الإيغور في دمشق: “حرس بريتورياني” أم نواة لجيش ما بعد الدولة؟

في زمن انهيار الأطر الكلاسيكية للدولة، تفتح سوريا من جديد باب الأسئلة حول ماهية “السيادة”، وطبيعة “الجيش”، ومعنى “الولاء”، في قلب هذا المخاض الجيوسياسي، يظهر مشهد درامي يتجسّد في اعتماد رئيس سوريا المؤقت أحمد الشرع على وحدات أمنية يغلب عليها الطابع الأجنبي، من مقاتلي الإيغور الذين ينتمون لتنظيم “الحزب الإسلامي التركستاني”، الذين كانوا يومًا رأس رمح في الجهاد العابر للحدود. فهل نحن أمام استيرادٍ للقوة أم تأسيس لعقيدة جديدة في الحكم؟

إن ما طرحه التقرير المنشور في6  حزيران 2025 على موقع Intelligence Online  بعنوان:

Syria – A Uighur praetorian guard for the new Syrian regime?”, ليس نقاشا عن “الأمن”، بل عن فلسفة الدولة، وإعادة تعريف العلاقة بين الأرض والحكم في عصر ما بعد الحداثة السياسية.

الهوية الوظيفية للسلطة: بين الجهاد والبيروقراطية

يُعيد الشرع – الذي انتقل من عباءة “النصرة” إلى رداء الرئاسة الانتقالية تفعيل منطق الطليعة الجهادية، ولكن عبر أدوات شكلية لدولة تتظاهر بالمؤسسات، وتنتج ما يشبه “بيروقراطية أمنية فوق وطنية”، فالمقاتل الأويغوري، الذي لا يخضع لانتماء محلي أو تراتبية عشائرية، يصبح أداة مثالية لضبط الميدان، لا لأنه سوري، بل لأنه عقائدي، مستعد للولاء لمن يؤمّن له الشرعية العملياتية.

إنه “الحرس البريتورياني الجديد” (فرقة النخبة العسكرية في روما الإمبراطورية) هو في الحقيقة نواة لجيش فوق سيادي، يقفز على الجغرافيا، ويتجاهل شرعية المواطنة، فهم يؤشرون على:

  • مقاتلين لا ينتمون إلى الجيش الوطني أو مؤسسات الدولة السورية.
  • ولاؤهم المباشر هو للرئيس أو للقيادة التي وفّرت لهم الحماية والتمويل والتجنيس، وليس لسوريا ككيان وطني.
  • يمثلون أداة أمنية فوق وطنية، خارج الهياكل التقليدية للسيادة والتمثيل الشعبي.
  • هم جسم أيديولوجي مغلق يمكن أن ينقلب لاحقا على من يستخدمه، كما فعل الحرس البريتوري في روما.

الصين على الباب: المعضلة الأوراسية

من وجهة نظر أوراسية، يظهر الملف الأويغوري في سوريا كمؤشر خطير على زعزعة المجال الحيوي الصيني، فبكين لا ترى في هؤلاء المقاتلين مجرد لاجئين مسلحين، بل قنابل زمنية، فهم منشقون عن هوية الدولة الصينية، ومشبعون بعقيدة الانفصال المقدّس، ويتحوّلون اليوم إلى عناصر مُجنّدة ضمن قوة “رسمية” سورية، بوظيفة حماية رئيس انتقالي.

هنا تتقاطع خطوط القلق الجيوسياسي الذي يظهر في الخوف من استخدامهم كورقة ضد بكين، وتحوّل سوريا إلى منصة لابتزاز إقليمي بأدوات جهادية، وهي لحظة تذكّرنا بأفغانستان الثمانينيات، حين ولدت القاعدة من رحم استراتيجية عابرة للحدود.

ما يجري في سوريا اليوم ذوبان للإطار الجغرافيّ للدولة ضمن “تفكيكٍ للسيادة الوطنية”، لا تأسيساً لجيش بناء على التعريف الوطني والمهني، بل على الولاء العقائدي، تحديداً لزعيم محلي لا للوطن، فهو “جيش الجهاد المعولم” ويعاد تشكيله بنمط قانوني جديد وإعادة تدوير حركات جهادية، لا حلّها، تحت غطاء مؤسساتي رسمي.

المفارقة الأخطر هي عدم معارضة واشنطن، بل على العكس تعلن بأن هذا الأمر “تسوية مؤقتة قابلة للإدارة”، وتُمثل انتصارا لطبيعة النظام الرمادي المرتبط بنماذج التدخل غير المباشر والموجه عن بعد.

رأس السيادة المزدوج: توازن قوى هش بدوافع استراتيجية

في ظل السياسة الأميركية المبنية على التوازن الإقليمي وعدم التدخل الكامل، تظهر في سوريا حالياً رأس سيادة مزدوج:

  • مظلوم عبدي شمالا، يضبط الأمن ويحافظ على الاستقرار المحلي دون مستويات حكم سيادية.
  • أحمد الشرع غربا، يتولى دور حارس رمزي للنظام التكنوقراطي المراقَب، بدلاً من بناء دولة ذات شرعية وسيادة.

وكلاهما يُستخدم لتحقيق هدف أميركي واضح: تفادي الانهيار الكامل دون بناء مشروع دولة حقيقي ومستقل، وهذه الاستراتيجية الأمريكية تتوافق مع مفهوم التوازن البحري حيس يسمح بوجود قوى محلية، ولكنهم يديرون اللعبة عن بُعد لتفادي الالتزام العسكري المباشر حيث لا فوضى وحشية، ولا استقرار حقيقي، بل نظام غامض هش يُكرّس النفوذ الخارجي ويحول سوريا إلى ساحة نفوذ أكثر من كونها دولة مستقلة.

في هذا النظام المعقد، يبرز السؤال الجوهري وفق منظور الواقعية الهجومية: هل بقيت سوريا ككيان سيادي؟ فهناك مؤشرين أساسيين لإعادة تعريف سوريا:

  • الحماية الرئاسية تُدار عبر مقاتلين أجانب ليس لديهم ولاء للسُلطة المدنية أو للمواطنة،
  • الأجهزة الأمنية تُبنى على ولاء شخصي بدل مؤسساتي،

فالمحصلة ليست دولة بشرعيتها التقليدية، بل شبكة نفوذ أدواتها “شركاء حلفاء” تُدار من خارج حدودها الوطنية، ومن يملك مفاتيح التمويل، الإعفاءات القانونية، والشرعية العملية هو من يمسك بزمام السيادة ويرسم خطوط السيطرة.

سوريا اليوم لا تحرز طريقها نحو استعادة الدولة السيادية، بل هي مثال صارخ لـنموذج ما بعد الدولة، فالمؤسسات مجرّدة من القاعدة الشعبية، والوطن مُشرَّع بسلطات خارجية؛ إنها حالة الواقعية التطبيقية عبر خليط بين السيطرة والنفوذ غير المباشر ضمن ساحة جيوسياسية عاجزة عن أن تكون دولة مكتملة السيادة.

نحو توازن حضاري مضاد: الرؤية الأوراسية

بالنسبة للمدرسة الأوراسية، فإن ما يحدث في سوريا يجب أن يُقرأ كجزء من مشروع تفكيك حضاري تتبناه النخب الغربية، وليس المقصود إسقاط النظام فقط، بل إنهاء النموذج القومي، وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة عازلة محكومة بشبكات لا بسيادة، وبالجماعات لا بالدساتير، والمعادلة التي يُراد فرضها: سيادة مُدارة عن بعد بدلا من سيادة مشبعة بالهوية، ضاربة في الجغرافيا، ممتدة في العمق الحضاري.

إن الاعتماد على الأويغور ليس مجرد اختيار أمني، بل انعكاس لانهيار الفكرة السياسية الكلاسيكية، ومع كل خطوة نحو إعادة تدوير الجماعات الجهادية في مؤسسات رسمية، تبتعد سوريا أكثر عن حلم الدولة، وتقترب من أن تكون “مختبرا للسلطة بلا وطن”.

في هذا السياق، لا بد من تجاوز المقاربات التكتيكية، واستعادة الأسئلة الكبرى: من نحن؟ من يحكم؟ ولمن تكون هذه الأرض؟

هذه ليست أزمة دولة فقط، بل أزمة معنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *