صفقة الطاقة السورية: “نهوض” أم إعادة تدوير للنفوذ؟

في 29 أيار 2025، اجتمعت النخبة السورية الجديدة برعاية إقليمية ودولية في دمشق، حيث شهدت العاصمة توقيع اتفاقية (الطاقة السورية) التي وصفت بأنها الأضخم منذ اندلاع النزاع عام 2011. بمبلغ 7 مليارات دولار، وخمس محطات طاقة، وأحلام بالاكتفاء الذاتي.

كل هذا بدا وكأنه بداية “عصر ذهبي جديد” للطاقة في سوريا، لكن، كما في كل مشروع ضخم تُحيطه الاحتفالات، تتوارى خلف لغة البيانات الرسمية شبكة معقّدة من المخاطر، الغموض، والاصطفافات الخفية.

الرقم السحري: 5000 ميغاواط… ولكن بأي ثمن؟

الاتفاقية تنص على بناء أربع محطات توليد كهرباء تعمل بالغاز بقدرة 4000 ميغاواط، إضافة إلى محطة شمسية ضخمة بقدرة 1000 ميغاواط، وبحسب الرئيس التنفيذي لشركة “يو سي سي القابضة” القطرية، فإن هذه القدرة ستكفي لتغطية أكثر من 50% من احتياجات سوريا من الكهرباء، خلال ثلاث سنوات.

ولكن كيف سيتحقق ذلك؟ قدرة التوليد الفعلية في سوريا بحلول 2025 انخفضت إلى 1600–2000 ميغاواط، بعد أن كانت تصل إلى 9500 قبل الحرب، وعلى الورق، يبدو الانتقال إلى 7000 ميغاواط إنجازا هندسياً واستراتيجياً، إلا أن الواقع يحفل بعراقيل تتجاوز الأسفلت والإسمنت.

المورد المفقود: الغاز.. بين “قسد” والخرائط وخطوط الإمداد الطارئة

بينما تبشّر الحكومة السورية بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء بفضل مشاريع الطاقة الجديدة، تُخفي الأرقام الرسمية هشاشة الهيكل الذي يُبنى عليه هذا الطموح، إذ أن الغاز الطبيعي لا يزال خارج قبضة الدولة، فهو بين خرائط قيد التفاوض وتحالفات مرهونة بلحظة سياسية غير مستقرة.

فمن أصل 9.1 مليون متر مكعب يُنتجها قطاع الغاز السوري يوميا، لا تسيطر دمشق سوى على 8 ملايين منها، بينما ما تبقى تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهذه المعادلة تجعل أي محطة توليد تعتمد على الغاز عرضة للتوقف، ما لم تتم تسوية السيطرة على الموارد أو تأمين إمدادات بديلة، وفي مواجهة هذا الواقع، لجأت الدولة إلى “بدائل ظرفية” لا تعالج المشكلة من جذورها، بل تؤجّل الانفجار.

غاز تركيا: شريان تحت سيادة الآخر

أبرز “البدائل” يأتي من تركيا، التي تعهدت بتوريد ملياري متر مكعب من الغاز سنويا إلى سوريا، وهذا الرقم يُترجم إلى 1300 ميغاواط من الكهرباء، كما يجري العمل على إعادة تأهيل خط أنابيب كيليس-حلب، ليبدأ في حزيران 2025 ضخّ ستة ملايين متر مكعب يوميا.

لكن المسألة لا تتعلق بالتقنية أو الهندسة، بل بالسيادة، فماذا يعني أن تصبح تركيا التي كانت لسنوات داعماً رئيسياً لفصائل المعارضة المسلحة المزوّد الرئيسي للغاز السوري؟ هذا الترتيب، مهما بدا منقذا تقنيا، يضع مفاتيح أمن الطاقة السوري في يد أنقرة، وإن كان الغاز التركي حلاً مرحليا، فهو في الواقع صفقة جيوسياسية مقنّعة.

الأردن: محطة عبور… أم لاعب جديد؟

الخطة الحكومية تُراهن أيضا على الغاز الأردني كمرحلة تالية، مع تمويل قطري لعمليات الاستيراد بدأ فعلياً في آذار 2025، وهنا أيضا، تتحوّل سوريا من منتج إلى مستورد للطاقة، ومن دولة كانت تطمح إلى بيع الكهرباء لدول الجوار إلى أخرى تعتمد على وسطاء إقليميين في أبسط مقومات الإنتاج.

أما الأردن، الذي يطمح إلى التحول إلى “مركز طاقة إقليمي”، فيبدو أنه يقطف ثمار الانهيار السوري، لا سيما وأنه تعهّد كذلك بتزويد دمشق بالكهرباء عند جهوزية شبكاته السؤال هنا: هل هذا تعاون أم إعادة تموضع لمصالح إقليمية تستغل الفراغ السوري لإعادة هندسة خرائط النفوذ؟

الربط الكهربائي: شبكة من الاعتمادية السياسية

الشق الآخر من الخطة يتضمن استيراد 1000 ميغاواط من تركيا عبر خط كهربائي بجهد 400 كيلوفولت يُتوقع تشغيله قبل نهاية 2025، وعلى الورق، يبدو هذا نموذجا للتكامل الإقليمي، لكن فعليا، يتحوّل الأمر إلى شكل جديد من التبعية، فبدلا من مواجهة مشكلة الغاز، تلتف الحكومة حولها بحلول تُخرج التحكم من يدها وتضعه في قبضة الخارج.

الغاز، بكل أشكاله، لا يزال غائبا عن طاولة القرار الوطني الحقيقي، ما نراه اليوم ليس سياسة طاقة مستقلة، بل استراتيجيات طوارئ تُدار من أنقرة وعمان والدوحة، بتمويل خارجي وأجندات لا تُعرض على البرلمان ولا تناقَش علنا، وإذا كانت سوريا انزلقت إلى أزمة طاقة بسبب الحرب، فإنها الآن تواجه خطر إعادة بناء شبكتها الكهربائية على أساس من الاعتماد والتبعية والتفاوض من موقع الضعف، لا من موقع السيادة.

تحالف المستثمرين: إنعاش الاقتصاد أم خصخصة السيادة؟

التحالف الاستثماري يتكوّن من شركات قطرية، تركية، وأميركية. من بينها:

  • شركة “UCC” القطرية (قائدة المشروع)،
  • “كاليون إنيرجي” و”جنكيز إنيرجي” التركيتان،
  • “باور إنترناشيونال” الأميركية.

هذه الشركات لا تأتي بصفة مستثمرين فحسب، بل كمفاتيح لإعادة دمج سوريا في نظام سياسي جديد، وليس من قبيل الصدفة أن يتم تمويل هذه المشاريع ضمن نظام “BOT” (بناء-تشغيل-تحويل)، أي أن هذه الكيانات ستتحكم بالبنى التحتية لعقود قبل إعادتها – نظرياً – للدولة.

هنا يظهر سؤال: من يملك الكهرباء في سوريا بعد اليوم؟ هل هي الدولة؟ أم شبكات رأسمال عالمي متشابك، تُدير المفاصل الحيوية تحت غطاء القانون؟

العقوبات المرفوعة: هل هي تحرير اقتصادي أم هندسة جيوسياسية؟

مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC) منح في 23 أيار ترخيصا عاما يسمح بالاستثمار في قطاعي الطاقة والنفط، أما الاتحاد الأوروبي، فأزال 24 كيانا من لوائح العقوبات، من بينها البنك المركزي السوري، وهذا التوقيت ليس بريئا، فالصفقة الطاقية جاءت بعد رفع العقوبات مباشرة، وكأنها كانت معدة مسبقا بانتظار “النافذة السياسية”، وحضور مبعوث أميركي رفيع في حفل التوقيع، إلى جانب الرئيس  الانتقالي السوري الجديد، يزيد من الإيحاء بأن الاستثمار ليس اقتصادياً فقط، بل مشروعاً لإعادة هندسة العلاقات في الشرق الأوسط.

عمليا فإن الاتفاقية وحسب التصريحات الرسمية ستخلق 50 ألف فرصة عمل مباشرة، وربع مليون غير مباشرة، أي ما يعادل أكثر من 10% من القوى العاملة النشطة حاليا، لكن التجربة في دول ما بعد النزاعات تُظهر أن هذه التقديرات غالبا ما تكون مضخّمة أو مشروطة بإطار سياسي مستقر… وهو ما لا تملكه سوريا حتى اليوم.

أضف إلى ذلك غياب أي مؤشرات على إصلاح جذري لنظام الأجور، أو على قدرة السوق على استيعاب هذه اليد العاملة في بيئة خالية من الفساد، ما يجعل وعود التشغيل أقرب إلى حملة ترويج استثمارية منها إلى مسار فعلي لإعادة الإعمار العادل.

من جانب آخر ففي سوريا وحسب التقارير الدولية لا توجد لوائح تنظيمية حديثة تتيح دخول آمن للشركات الأجنبية، ولا توجد بنية تحتية قادرة على استيعاب المشاريع الضخمة، فنحن أمام نموذج استثماري يُبنى على “الفراغ”، وليس على مؤسسات، فعندما يُقام مشروع بقيمة 7 مليارات دولار في دولة لا تزال قوانينها الاستثمارية قيد الإعداد، فإن احتمالات المحاباة، الفساد، والتعاقدات الغامضة تصبح جزءاً من بنية الصفقة نفسها، لا استثناءً لها.

الدبلوماسية من بوابة الكهرباء

ليس غريبا أن تلعب تركيا وقطر دورا محوريا في المشروع، فالأولى تسعى لتوسيع ربطها الكهربائي بسوريا لتصدير 1000 ميغاواط، والثانية تموّل واردات الغاز عبر الأردن، لكن هذا الاندماج الطاقي يعكس تحوّلا في دبلوماسية “ما بعد الحرب”، حيث تحل الأنابيب والأسلاك محل البنادق، لتُعيد تشكيل موازين القوى بهدوء.

مشروع 29 أيار قد يشكل تحوّلا في مسار سوريا، لكنه، في جوهره، ليس مجرد خطة طاقة، فهو مشروع سياسي، وهندسة إقليمية، وسباق على من يكتب عقد ما بعد الحرب، وبين لغة الاستثمار، وأرقام القدرة الإنتاجية، هناك سؤال واحد يظل عالقا: هل يُمكن لسوريا أن تُعيد بناء بنيتها الطاقية على أسس سيادة وطنية فعلية؟ أم أن هذه الاتفاقيات ستكون مجرد مرحلة أولى في خصخصة وطن باسم الإعمار؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *