على مدى ثماني وأربعين ساعة فقط (29–30 نيسان 2025) تحوّلت ضاحيتا جرمانا وأشرفية صحنايا من فضاءٍ مديني مزدحم إلى مسرحٍ مفتوح لعنفٍ أهلي طائفي خلَّف 47 قتيلاً وعشرات الجرحى، ما يبدو ظاهريا مجرّد اشتباكٍ مسلّحٍ على خلفية إشاعة دينية هي في عمقها انعكاس لبنية سلطوية أعيد تركيبها بعد سقوط النظام السوري أواخر 2024: أجهزةٌ أمنية تحتكر العنف دون مشروع وطني جامع، وقواتٌ رديفة لا تملك انتماء سوري نتيجة تغلغل العناصر الأجنبية مع عقيدة جهادية عابرة للحدود، ومجتمعاتٌ محليّة تحتمي بهويتها الفرعية، إن تفكيك تلك البنية الأيديولوجية–المؤسسية سمحت بتحوُّل الاحتقان إلى عنفٍ ممنهج يُستخدم بوصفه آلية ضبط اجتماعي-سياسي.
سياق ما بعد السقوط: تفكّك الرأس وتكاثر الأطراف
لم يؤدِّ انهيار المركز الرئاسي إلى فراغٍ شامل فقط، بل إلى “تشظّي الشرعية” بين وزاراتٍ تحتفظ بأختامها، وميليشياتٍ محليّة ورثت ترساناتٍ كاملة لقاء الولاء اللحظي، ونشأت ثنائية “وزارة الدفاع/الداخلية” في مقابل “القوات الرديفة”، فيما احتفظ “الأمن العام” المكوَّن من مقاتلي تسويات الغوطة بسلطةٍ موازية داخل ريف دمشق، وهذه التوليفة استبقت قيام أي عقدٍ اجتماعي جديد، فصار العنف أداة تفاوض رئيسة بين الشركاء الخصوم، وكلّ فاعلٍ يملك مصلحة مادية مباشرة في استمرار السيطرة على طريق المطار أو الطريق الدولي دمشق–السويداء، ما يُحوّل الاحتكاك الطائفي إلى صراعٍ على الريع.
آليات الضبط السلطوي عبر العنف الأهلي
النقطة الأساسية في صورة سوريا الحالية هي “خصخصة العنف”، فعندما تَستَبدل الدولة أجهزة الضبط النظامية بميلشيات “رسميّة-مدنية”، فإنها تستطيع إنكار المسؤولية السياسية مع الاحتفاظ بالقدرة على التأثير، في المقابل هناك ما يمكن أن نسميه بـ”تطييف الأمن” عبر تولي اللجان الدرزية على سبيل المثال حماية الأحياء الخاصة بها، والأمن العام حماية الأحياء السنيّة، ويُعاد ترسيم المجال العام على هذا الأساس، فيبدو وكأنه جزء من السياسة العامة في دمشق، فالسيطرة على سوريا كانت عبر تحالف فصائل ولم تكن من خلال تحالف سياسي، وفرضّ تفكير الفصائل نفسه على بنية الدولة وإدارتها.
العامل الأخطر جاء عبر التهديد “الإسرائيلي” بالحماية العابرة للحدود، ما رفع كلفة فشل السلطة المركزية وأضفى شرعية على حمل السلاح داخل المجتمعات المحلية، فالتعامل “الإسرائيلي” سيجعل منطقة مثل جبل العرب أو سهل حوران امتدادا حيويا لأمن “إسرائيل”، وسيعيد رسم البنية السكانية من جديد عبر ربط المجتمعات المحلية بأفرعها في الجولان المحتل أو غيرها من المناطق داخل “إسرائيل”.
العنف الطائفي كأداة إنتاج الشرعية
في ظل تفكّك المركز، يُعيد العنف الأهلي إنتاج شرعيةٍ بديلة عبر آليتين: الأولى إيديولوجية/دينية من خلال “إشباع” المجتمع بمنطق “الدفاع عن المقدسات”، وهذا ما ظهر في تداول التسجيل المسيء للنبي ﷺ للتعبئة، والآلية الآخرى تجلت من منطق “الحماية” من “الآخر”، فظهرت اللجان في السويداء وجرمانا وصحنايا كدرع ضد السلفية، ونتيجة سياسية لعملية “التغييب” للمكونات الاجتماعية من التمثيل السياسي.
عمليا كل رصاصة تُطلَق تُعيد تعريف من يملك “حق العنف المشروع” الذي حدّده ماكس فيبر كركيزة للدولة؛ لكن في الحالة السورية الحالية يتفتّت هذا الحق إلى جزر صغيرة تتبادل الاعتراف الضمني، وينقلب منطق “احتكار العنف” إلى إضفاء الشرعية على العنف المتخصّص، فالميلشيا التي تنجح في حماية طائفتها تُمنح دورا رسميا؛ وأي إخفاق في الحماية يعرضها لخسارة رأس مالها الرمزي ومكانتها في السوق الأمنية.
سيؤدي الواقع الحالي لتثبيت الهويات الدفاعية، فكل دورة عنف تعمّق سردية “الأقلية المُستهدَفة” أو “الأكثرية المخذولة”، ما يجعل من الصعّب العودة إلى صيغة مواطنة فوق طائفية، وكلما جرى تأطير العنف كحماية طائفة، تعاظمت شرعية التدخل الخارجي (إسرائيل مثالا)، ما يضعف سيادة المركز ويمنح الفاعلين المحليين أوراق ضغط إضافية، فالسلطة الراهنة لا تكتفي بتسويغ العنف الطائفي؛ بل توظّفه كسُلَّمٍ لإعادة بناء شرعية مفقودة وتثبيت نظام أمني – ريعي جديد تُرسم حدوده بالدم والخوف بدل الدستور والقانون.
في قراءة حصيلة البيانات للأيام الثلاثة القادمة يتبين أن 34% من القتلى هم أفراد الأمن العام في أشرفية صحنايا، ما يكشف هشاشة جهازٍ يُفترض به ضبط السلاح، ومقتل 24 من طائفة الموحدين (51 %) في أقل من يومين، ما أعاد تسييس العلاقة بين جبل العرب ودمشق، وفاقم ضغط شيوخ العقل على السلطة، ويظهر المنحنى الزمني خمس طفراتٍ دموية متطابقة مع نقاط تحوّل” سياسية (الكمين، الضربة الإسرائيلية)، ما يعزّز فرضية استعمال العنف كرسالة تفاوضية لا كفوضى عشوائية، كما يبين الرسم البياني التالي:

سيناريوهات ما بعد الاشتباك
بعد جولة العنف الأخيرة في جرمانا وصحنايا وتنقّلها بين أجهزة الدولة المتصدّعة واللجان المحليّة والفاعل الإسرائيلي العابر للحدود، تتقاطع أمامنا أربعة مسارات محتملة؛ يختلف كلٌّ منها في محرّكاته الداخلية والخارجية وفي الأثمان السياسية والأمنية المترتبة عليه:
- سيناريو الاحتواء قصير المدى
يجري هذا السيناريو حاليا حيث يتم التعامل مع “لجنة وجهاء” تشكّلت تحت ضغط الاشتباكات، أو حتى قبلها نتيجة التهميش السياسي، لجمع السلاح الفردي والمتوسط خلال مهلةٍ زمنية تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام، ويركن مركز السلطة إلى هذه الترتيبات لتهدئة الرأي العام الداخلي والدولي، رافعاً شعار “استعادة هيبة الدولة”، وفي حال نجحت اللجنة في سحب السلاح وضمان تعويضاتٍ أوليّة للمتضرّرين، ينخفض مستوى الاحتكاك الطائفي، لكن تبقى جذور الصراع نتيجة غياب عقد اجتماعي جامع.
- سيناريو تعزيز الإدارة الذاتية
إذا فشلت عملية جمع السلاح أو بدت صورية، سيجد أبناء طائفة الموحدين في السويداء حُجّة إضافية لتقوية “اللجان الأمنية المشتركة” في جرمانا وصحنايا بوصفها امتداداً لشبكات الحماية في جبل العرب، وهذا يعني اقتراب الضاحيتين من نموذج “إدارة أمنية ذاتية” شبه منفصلة تتولّى ضبط الحواجز وتسيير دوريات مستقلّة، مع اعترافٍ ضمني من دمشق مقابل التزام تلك اللجان بعدم قطع طريق المطار الدولي، ونجاح هذا السيناريو يربط أمن الريف الجنوبي ببنية طائفية صلبة، ويزيد صعوبة إعادة بناء مؤسسات أمنية مركزية لاحقاً.
سيناريو التدخّل الإسرائيلي الأوسع
يرتفع احتمال هذا المسار إذا تكرّر استهداف المدنيّين أو أخفقت السلطة في حماية خطوط إمدادهم، عندها ستجد تل أبيب مبرّراً لتوسيع ضرباتها “الوقائية” المنشورة إعلامياً بحجّة الحماية عبر الحدود، ويشمل ذلك إنشاء شريط مراقبة جويّ دائم أو استهداف مخازن سلاح تابعة للأمن العام قرب صحنايا، والأثر المباشر سيكون تقويض ما تبقّى من سيادة سوريا على المجال الجوي في الجنوب، وإعادة رسم قواعد الاشتباك بحيث يتحوّل أي احتكاك طائفي إلى ذريعة جاهزة للتدخل الخارجي.
سيناريو الانزلاق الإقليمي
هذا المسار يَنتج إذا تزامن التصعيد في ريف دمشق مع اشتعال جبهات موازية، كحوران في درعا أو أطراف إدلب، فتجد أنقرة وتل أبيب وحتى الرياض واقعا بفرض إعادة توزيع النفوذ، وتغذية الصراع على محاور طائفية في الجنوب، أو فرض مناطق نفوذ لميليشيات مدعومة خارجيا يجرّ إلى سلسلة صراعات بالوكالة تُعيد إنتاج مشهد ما قبل 2020 لكن في ظل غياب الغطاء الروسي الحاسم؛ هنا يصبح طريق المطار ومحيط دمشق عقدةَ اشتباكٍ دولية، وتخرج الأحداث من طور الاشتباكات المحدودة إلى حرب مواقع تتعدّى قدرة أيّ لجنة محلّية أو وزارة متشرذمة على احتوائها.
إن أكثر هذه السيناريوهات ترجيحاً هو “الاحتواء قصير المدى” يليه “تعزيز الإدارة الذاتية”، فهما يتوافقان مع مصلحة السلطة المركزيّة في كسب الوقت ومع حاجة اللجان المحليّة إلى اعترافٍ رسمي يضمن لها والحماية، لكنّ الفشل في تحقيق الحد الأدنى من الأمن أو شيوع استهدافٍ طائفيّ جديد سيقذف المنطقة سريعاً نحو التدخّل الإسرائيلي أو الانزلاق الإقليمي، وكلٌ منهما يحمل كلفة سياديّة عالية ويُرسخ واقع التفكّك بدل معالجته.
إنّ ما جرى في جرمانا وصحنايا يتجاوز حدود “شجارٍ طائفي” إلى كونه “اختباراً عملياً لنموذج السلطة السوريّة بعد 2024″، أي سلطة بلا رأسٍ واحد، تستبقي أدوات العنف وتعيد تلزيمها محلياً مقابل ولاءٍ مصلحي، وبهذا الشكل يصبح العنف الأهلي حين يُدار ويُبرَّر أحد أهم “آليات الضبط السلطوي” في مرحلة ما بعد الدولة المركزية، وربما يشكّل اللبنة الأولى لبناء نظامٍ أمني – اقتصادي قائمٍ على الهوية والريع لا على العقد الاجتماعي.
لم أقرأ تحليلا شاملا يفكك الغاز المسألة السورية بهذا العمق الواعي تحياتي بلال
إن هذا التحليل يستند إلى واقع حقيقي على الأرض ، وأعتقد كما ورد في التحليل ، أن الأمور مرشحة لتصاعد العنف الأهلي بسبب رئيس هو وجود تحريض طائفي ممنهج من الخارج والداخل وتنفذه مجموعات مسلحة غير منضبطة معظمها من الأجانب البعيدة عن فهم الإسلام المعتدل الشامي الأصيل ، والتي لايمكن الحوار معها أو ضبطها بشكل شبه مطلق ، ومن جانب آخر ، كأن سلطة الأمر الواقع تحبذ انتشار مثل هذه البؤر لتستعرض قوتها وبأسها بمواجهة مدنيين عزّل لفرض سياسة الخوف والرعب التي انتشرت في كل الأرياف والمدن بشكل واسع بحجة ملاحقة الفلول …..
للأسف الشديد نحن نخسر كل يوم من أبناء سوريا ، دماً نقياً طاهراً ، يجري المتاجرة فيه من الكيان الصهيوني وتابعيه في الداخل والخارج .
تحياتي لك ان ما عرضته لواقع الحال والاستبيانات للمرحله المقبله عليها الجغرافيا الشاميه لهو توصيف دقيق وتشريحي لهذه البنية اللتي رُكِبَت على عجل وأُريدَ لها ان تكون “جامعه”للأطياف والمكونات ستستدعي كما ذكرت حضرتك تدخلات بارده وساخنه لن تقتصر على قوى الاقليم بل القوى الدوليه ذات المصالح اعتقد أننا امام اعتى مشاريع التجزئه والتفتيت وهذه هي البدايات فقط ولن تبقى بحدود العلويين والدروز بل ستتنقل الى مكونات عرقيه ودينيه أخرى .