من كسر الصمت إلى إعادة تعريف الهوية: هل يفتح الساحل السوري بابا جديدا للسلم الأهلي؟

في لحظة مفصلية من التحول السوري الجديد حيث تتقاطع خريطة القوى بين مركز سياسي ناشئ وسلطات محلية تبحث عن تموضعها، خرجت مدن الساحل ووسط البلاد من صمتها الطويل، فشهدت طرطوس واللاذقية وجبلة وحمص، وصولا إلى قرى الوادي، تظاهرات غير مسبوقة لأبناء الطائفة العلوية تلبية لدعوة الشيخ غزال غزال، رئيس المجلس الإسلامي العلوي، احتجاجا على ما وُصف بانتهاكات بحق أبناء الطائفة، ومطالبة باللامركزية الإدارية وبضمانات أمنية وسياسية لحماية المكوّن العلوي.

لم تكن هذه التظاهرات حدثا ميدانيا عابرا، بل لحظة انكشاف سياسي وجغرافي تعيد طرح سؤال السلم الأهلي على نحو أكثر عمقا، فهل نحن أمام بداية تصحيح لمسار العلاقة بين السلطة والمجتمع، أم عند تخوم تفكك جديد يهدد وحدة الدولة ومفهومها؟

بين تفكك المركز وصعود الأطراف

منذ انهيار النظام السياسي السابق تشهد البلاد إعادة توزيع حقيقية لموازين القوة، فلم يعد المركز قادرا على تحمل أعباء الشرعية السياسية أو الرمزية، بينما بدأت الأطراف، ومنها الساحل، تطالب بدور أكبر في صياغة القرار الوطني ووقف الانتهاكات بحقها، فهذا التحول لا يُقرأ فقط في ضوء التنافس السياسي، بل في سياق أعم؛ تحوّل سوريا من دولة مركزية إلى فسيفساء من السلطات المحلية المتشابكة.

الساحل، الذي كان لعقود منطقة استقرار أمني ورمزي، يتحول اليوم إلى مختبر للوعي السياسي الجديد، فالاحتجاجات التي قادها أبناء الطائفة العلوية تعبّر عن إدراك متزايد بأن التحرك لا بد من منه لحماية الإنتهاكات اليومية بحق أبناءهم، فالسكوت لم يعد يضمن الحماية أو الكرامة، إنها لحظة انتقال من منطق الصبر والتحمل إلى منطق المطالبة بالحقوق الطبيعية لكل الساحل.

البعد الجيوستراتيجي للحراك

لا يمكن فصل حراك الساحل عن موقعه الجغرافي والسياسي، فالمناطق الممتدة بين طرطوس واللاذقية تشكل شريانا استراتيجيا يربط سوريا بالبحر الأبيض المتوسط وبالنفوذ الروسي والإقليمي، وأي اهتزاز في تماسك هذه المنطقة ينعكس فورا على توازن القوى داخل البلاد، وخروج احتجاجات سلمية من قلب الساحل يُعد حدثا يغير قواعد اللعبة.

ما يميز هذه التظاهرات أنها ليست موجهة ضد سلطة بعينها، بل ضد مفهوم الهيمنة ذاته، واستبعاد الطائفة من تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي، ومن هنا تأتي قوة رمزية الشيخ غزال غزال، الذي يمثل صوتا إصلاحيا داخل البنية الدينية والاجتماعية العلوية، فلا ينازع السلطة الجديدة على الحكم، بل يدعو إلى شراكة حقيقية في صياغة الدولة الحديثة.

اللامركزية كإستراتيجية بقاء لا شعار إصلاحي

حين يرفع المحتجّون شعار “اللامركزية الإدارية“، فإنهم لا ينطقون بعبارات إصلاح تقنيّة، بل بلغة جيوسياسية تُعيد رسم خريطة القوة في البلاد، فخلف هذا المصطلح البيروقراطي الظاهر تكمن فكرة أعمق؛ فاللامركزية بوصفها استجابة وجودية لانهيار المركز، هي محاولة لإعادة توزيع السلطة على نحوٍ يضمن بقاء الدولة عبر تفكيك احتكارها، فهي ليست مطلبا إداريا إنما صرخة ضد هشاشة البنية السيادية، وإذ أدركت المكوّنات الاجتماعية، بعد سنوات الحرب، أن النجاة لا تتحقق بالولاء للمركز، بل بامتلاك القدرة على إدارة الذات ضمن عقد وطني جديد.

تتحوّل اللامركزية في سوريا الراهنة إلى هندسة للسيادة أكثر منها مسألة حوكمة، لأنها بحث عن شكل جديد للوحدة الوطنية، لا يقف عند حدود الجغرافيا بل يمتد إلى إعادة توزيع المعنى ذاته.

إذا ما استطاعت السلطة الجديدة أن تقرأ هذه المطالبة بما يليق بعمق سوريا التاريخي، فإنها تفتح الباب أمام نموذج تشاركي يضمن استقرار السلطة عبر تداولها، أما إن اختزلت الأمر في نزعة تمرد محلي، فإن المفارقة ستكون قاتلة، وستُدفع المكونات المطالبة بالمشاركة إلى السعي نحو الانفصال الرمزي والسياسي، لا رغبة في الانشقاق، بل رفضا لمركز لا يسمع إلا صدى نفسه.

التحوّل في بنية الوعي الجمعي

تُظهر التظاهرات في مدن الساحل أن الوعي الجمعي للطائفة العلوية دخل مرحلة جديدة من التأمل والمساءلة؛ بعد عقد من الحرب التي دفعت خلالها هذه المناطق أثمانا بشرية واقتصادية باهظة، فالأمر لا يتعلق بجيل دفع ثمن كبير للدفاع عن سوريا و ضمان أمنها، بل بجماعة أنهكتها الخسارات، وتكتشف اليوم أن الصمت لم يعد يحميها، وأن السكوت وحده لا يضمن البقاء.

الجيل الذي خرج إلى الشوارع ليس جيلا بلا ذاكرة، بل مثقلا بذكريات فقد الأصدقاء في الجبهات، وفقدان الأمان في البيوت، وفقدان الثقة بجدوى التضحيات، ومن رحم هذا الألم يتكوّن وعي جديد يسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الانتماء الوطني والمصلحة المحلية.

هذا التحول لا يعكس انقساما داخل الطائفة بقدر ما يعكس إعادة تموضع أخلاقي وسياسي، فهو انتقال من منطق “النجاة عبر الحماية” إلى منطق “الكرامة عبر المشاركة”، ومن تعريف الهوية بالدم إلى تعريفها بالحق، وإذا ما استطاعت السلطة الجديدة التعامل مع هذا التحول بوصفه فرصة لا تهديدا، فسيشكّل الساحل على نحو غير متوقع منطلقا لسلم أهلي أكثر رسوخا لا يقوم على الخوف المتبادل بل على إدراك مشترك بأن العدالة هي الشكل الأسمى للحماية.

الديناميات الإقليمية وتأثيرها على السلم الأهلي

يأتي هذا الحراك في لحظة تشهد فيها المنطقة إعادة تموضع شامل، من انفتاح عربي مشروط تجاه سلطة دمشق، وتراجع الحضور الروسي بفعل انشغاله بأوكرانيا، وانتهاء النفوذ الإيراني، والأهم البدء بصفحة علاقات جديدة مع واشنطن، ويبدو الساحل السوري ساحة اختبار لتوازنات جديدة، فالتعامل القمعي مع المظاهرات لا يهدد فقط الاستقرار الداخلي، بل يفتح الباب أمام استغلال إقليمي لمظلومية محلية.

فالسلم الأهلي في سوريا لن يُحفظ بالترهيب، بل بتقاسم حقيقي للسلطة والموارد، وأي مقاربة أمنية صِرفة ستعيد إنتاج الصراع داخل الجسد الواحد، بينما الاعتراف بالتعددية المحلية سيحول الانقسام إلى تمايز وظيفي صحي في بناء الدولة.

نحو عقد اجتماعي جديد

الأسئلة التي تطرحها تظاهرات الساحل ووسط سوريا ليست محلية فحسب، بل تتصل بمصير سوريا الحديثة، فكيف يمكن بناء دولة لا تُقصي أحدا ولا تحتكر قرارها في يد جماعات تفتقد التعريف الواضح للهوية الوطنية؟ كيف يمكن تحويل مفهوم اللامركزية من آلية إدارية إلى فلسفة حكم؟ وكيف يمكن إعادة تعريف السلم الأهلي على أنه توازن بين المصالح لا مجرد غياب للعنف؟

الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ملامح سوريا الجديدة، فإذا استطاعت السلطة الجديدة أن تُدخل الحراك العلوي في مشروع وطني شامل، فإن البلاد ستبدأ مسار إعادة بناء سياسي حقيقي، أما إذا استمرت في منطق الشك والرقابة والقتل والتعدي، فإن الانقسام الجغرافي والاجتماعي سيترسخ ويجعل من السلم الأهلي مجرد هدنة مؤقتة.

من الحماية إلى المشاركة

التحول الجاري في الساحل ليس مجرد رد فعل على انتهاكات أو مطالب خدمية، بل هو إعلان عن وعي جديد يرى في المشاركة السياسية ضمانة الوجود، فهي ثورة صامتة داخل الوعي السوري، تُعيد تعريف مفهوم الحماية، فليس المطلوب من السلطة أن تحمي الطائفة، بل من الدولة أن تحمي مواطنيها.

بهذا المعنى، فإن تظاهرات الساحل لن تكن نهاية مرحلة، بل بدايتها، فهي إعلان أن السلم الأهلي في سوريا لن يُبنى إلا على الاعتراف المتبادل، والمواطنة المتكافئة، وقاعدة حقوقية واحدة تُعيد توزيع القوة على قاعدة المصلحة الوطنية، لا العصبية الطائفية.

اللامركزية والسلم الأهلي في سوريا الجديدة

اللامركزية والسلم الأهلي في سوريا الجديدة

احتجاجات الساحل وإعادة تشكيل الهوية

الدوافع الرئيسية للاحتجاجات

المطالب الأساسية للمحتجين

توزيع الاحتجاجات الجغرافي

التحول في بنية الوعي الجمعي

تُظهر التظاهرات في مدن الساحل أن الوعي الجمعي للطائفة العلوية دخل مرحلة جديدة من التأمل والمساءلة بعد عقد من الحرب التي دفعت خلالها هذه المناطق أثمانا بشرية واقتصادية باهظة.

ما قبل الحرب
الولاء المطلق للسلطة والاعتماد على منطق الحماية الفوقية
خلال الحرب
دفع أثمان بشرية واقتصادية باهظة وفقدان الثقة بجدوى التضحيات
المرحلة الحالية
الانتقال إلى منطق “الكرامة عبر المشاركة” وإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع

الديناميات الإقليمية وتأثيرها على السلم الأهلي

الانفتاح العربي المشروط

تأثير سياسي واقتصادي على موازين القوى الداخلية

التراجع الروسي

بفعل انشغال موسكو بأوكرانيا وتداعياته على الوجود في سوريا

انتهاء النفوذ الإيراني

تغير في المعادلات الأمنية والاقتصادية الداخلية

العلاقات مع واشنطن

البدء بصفحة جديدة تؤثر على التوازنات الإقليمية

من الحماية إلى المشاركة: نحو عقد اجتماعي جديد

التحول الجاري في الساحل ليس مجرد رد فعل على انتهاكات أو مطالب خدمية، بل هو إعلان عن وعي جديد يرى في المشاركة السياسية ضمانة الوجود، لا في الولاء الأعمى.

هذه التظاهرات ليست نهاية مرحلة، بل بدايتها، فهي إعلان أن السلم الأهلي في سوريا لن يُبنى إلا على الاعتراف المتبادل، والمواطنة المتكافئة، واللامركزية التي تُعيد توزيع القوة على قاعدة المصلحة الوطنية، لا العصبية الطائفية.

الأسئلة التي تطرحها تظاهرات الساحل ووسط سوريا تتصل بمصير سوريا الحديثة، فكيف يمكن بناء دولة لا تُقصي أحدا ولا تحتكر قرارها في يد نخبة مركزية؟ وكيف يمكن تحويل مفهوم اللامركزية من آلية إدارية إلى فلسفة حكم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *