بعد سنوات من الإنهاك الإقليمي، في حين أن عمّان وبغداد تتعاملان مع الحدود السورية باعتبارها مصدر تهديد لا شريك استراتيجي.

هذا التراجع العربي أفسح المجال لتثبيت “توازن الضعف”، وهو توازن هشّ يسمح لكل طرف بالبقاء دون أن يمنح أحدا القدرة على الحسم، وتحولت سوريا من “مركز الفعل” إلى “منطقة التفاعل”، ومن “محور التوازن” إلى “مساحة الفراغ”.

الأمن في شرق المتوسط.. من الهيمنة إلى الردع السلبي

التحول السوري لم يغيّر فقط الجغرافيا السياسية، بل أعاد تعريف مفهوم الأمن في شرق المتوسط، ولم يعد الحديث يدور حول جبهات أو تحالفات، بل حول منع الانهيار، وفي غياب مركز قوة عربي، ومع تراجع الدور الإيراني، أصبحت “إسرائيل” اللاعب الوحيد القادر على المبادرة العسكرية، بينما تتصرف تركيا بحذر شديد خشية الدخول في مواجهة متعددة الجبهات.

إن الأمن الإقليمي اليوم لا يُدار بالقوة، بل بالخوف من القوة، وهذا ما يفسّر السلوك الحذر لجميع الأطراف، بما فيهم الولايات المتحدة، التي تكتفي بالمراقبة فقط.

سوريا الجديدة.. جدل الهوية والموقع

بعد عام من التحول، تبدو سوريا كما لو أنها تسير في اتجاه إعادة تعريف ذاتها، لم تعد الصيغة القديمة للدولة، القائمة على المركزية والجيش والعداء مع الغرب، ضمن أولويات السلطة الجديدة، لكنها لم تستبدل بصيغة جديدة.

البلاد تعيش لحظة “جدل هوية” حاد بين من يرى مستقبلها في الاندماج الإقليمي، ومن يريد استعادة موقعها كدولة محورية في شرقي المتوسط، أو من يراها نموذجا انتقاليا لدولة ما بعد الحرب، محكومة بالواقعية والتجزئة الجغرافية.

في هذا الجدل، تبرز تساؤلات جوهرية؛ فهل يمكن لسوريا أن تعود إلى دورها التقليدي كضابط لتوازنات الإقليم؟ أم أنها ستتحول إلى “دولة عازلة” بين القوى الكبرى، تعيش في ظل إدارة دولية للأمن دون سيادة حقيقية؟

واشنطن والرياض.. تباين في الرؤية

في الأفق، لا يبدو أن الولايات المتحدة تمتلك استراتيجية متماسكة تجاه دمشق، فرغم أن بعض التصريحات الأمريكية ألمحت إلى إمكانية رفع للعقوبات بدفع سعودي، لكن هذا الطرح يصطدم بواقع ميداني لا يزال معقدا، فغياب سلطة مركزية موحدة يجعل أي انفتاح اقتصادي محفوفا بالمخاطر، في حين أن الرياض نفسها تتعامل مع الملف السوري كجزء من توازنها مع طهران، لا كقضية مستقلة.

عمليا لا أحد يملك رؤية شاملة لسوريا، لأن سوريا نفسها لم تحدد بعد رؤيتها لذاتها.

يمكن القول إن العام المنصرم مثّل لحظة فاصلة، ليس فقط في تاريخ سوريا، بل في بنية الإقليم بأسره، فانتهت مرحلة “محور المقاومة”، وتراجعت فكرة “المركز القائد”، لتحلّ محلها شبكة متداخلة من القوى تتعامل مع دمشق بوصفها “نقطة خطر” أكثر منها “شريكاً استراتيجيا”.

هناك إدراك متزايد لدى العواصم الكبرى بأن الاستقرار في سوريا ليس ترفا، بل شرط أساسي لاستقرار شرق المتوسط، ولتأمين مصالحها، ومن هنا تنبع أهمية السياسة الجديدة التي تحكم المشهد عبر سياسة إدارة المخاطر، حيث تُقاس النجاحات ليس بما يتحقق، بل بما يُمنع من الوقوع.

سوريا بين الجغرافيا والمصير

بعد عام من التحولات، تبقى سوريا في قلب المفارقة التاريخية التي لطالما واجهتها؛ دولة محورية وموقع استراتيجي ولكن بهشاشة سياسية، تواجه انفتاح خجول على واشنطن، وتراجعٍ عربيٍّ بالتأثير، وتمدد “إسرائيلي”، وتبقى البلاد ساحة اختبار لإمكان قيام نظام إقليمي جديد، لا تحكمه التحالفات الأيديولوجية، بل منطق المصالح الباردة وإدارة المخاطر.

السؤال الأهم ليس عمّا ستؤول إليه سوريا، بل عمّا سيؤول إليه الإقليم من دونها.

سوريا.. عام في قلب التحولات الإقليمية

سوريا.. عام في قلب التحولات الإقليمية

تحليل تفاعلي للتحولات الجيوسياسية في سوريا والمنطقة بعد عام من التغيرات الجذرية

تحول موازين القوى الإقليمية

يوضح الرسم البياني التغير في نفوذ القوى الإقليمية والدولية بعد التحولات في سوريا

إدارة المخاطر في سوريا

توزيع أولويات السياسات الدولية تجاه سوريا مع التركيز على إدارة المخاطر

العلاقات الدولية تجاه سوريا

مقارنة درجة التفاعل الدولي مع سوريا عبر مختلف المجالات

النقاط الرئيسية للتحول

  • انهيار التوازن القديم ونشوء فراغ القوة
  • الانفتاح غير المسبوق بين دمشق وواشنطن
  • تحول مفهوم الأمن من الهيمنة إلى الردع السلبي
  • تراجع الدور العربي وتصاعد “توازن الضعف”
  • إعادة تعريف هوية سوريا وموقعها الإقليمي

التطور الزمني للتحولات

تتبع تطور مؤشرات الاستقرار والتأثير الإقليمي على مدى 12 شهراً

الخلاصة: سوريا بين الجغرافيا والمصير

بعد عام من التحولات، تبقى سوريا في قلب المفارقة التاريخية التي لطالما واجهتها؛ دولة محورية وموقع استراتيجي ولكن بهشاشة سياسية. تواجه انفتاح خجول على واشنطن، وتراجعٍ عربيّ، وتمدد “إسرائيلي”، وتبقى البلاد ساحة اختبار لإمكان قيام نظام إقليمي جديد، لا تحكمه التحالفات الأيديولوجية، بل منطق المصالح الباردة وإدارة المخاطر.

السؤال الأهم ليس عمّا ستؤول إليه سوريا، بل عمّا سيؤول إليه الإقليم من دونها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *