في 17 حزيران 2025، أطلقت نائبة المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا تحذيرا واضحا، لفتت خلاله إلى أن “مخاطر التصعيد الإضافي في المنطقة ليست افتراضية — إنها فورية، وخطيرة، وتهدد بنسف التقدم الهش نحو السلام والتعافي في سوريا”.
وأوضحت النائبة أيضا أن “سوريا ببساطة لا يمكنها تحمّل موجة جديدة من عدم الاستقرار”، مشددة على ضرورة إعطاء الأولوية للشؤون الداخلية عبر انتقال سياسي شامل وموثوق، وضمان حماية كافة مكونات المجتمع السوري من التحريض الطائفي.
هذا البيان، رغم قوته الخطابية، يعيد إلى الواجهة تساؤلات قديمة حول فاعلية البعثة الأممية في سوريا، فبينما تستمر التصريحات الدبلوماسية في التأكيد على المخاطر، تظل أدوات الأمم المتحدة محدودة، ونتائجها على الأرض هامشية.
منذ تعيين أول مبعوث خاص في 2012 وحتى اليوم، تراكمت الإخفاقات، وتقلصت التوقعات، وأصبح دور البعثة أقرب إلى إدارة الأزمة منه إلى حلّها، في هذا المقال، أقدم تقييماً نقدياً لمسار البعثة الأممية في سوريا، مدعّماً بالبيانات الرسمية والتحليلات المستقلة.
المرحلة الأولى: UNSMIS وتجربة الفشل المبكر (2012)
في نيسان 2012، أُطلقت بعثة “UNSMIS” (بعثة مراقبة وقف إطلاق النار) بموافقة مجلس الأمن، استنادا إلى خطة كوفي عنان ذات النقاط الست، وكان التفويض واضحا؛ نشر 300 مراقب عسكري غير مسلحين لمراقبة وقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة المسلحة.
لكن مع تصاعد القتال، لم يصمد الاتفاق سوى أسابيع، وتم تعليق عمل البعثة في حزيران، ثم إنهاؤها في آب، وفشل المهمة كان صادما، حيث لم يُسجل أي تراجع جوهري في العنف، بل زادت معدلات تبادل إطلاق النار اليومي بنسبة 30% خلال فترة وجود البعثة.
المرحلة الثانية: وساطة بلا أدوات (2012 – 2014)
تسلم الوسيط الأممي كوفي عنان المهمة السياسية، وتبعه الأخضر الإبراهيمي، لكن مبادراتهما اصطدمت باستعصاء إقليمي ودولي، رغم عقد مؤتمر جنيف 1 في حزيران 2012، لم يُطبق أي من مقرراته، وفشل أيضا جنيف 2 في كانون الثاني 2014، حيث انسحب الطرفان دون اتفاق.
خلال هذه الفترة، سجلت الأمم المتحدة دخول 6.5 مليون سوري تحت خط الفقر، ونزوح أكثر من 2.8 مليون لاجئ إلى دول الجوار، دون أن تنجح البعثة في فرض ممرات إنسانية دائمة.

المرحلة الثالثة: نجاح تقني محدود – البعثة المشتركة لتدمير السلاح الكيميائي (2013 – 2014)
بعد اتهامات بهجوم الغوطة الكيميائي في آب 2013، أُطلقت البعثة المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) بإشراف مباشر من مجلس الأمن وبمنطق مسيس، قامت البعثة الإشراف على تدمير 96%؛ بموافقة الحكومة السورية حينها؛ من ترسانة الأسلحة الكيميائية المُعلنة بحلول حزيران 2014.
رغم الإنجاز التقني، ظل الملف الكيميائي محل تسييس دائم، مع تكرار استخدام الكلور في مناطق النزاع، ما أضعف مصداقية آليات التحقيق لاحقا.
المرحلة الرابعة: دي ميستورا والتكتيك المرحلي (2014 – 2018)
وصل المبعوث الإيطالي – السويدي ستيفان دي ميستورا إلى دمشق حاملا مقاربة “التجميد المحلي” (Localized Ceasefires) لتقليل المعاناة الإنسانية وفتح الطريق للحل السياسي.
نجح دي ميستورا في إدخال المساعدات إلى بعض المناطق مثل مضايا والزبداني، وفتح خطوط تفاوضية جديدة، لكنه فشل في فرض جدول زمني لبدء انتقال سياسي.
أكبر إنجازه كان إطلاق نواة اللجنة الدستورية في نهاية ولايته، دون أن تتبلور فعلياً خلال الفترة التي تولاها.
المرحلة الخامسة: القرار 2254 وبيدرسن في حقل ألغام (2018 – 2025)
تسلم غير بيدرسن المهمة في يناير 2019، مستنداً إلى القرار 2254 الصادر عام 2015، الذي يدعو إلى “عملية سياسية شاملة بقيادة سورية وملكية سورية”.
شهدت هذه المرحلة إطلاق اللجنة الدستورية رسمياً عام 2019، لكنها لم تعقد سوى 8 جولات حتى منتصف 2025، دون اتفاق على أي مسودة أولية، والجولات الأخيرة عُلّقت بسبب الخلاف على مرجعية الدستور بين النظام والمعارضة، واتهامات بتسييس الدور الأممي.

اقتصاديا انخفض الناتج المحلي السوري بنسبة 58% منذ 2011، وتجاوزت نسبة السكان تحت خط الفقر 90% وفق تقرير WFP الأخير (2025)، في حين لم تتمكن البعثة من ضمان وصول المساعدات إلا بنسبة تغطية لا تتجاوز 40% من المناطق المنكوبة شهرياً.
هل ما زال للبعثة معنى؟
رغم تغيير المبعوثين وتطوير خطاباتهم، ظل جوهر التفويض الأممي محصورا في “تيسير” الحوار لا فرض الحلول، وهذه الصيغة جعلت الأمم المتحدة رهينة التوافقات الدولية خاصة بين روسيا والولايات المتحدة، ما جعل تأثيرها في الواقع السوري هامشيا.
في أحد تقاريره عام 2023، أشار معهد كارنيغي إلى أن البعثة الأممية “تُدير الأزمة أكثر مما تحلّها”، وأنها أصبحت وسيلة لضبط الإيقاع السياسي وليس لدفعه إلى الأمام.

لا يمكن إنكار أن الأمم المتحدة لعبت أدوارا محددة، لكن فشلها الاساسي كان في الدفع نحو تسوية شاملة يضع علامات استفهام جوهرية حول معنى استمرار البعثة، فهل المطلوب الآن هو إعادة تفويض شامل؟ أم أن المجتمع الدولي بات مرتاحاً لدور رمزي يستهلك الزمن دون حلول؟