أيار 2025: عودة الموت إلى المشهد السوري بصمت دولي مريب

428  ضحية في شهر واحد، من بينهم 295 مدنيا، ولا يمثل هذا الأمر رقما مجردا بل واقعا يضع المجتمع السوري في رعب دائم، فهو حصيلة ما يُفترض أنه زمن “سوريا الجديدة”، وتقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان عن شهر أيار 2025 لا يقدم مجرد إحصائية؛ إنما وثيقة اتهام جديدة ضد الصمت المحلي والدولي، فوراء هذه الأرقام، تختبئ جريمة مستمرة ضد مجتمع يُستنزف بلا حماية، في دولة لم تعد موجودة إلا كخريطة.

في وقت يتحدث فيه البعض عن “استقرار نسبي”، يفضح التقرير الواقع؛ فلا استقرار، ولا تهدئة، بل تحوّل نوعي في طبيعة العنف، فمن الحرب النظامية إلى القتل المنهجي والعشوائي، ومن الصراع بين جيوش إلى تفكك اجتماعي تتحكم فيه بنادق الميليشيات ومصالح الخارج.

تقويض وهم التهدئة

منذ 2018، كانت مناطق “خفض التصعيد” تمثل عنوانا لمشروع تجميد الصراع، لكنها اليوم باتت من الماضي، فنحن الآن أمام سلطة جديدة كليا في سوريا تتوزع بين فاعلين محليين وإقليميين، لا يجمعهم مشروع وطني ولا حتى اتفاق أمني شامل، ولم تعد هنالك خطوط فصل واضحة ولا تفاهمات ملزمة؛ بل نعيش في مشهد ما بعد الدولة، حيث السيطرة تُفرض بالقوة، ويتغير ميزان النفوذ من قرية لأخرى.

إحصاءات المرصد لهذا الشهر تؤكد أن العنف لم يتراجع، بل تبدّل شكله؛ فمن المواجهات النظامية إلى ممارسة ممنهجة للعنف الميليشياوي، والاغتيالات، والقتل العشوائي تحت عناوين فضفاضة كـ”الأمن المحلي” أو “الاستقرار المجتمعي”.

قراءة في ضحايا أيار: مجتمع مفكك ولامركزية في الموت

قضى295  مدنيا خلال أيار، من بينهم 49 طفلا، هذه الأرقام لا تنتمي إلى مشهد “سلام” هش، بل إلى سياق انفلات أمني مزمن، و 74 شخصاً قتلوا على يد مجهولين، و52 سقطوا بسبب مخلفات الحرب، في المقابل، هناك 30 ضحية لجرائم قتل مباشرة، و41 حالة إعدام ميداني، وكل هذه الأرقام تضع المجتمع السوري أمام مأزق مزدوج، فهناك دولة فاشلة غير قادرة على ضبط العنف، وشبكات محلية تتصرف كسلطات أمر واقع.

أما اللافت فهو ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين مقارنة بغير المدنيين (295 مدنيا مقابل 133 غير مدنيين)، وهذه النسبة تعكس أن دائرة العنف لم تعد تدور فقط على من يحملون السلاح، بل باتت تطحن المدنيين بشكل مباشر، سواء عن طريق التفجيرات أو العبوات الناسفة أو حتى الرصاص الطائش.

من يحكم سوريا فعلياً؟

ينقسم الضحايا غير المدنيين بين قوى متصارعة لا يجمعها سوى العداء المشترك لفكرة الدولة المركزية، فقوات إدارة العمليات العسكرية فقدت 35 عنصرا، في حين خسر تنظيم “الدولة الإسلامية” 5 مقاتلين، وسقط 80 مسلحاً محليا، أي جماعات عشائرية أو مناطقية تتحرك بمعزل عن القيادة المركزية.

هذا التفكك يعيدنا إلى سؤال مركزي: من يحكم سوريا فعلياً؟ النظام في دمشق؟ الفصائل الكردية؟ المليشيات المحلية؟ أم أن الحكم موزع بين خطوط السيطرة والرشوة والسلاح؟ التقرير يعيد التذكير بأن الجغرافيا السورية لم تعد تدار من قبل دولة بل من قبل طيف متنوع من أمراء الحرب.

الجريمة كسلوك يومي: من قتل الطفل؟

حين يُقتل 20 طفلا بمخلفات الحرب، و8 في جرائم قتل، و3 بانفجارات ألغام، و2 تحت التعذيب، لا يمكن اعتبار هذا هامش خطأ في صراع مسلح، بل هو نمط ممنهج من العنف ضد فئة لا تملك حتى خيار الهروب، فالأطفال في سوريا اليوم ليسوا مجرد ضحايا عرضيين بل مؤشرات على فشل جميع الأطراف في حماية ما تبقى من إنسانية.

لماذا الصمت الدولي؟

السؤال اليوم لم يعد عن إغفال السلطات في دمشق أو حتى المجتمع الدولي عن هذا الأمر، أو عن جدوى الصمت، إنما عن “النية”؛ فهل ثمة إرادة دولية فعلا لإنهاء النزيف؟ أم أن سوريا باتت ساحة اختبار لإعادة ترتيب النفوذ الإقليمي والدولي؟ في ظل انشغال العالم بملفات أوكرانيا وغزة وتايوان، يبدو أن سوريا خرجت من أولويات السياسة الدولية، لتُترك للفوضى المسلحة وإدارة العنف بالوكالة.

هل هناك أفق؟

الأرجح أن مسلسل القتل سيستمر، وبأن أيار 2025 لن يكون استثناء، بل رقما إضافيا في سلسلة تقارير شهرية توثق الموت، ولا تغيّر من معادلة الصراع شيئاً.

الصراع السوري اليوم يحمل معه مفهوم “اللا دولة” كحالة لا تسبق الحرب ولا تليها بل تتخللها وتستمر بعدها، ما نشهده في تقرير أيار هو تكثيف حيّ لهذه اللا دولة، فسلطة من دون سيادة، وموت بلا محاسبة، ومجتمع بلا حماية.

إن كانت سوريا اليوم مرآة لما يمكن أن تؤول إليه دولة مكسورة تُدار بالصراع لا بالحكم، فإن ما نحتاجه ليس فقط تقارير توثيق، بل استراتيجية خروج من هذه الحالة الممزقة، تبدأ بالاعتراف أن لا أحد يربح حرباً بلا دولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *