تُظهر التعيينات الأمنية الأخيرة في سوريا، الصادرة في 25 أيار 2025، نهجا واضحا في “الطائفية الإدارية” الذي يُعيد إنتاج الانتماءات السلفية داخل هيكل الدولة الأمنية، ففي حين سعت الحكومة الانتقالية، إلى عرض تنوع سياسي رمزي عبر تشكيلة وزارية تبدو شمولية، اتخذت خطوة عميقة لإعادة هيكلة وزارة الداخلية وقوات الأمن الداخلي تُوحّد الشرطة مع جهاز الأمن العام تحت قيادة موحدة.
تم خلال هذه العملية تعيين قادة رئيسيين لمناصب أمنية مركزية وإقليمية، شملوا شخصيات بارزة انتمت سابقا لجماعات “هيئة تحرير الشام” (“HTS”) وحركة “أحرار الشام”، ما يكشف عن رغبة في إدارة التنوع عبر آليات وساطة محلية تعتمد على رموز سلفية أكثر منها على شراكة وطنية حقيقية.
سياق الحكومة الانتقالية وإصلاح وزارة الداخلية
تم تشكيل الحكومة الانتقالية السورية في 29 آذار 2025، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، خلفا لحكومة تصريف الأعمال السابقة، على وقع هذا التغيير، أعلنت وزارة الداخلية في 25 أيار عن “إصلاح شامل” هدفه توحيد الشرطة وجهاز الأمن العام تحت مسمى “قيادة الأمن الداخلي الإقليمي”، وتأسيس مديريات متخصصة للأمن السيبراني والاتصالات الرقمية وشكاوى المواطنين، مع إطلاق بوابة رقمية مركزية لالتماسات الناس والاهتمام بمكافحة المخدرات وحرس الحدود.
جاءت هذه الخطوة بعد جلسة استشارية ضمت خبراء قانونيين وإداريين وأمنيين، بينهم من مارسوا العمل داخل أجهزة الدولة سابقا، وذلك في محاولة لتقديم الجهاز كمنظومة “خدمة” تُعلي سيادة القانون والسلام الأهلي، لكن إعادة هيكلة المناصب القيادية العسكرية والأمنية تبيّن عن نية ضمّ شبكة من الشخصيات السلفية السابقة إلى صلب المعادلة الأمنية.
مفاهيم سيمون مابون حول الطائفية الإدارية
يرى سيمون مابون أن الطائفية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية أو دينية، بل “عملية حوكمة” يسعَى من خلالها الفاعلون السياسيون إلى استثمار الخطوط الطائفية لإضفاء شرعية وأداء أمني يُدار عبر جماعات مقيمة داخليًا وخارج أطر المواطنة الشاملة.
ووفقا لهذا المنظور، تتخطى “الطائفية الإدارية” الانقسامات السنية–الشيعية و الدرزية–السنية والعلوية – السنية، وتذهب إلى إنشاء نظم مؤسساتية ترسم الولاءات عبر وسطاء محليين، ما يؤدي إلى تآكل مفهوم الدولة الوطنية وتعميق الفجوات بين المكونات المجتمعية.
في الكتاب الذي شارك مابون بتحريره “Sectarianism, De-Sectarianization and Regional Politics in the Middle East”، (الطائفية، إزالة الطائفية، والسياسة الإقليمية في الشرق الأوسط) يُبيّن كيف أن إعادة إنتاج الهياكل الطائفية في ليبيا واليمن وسوريا ولبنان يُعيد تشكيل السياسة الإقليمية عبر شبكات أمنية تطوق الدولة المركزية وتمنحها غطاءً “خدميًا” معززا بوظائف قمعية.

أبرز المعينين وخلفياتهم السلفية
- أنس خطاب: من هيئات تحرير الشام إلى وزارة الداخلية
عُيّن أنس حسن خطاب وزيرا للداخلية في الحكومة الانتقالية منذ 29 آذار 2025، بعد أن كان نائبا لقائد “هيئة تحرير الشام” في صفوفها العسكرية والأمنية حتى مطلع عام 2025، وتُظهر سيرته كيف انتقل من مراكز صنع القرار داخل “HTS” إلى موقعه الجديد، ما يعكس رغبة السلطة في استيعاب قيادة سلفية جهادية داخل الإطار الأمني الرسمي.
