قراءة نقدية لسياسة واشنطن الراهنة في سوريا على ضوء “خمسة ألغاز”

تفتح هذه القراءة النقدية نافذة على جوهر خطاب الدبلوماسية الأمريكية في سوريا من خلال فحص منهجي لورقة السفير مايكل أ. راتني “خمسة ألغاز: الولايات المتحدة والصراع في سوريا”، فالمعوقات التي حددها أمام تحقيق المصالحة السياسية، وربطها بسياق السياسات والبيانات الرسمية التي أصدرتها واشنطن خلال الفترة الأخيرة أصبح ضروريا في ضوء رفع العقوبات.

إن دمج الرؤى التحليلية لراتني مع تطورات الخطاب الأمريكي في جنيف، أنقرة، وواشنطن، يكشف  النقاط العمياء في الاستراتيجية الحالية، منذ أواخر 2024 والبيت الأبيض يلوّح بأن الملف السوري لم يَعُد حربا أبدية بل مشكلة قابلة للإدارة”، إلا أنّ سلسلة القرارات التي صدرت في ربيع 2025 وخففت العقوبات، مع النية لخفضٌ القوات أمريكية، إضافة لنخراط واشنطن بمسار تفاوضيّ مع أنقرة وموسكو يوحي بأن واشنطن تتبنى اليوم ما يمكن وصفه بسياسة “تحرير الموارد” لا “تحقيق الأهداف”.

ضغط أقلّ… نفوذ أدنى

إصدار وزارة الخزانة “الرخصة العامة 25” وما تبعها من تعليق مؤقت لعقوبات «قيصر» لمدة 180 يوما يُنهي ستة عشر عاما من سياسة “الخنق الاقتصادي”.

 تربط الإدارة الإعفاءات بـ”سلوك بنّاء” لحكومة أحمد الشرع الوليدة، لكن غياب معايير مُلزمة كالتقدم في الإفراج عن المعتقلين يجعل الضغط مجرّد أداة تفاوضية مخفّفة لا رافعة استراتيجية، في «لغز راتني» الأوّل رأينا كيف أدّت الإجراءات العقابية غير المحمية بخطة سياسية إلى مزيد من الاتكاء على طهران وموسكو في مرحلة النظام السابق، واليوم يُخشى أن يكرّر التاريخ نفسه: موارد الدولة السورية تتدفّق مجددا نحو الشبكات نفسها التي موّلت آلة القمع، بينما يخسر صانع القرار الأمريكي ورقة التأثير الرئيسة قبل انتزاع أي تنازل ملموس.

مسألة المعارضة – هل ما زالت رهاناً صالحاً؟

خفض وجود القوات الأمريكية إلى أقل من ألف عنصر خلال “الأشهر المقبلة”  يبعث رسالة مزدوجة: بقاء أولويّة مكافحة “داعش” ، لكن دعم البنى السياسية والعسكرية المحلية يتراجع، فتجربة السنوات الماضية أظهرت كما لخّص «لغز المعارضة» عند راتني، أن فصائل الداخل تعاني انقساما بنيويا لا تحله بيانات الاعتراف أو سابقا منصّات جنيف.

ومع انسحابٍ تدريجي للقدرات الأمريكية البرية سيزيد الفراغ الأمني، وستجد المعارضة المعتدلة نفسها إما تحت رحمة “قسد شرقا أو الفصائل المدعومة تركيا شمالا، أو حتى مع طبيعة الحكم الجديد في دمشق التي تبدو مرحلته الانتقالية طويلة جدا، أي أن واشنطن تُضعف ما تبقّى من نفوذ لها لدى أطراف راهنت عليها طويلا، من دون أن تُنشئ بديلا يعيد التوازن على الأرض.

فخ أنقرة – “لغز تركيا” يتعمّق

أصدرت وزارتا الخارجية والدفاع الأسبوع الماضي بياناً مشتركاً عن “مجموعة العمل التركية-الأمريكية حول سوريا”؛ يؤكد “تنسيقاً أوثق للقضاء على تهديد حزب العمال الكردستاني” .

من منظور واقعي، تحتاج واشنطن إلى علاقات مستقرة مع حليفتها في الناتو، لكن المقايضة التقليدية “أمن الحدود مقابل دعم قسد ضد داعش” لم تعد قابلة للاستدامة مع تقلّص الحضور الأمريكي، وهنا يتبدّى “لغز راتني” الثالث: كلما اقتربت واشنطن من أنقرة ابتعدت عن شريكها الكردي، والعكس بالعكس.

خطة الانسحاب الجزئي تعني فعليا نقل عبء ضبط شمال-شرق سوريا إلى تركيا ما يجعل استمرارية هزيمة داعش رهناً بنوايا طرف لا يتشارك واشنطن نفس الرؤية الشاملة لمرحلة ما بعد التطرّف.

التعاون مع موسكو… بلا أرضية مشتركة

لم تُعلَن أي قناة تنسيق رسمية جديدة مع روسيا، ومع ترحيب الكرملين بالإعفاءات الأمريكية من العقوبات يتكرّر “لغز روسيا” الذي أشار إليه راتني: تعاون تكتيكي محدود من دون توافق استراتيجي على مستقبل دمشق.

فموسكو لا تزال موجودة في سوريا عبر قاعدة حميميم، واستراتيجية الدولتين تقاطعنا بعد انتهاء النظام السابق على مسألة الاستقرار، ولكن معضلة النفوذ في سوريا ماتزال غير واضحة.

التدخلات الخارجية – من صِدام الأجندات إلى فراغ الإرادات

الرئيس ترامب أعلن نيّته رفع جميع العقوبات استجابة لطلب مباشر من الرياض، وذلك يفيد في جذب استثمارات خليجية تُعيد تدوير الاقتصاد السوري، لكن التجارب التي استشهد بها راتني من البوسنة إلى العراق تذكّرنا بأنّ تدفّق المال بلا شروط حوكمة وأمن يعيد إنتاج منظوماتٍ فاسدة ويُطيل أمد الصراع الأهلي بحُجّة إعادة الإعمار.

سيُعاد فتح السوق السورية أمام مقاولين دوليين قبل أن تُفتح قاعات المحاكم للضحايا، فتختلّ معادلة “لا إعمار بلا حل سياسي” التي كانت الورقة التفاوضية الأهم بيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ما الذي تغيّر، وما الذي بَقِي؟

حتى مع تحوّل العناوين من “إسقاط النظام” إلى “خفض التصعيد” إلى “التعافي المبكر” وصولا لدعم الحكومة الانتقالية، يبقى الصراع ثلاثيَّ الأبعاد كما وصفه راتني: مكافحة الإرهاب، الصراع على السلطة، ومواجهة إيران.

الجديد هو أنّ الإدارة الحالية قرّرت ترتيب هذه الأبعاد عكسيا: أولاً خفض الانخراط العسكري لتقليل التكاليف، ثانيا فتح الباب أمام دبلوماسية التطبيع الإقليمي، وأخيرا الاكتفاء بعمليات محدودة “فوق الأفق” ضد قادة داعش.

إذا كان مايكل راتني صاغ ألغازا خمسة عجزت واشنطن عن حلها في عقدٍ مضى، فإن الإدارة الحالية توشك أن تضيف لغزا سادسا: كيف تتخلّى عن أدوات التأثير المتبقية وهي تسعى نظرياً إلى نتائج أفضل؟ إن تخفيف العقوبات وخفض القوات وتصعيد الوعود الدبلوماسية، من دون هندسة أمنية وعدلية متينة، ليس انحسارا مدروسا بل انسحاباً قُدِّر له أن يرفع الكلفة الإنسانية ويعيد الكرّة السياسية إلى المربّع الأول، ولا يقتصر الاختبار على السوريين وحدهم؛ إنه اختبار لمصداقية واشنطن حين تعلن أن حقوق الإنسان والأمن الإقليمي ركيزتان لا غنى عنهما في سياستها الخارجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *