في الأزمات الممتدة لا تخرج الدول من الحرب كما دخلتها، بل تُعاد صياغتها من الداخل عبر منطق مختلف كلياً عن الدولة الحديثة، وما يجري في دمشق اليوم هو مثال ناصع على هذه القاعدة؛ الانتقال من دولة مركزية تملك الاقتصاد إلى شبكة تملك الدولة، وتعيد تعريف معنى السلطة ذاتها.
المراسيم الأخيرة التي أنشأت هيئة جديدة للمنافذ والجمارك ومنحتها استقلالا كاملا وربطا مباشرا برئاسة الجمهورية، ليست مجرد خطوة إدارية في تنظيم التجارة الخارجية؛ إنها إعلان عن إعادة توزيع السلطة الاقتصادية على أسس غير مؤسسية.
ما يحدث ليس إصلاحا في البنية البيروقراطية بل استبدالها ببنية شبكية ترتكز على الولاء والعائلة والعلاقات غير الرسمية، ووراء هذا التحول تكمن سردية أكثر عمقا؛ كيف تُبنى سلطة ما بعد الحرب؟ هل عبر مؤسسات مدنية شفافة أم عبر شبكات النفوذ التي ازدهرت خلال الحرب ذاتها؟ الجواب السوري يميل إلى الخيار الثاني.
الاقتصاد بوصفه سلاحا
منذ اندلاع الحرب السورية، صار الاقتصاد أداة صراع لا وسيلة إنتاج، فخطوط الإمداد والمعابر والرسوم تحولت إلى جبهات مالية، ومن يتحكم بها يتحكم بالدولة، والآن عبر نقل صلاحيات التجارة والجمارك إلى هيئة واحدة، يبدو أن الدولة قررت توحيد هذا السلاح بيد واحدة.
لكن المشكلة لا تكمن في مركزية القرار فقط، بل في هوية من يمسك به، فالشخص المكلّف بإدارة المنافذ هو رجل صعد من اقتصاد الحرب، لا من مدرسة الإدارة العامة، وتاريخه ليس في المالية أو الجمارك، بل في “إدارة المعابر” حين كانت بوابات للنزاع والجباية، فتدخل ذهنية الحرب إلى مؤسسات الدولة بغطاء رسمي.
هذه ليست سابقة في التاريخ؛ كثير من الدول الخارجة من النزاعات منحت المحاربين أدوارا في إعادة الإعمار، لكن ما يميز الحالة السورية هو أن “اقتصاد الحرب” نفسه لم يُفكك بل أُعيد إنتاجه كاقتصاد دولة. وهنا جوهر الخطر في تحول أدوات النجاة خلال الحرب إلى أدوات حكم في السلم، فتتكرّس الدولة كنسخة مؤسساتية من السوق السوداء.
طبقة جديدة من الأوليغارشية
الصورة العائلية التي تتكشف هنا؛ أخ يرأس المنافذ، وآخر في الإمداد العسكري، وثالث في التجارة الخارجية، وهذه ليست مجرد مصادفة، فهي بنية سلطة جديدة تتجاوز الانقسام بين الاقتصاد والأمن، وبين المدني والعسكري، وفي الأنظمة الحديثة، توزّع السلطة عموديً بين مؤسسات، أما في سوريا اليوم فتتوزع أفقيا داخل شبكة.
هذه الشبكة لا تعتمد على الكفاءة، بل على القدرة على التحكم بالمورد، فمن يتحكم بها يملك النفوذ السياسي، وما نراه هو ولادة طبقة أوليغارشية تُعيد تعريف معنى “الدولة” كمنظومة استثمار مغلقة، فالموقع الرسمي لم يعد وظيفة، بل امتداد لمشروع مالي عائلي.
تاريخ الاقتصاد السياسي يعلمنا أن هذا النوع من البنى لا يُنتج استقرارا طويل الأمد، ففي روسيا التسعينيات، حين صعدت طبقة الأوليغارشيين الجدد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بدا أنهم يملكون مفاتيح الاقتصاد، لكن سرعان ما انقلبت العلاقة، فصاروا أسرى للنظام الذي صنعهم، وفي سوريا، الاتجاه المعاكس؛ النظام نفسه صار أسيرا لشبكات صنعها خلال الحرب.