- حسين السلامة: إحياء جهاز المخابرات ضمن هيكل طائفي
خلف حسين السلامة في 3 أيار 2025، المعروف بلقب “أبو مصعب الشهيّل” ومن أقطاب “HTS”، أنس خطاب في رئاسة جهاز المخابرات العامة، وتحمل هذه الخطوة إشارةً إلى استمرار تبنّي الخبرات السلفية لإدارة ملفات استخباراتية، مع إعادة إنتاج الهياكل نفسها التي خضعت لمعايير الولاء الطائفي.
- أحمد هيثم الدالاتي: التنسيق الصامت بين الجنوب والمفاوضات “الإسرائيلية”
أحمد هيثم الدالاتي، الحائز على شهادة في هندسة الحاسوب، انخرط في المعارضة عام 2011، وانضم لحركة “أحرار الشام” في 2015، وتولى منصب نائب القائد العام للحركة في 2021 قبل أن يُعيّن في آذار 2025 محافظا للقنيطرة ثم قائدا للأمن الداخلي في السويداء في 25 أيار 2025، ويُنظر إلى خبرته في “التنسيق الصامت” مع “إسرائيل” داخل الجولان المحتل كنداء لاستثمار شبكات سلفية ضِمن آليات ضبط اجتماعي طائفي.
- قادة إقليميون آخرون من خلفيات سلفية
بحسب بيان وزارة الداخلية، ضمّت القائمة شخصيات أخرى سبق أن خدم بعضها في جبهة النصرة ثم “HTS”، مثل العميد عبد العزيز هلال الأحمد في اللاذقية، والعميد أسامة محمد خير عاتكة في دمشق، وهما من رموز المنظومة السلفية المسلحة السابقة. ولم يشر البيان إلى قادة من خلفيات حزبية أو مدنية بعيدة عن هذه التشكيلات.
الطائفية الإدارية: منطق الاحتواء لا الشراكة
تعكس هذه التعيينات نمطا من “الطائفية الإدارية”، حيث لا تُعاد مفاوضات التمثيل الدستوري أو شراكة سياسية حقيقية، بل تحديث لأساليب القمع من خلال توظيف وجوه سلفية ضمن هيكل أمني مركزي، وهذا ويؤدي هذا:
- إعادة إنتاج الولاءات فالمؤسسات الأمنية تُدار عبر وسطاء محليين بدلا من مؤسسات مدنية جامعة.
- مزيد من التهميش للأقليات والتعامل معهم كملفات أمنية لا شركاء في بناء العقد الاجتماعي.
- استبعاد الإصلاح فالهيكل الجديد يحدّ من إمكان الإصلاحات الدستورية الشاملة ويعزز القمع المبرر بحجة “الأمن والاستقرار”.
وفي هذا السياق، يفتح مابون الباب أمام “إزالة الطائفية” كبديل، إذ يعرّف العملية كنزع للشرعيات الطائفية من المؤسسات وتوطيد المواطنة عبر آليات شفافة ومساءلة حقيقية.
تداعيات وتحديات
يقود توظيف القادة السلفيين السابقين في هياكل الدولة الأمنية إلى عدد من التحديات:
- مصداقية الإصلاحات حيث يظل الحديث عن “مؤسسة خدمية” موضع شكّ إذا كان القادة المنوطون بحمايتها هم أنفسهم من أسسوا تفوقا طائفيا جهاديا سابقا.
- تعميق الاستقطاب فبدلا من نزع الاحتقان، يستشعر الأقليات استرجاعا لآليات قمعية تعود إلى مراحل ما قبل الدول الحديثة.
- عزلة دولية فوجود هيئات داخل السلطة الانتقالية تعتبرها الكثير من العواصم “إرهابية” يحدّ من شرعيتها ودعمها الدولي.
في ضوء التحوّلات الجذرية التي تشهدها سوريا، تبدو “الطائفية الإدارية” إحدى الآليات التي توظفها السلطة الانتقالية لإدارة التنوع عبر إرث سلفي جهادي، ويُعد اختيار وجوه مثل أنس خطاب، حسين السلامة، وأحمد الدالاتي علامة على استمرار منطق احتوائي – قمعي بديلا عن مشروع دولة مبنية على المواطنة والشراكة الحقيقية.