الدولة كواجهة
حين تُنشأ هيئة لا تخضع لرقابة برلمانية ولا محاسبة عامة، تُصبح المسافة بين “المؤسسة” و”السلطة” ضئيلة إلى حدّ الاختفاء، فالوزارات ما تزال موجودة، لكنها تحولت إلى ديكور إداري، والقرارات تُتخذ في مكان آخر، خلف الستار القانوني، فالدولة السورية تعيش لحظة “خصخصة السيادة” عبر نقل وظائفها الجوهرية من الجمارك، والتجارة، والإمداد إلى فاعلين غير خاضعين للمساءلة العامة.
هذه ليست مجرد مسألة فساد، بل مسألة بنيوية، فحين تغيب الرقابة ويُختزل القرار في أيدٍ معدودة، تتحول الحوكمة إلى إدارة مصالح لا إلى إدارة دولة، والنتيجة منظومة هجينة لها شكل الدولة لكنها تُدار بعقلية شركة احتكارية.
ما يجري هنا يذكّر بتجربة لبنان في التسعينيات، حين أُعيد بناء الاقتصاد عبر تحالف رجال الأعمال والسياسيين، فأُنتجت دولة بلا سياسة اقتصادية مستقلة، والفرق أن الحالة السورية أكثر تركيزا وأشد غموضا، حيث تختفي خطوط التماس بين رأس المال والسلطة في كيان واحد.
من الحرب إلى السلم… أم إلى حرب أخرى؟
يُفترض أن المرحلة التالية للحروب هي إعادة بناء مؤسسات الدولة واستعادة العقد الاجتماعي، لكن ما يحدث في سوريا يشير إلى الاتجاه المعاكس؛ ترسيخ قواعد اقتصاد الحرب في قلب الدولة نفسها، فالدوافع التي غذّت النزاع من الاحتكار والإقصاء وانعدام الشفافية لم تعالج، بل أعيد تغليفها بلغة القانون.
الأخطر أن هذه الشبكات لا تحتاج إلى قمع سياسي لتستمر، بل إلى بنية اقتصادية مغلقة تحمي امتيازاتها، وتصبح أي محاولة لفتح الأسواق أو إحياء المنافسة تهديدا لبنية الحكم ذاتها.
السؤال هنا ليس “من يدير الاقتصاد” بل “ما الذي بقي من الاقتصاد العام أصلا؟” فحين تُصبح التجارة، والضرائب، والعبور، والتموين العسكري، بيد دائرة واحدة، تفقد الدولة آخر مظاهر الفصل بين القطاع العام والخاص.
أزمة الشرعية
من الناحية النظرية، الدولة الحديثة تستمد شرعيتها من قدرتها على تقديم الخدمات العامة بعدالة وشفافية، لكن حين يعاد تعريف هذه الخدمات كمصادر ريع لشبكات محددة، تنهار شرعية المؤسسة ويستبدل الولاء للمواطنة بالولاء للعلاقة.
هذا الشكل من الحوكمة يولّد اقتصادا مغلقا يطرد الكفاءات ويكافئ الولاءات، وعملية “إعادة الإعمار” الموعودة لن تكون سوى إعادة توزيع للغنائم، ويصبح الولاء السياسي هو رأس المال الحقيقي، وكل ما عداه تفصيل.
يذكر هذا النموذج بنظيره في أنغولا بعد الحرب الأهلية، حين تحول كبار القادة العسكريين إلى مالكي شركات نفط ومقاولات، فذابت الحدود بين السلطة والمال، النتيجة لم تكن استقرارا، بل “سلاماً غير عادل” قائم على احتكار الموارد.
وفي كولومبيا، حاولت الحكومة تفكيك اقتصاد العصابات عبر دمج بعض قادتها في الاقتصاد الرسمي، لكن الدمج من دون مساءلة خلق طبقة هجينة تملك السلطة الاقتصادية والسياسية معا، والسيناريو ذاته يظهر في سوريا، فبدلا من تفكيك اقتصاد الحرب، يجري تدويره في جسد الدولة.
الدولة بوصفها غنيمة
في هذا المشهد تظهر معادلة خطيرة فمن يملك المعبر يملك القرار، ولم تعد “السيادة” تعرف بالحدود الجغرافية بل بمن يديرها فعليا، وعندما تتحول بوابات الدولة إلى مصادر دخل خاص، تختزل فكرة الوطن إلى مساحة تحصيل.
تتحول المراسيم إلى أدوات هندسة سياسية، تنتج طبقة تتحكم بالاقتصاد والسياسة معا، ومع غياب الشفافية، تصبح الدولة مجرد واجهة قانونية لاقتصاد ظل يعمل منذ سنوات.
نهاية الدولة أم تحولها؟
ليس من الدقة القول إن الدولة السورية تنهار، فالأدق أنها تتحول من دولة مركزية إلى شبكة سلطة مرنة، ومن الاقتصاد العام إلى اقتصاد الزبائنية، ومن القانون إلى الترتيب، وهذه التحولات لا تعني الفوضى بل نوعا جديدا من النظام، لكنه نظام خارج الدستور.
النتيجة المحتملة ليست “تعافي الاقتصاد” بل “تكيّف السلطة” مع شكل جديد من السيطرة عبر المال بدلا من الإيديولوجيا، فتتحول مؤسساتها إلى أذرع لشبكات كانت تعمل في الظل وصارت اليوم تكتب قوانينها.
ما نشهده ليس لحظة بناء بل لحظة ترسيخ لنظام حكم جديد أكثر إحكاما وأقل مساءلة، فولدت في سوريا سلطة فوق دستورية لا تحتاج إلى انقلاب لتغير طبيعة الدولة، لأنها تغيّرها من داخلها، ببطء وشرعية شكلية.
وفي ظل غياب مؤسسات رقابة مستقلة، ومجتمع مدني فعال وسوق مفتوحة، ستتحول هذه البنية إلى قدر صعب الكسر، فهي دولة الحرب بعد أن ارتدت بدلة الدولة الحديثة، والسؤال لم يعد كيف تنهض سوريا من ركام الحرب، بل هل ما زالت تمتلك الأدوات التي تسمح لها بالنهضة أصلا؟
من اقتصاد الحرب إلى الدولة الموازية: ولادة سلطة فوق الدستور
تحليل تحول هياكل السلطة والاقتصاد في سوريا من الدولة المركزية إلى شبكات النفوذ غير الرسمية
التحول من الدولة المؤسساتية إلى شبكات السلطة
يوضح الرسم البياني التحول من هيكل الدولة المؤسساتي التقليدي إلى نموذج شبكات السلطة الذي يعتمد على العلاقات العائلية والشبكات غير الرسمية التي تتحكم في الموارد الحيوية للدولة.
توزيع النفوذ الاقتصادي
تطور توزيع النفوذ الاقتصادي من القطاع العام المهيمن إلى سيطرة شبكات الأوليغارشية على الموارد الاستراتيجية.
مصادر الشرعية السياسية
تحول مصادر الشرعية من المؤسسات الدستورية والخدمات العامة إلى شبكات النفوذ القائمة على التحكم بالموارد.
اقتصاد الحرب كأداة صراع
تحول الاقتصاد من أداة إنتاج إلى سلاح في الصراع، حيث أصبحت خطوط الإمداد والمعابر جبهات مالية.
ولادة طبقة أوليغارشية جديدة
تشكل طبقة جديدة تعتمد على التحكم بالموارد بدلاً من الكفاءة، مع تركز النفوذ في عائلات محددة.
خصخصة السيادة
تحول وظائف الدولة الجوهرية من الجمارك والتجارة والإمداد إلى فاعلين غير خاضعين للمساءلة العامة.
الدولة كواجهة
تحولت الوزارات إلى ديكور إداري بينما تتخذ القرارات في مكان آخر خلف الستار القانوني.
الخلاصة: ولادة سلطة فوق الدستور
ما تشهده سوريا ليس انهياراً للدولة بل تحولاً من دولة مركزية إلى شبكة سلطة مرنة، تنتقل من الاقتصاد العام إلى اقتصاد الزبائنية، ومن القانون إلى الترتيب. هذه التحولات تنتج نظاماً جديداً خارج الدستور، حيث تتحول مؤسسات الدولة إلى أذرع لشبكات كانت تعمل في الظل وصارت اليوم تكتب قوانينها. النتيجة ليست “تعافي الاقتصاد” بل “تكيّف السلطة” مع شكل جديد من السيطرة عبر المال بدلاً من الإيديولوجيا.

