ما يحدث اليوم في قلب المشرق ليس مجرد تبدّل في خطوط الاشتباك، بل تحوّل جذري في جوهر الصراع نفسه، والذي لم يعد صراعا عربيا–”إسرائيليا”، بل بات إيرانيا–”إسرائيليا” بامتياز، هذا التحول لم يكن خيارا إقليميا واعيا، بل نتيجة مباشرة لانهيار المنظومة العربية التي شكلت لعقود الإطار المؤسسي والسياسي والعسكري للصراع مع إسرائيل.
مع تفكك هذا الإطار، وغياب الفاعلين التقليديين من المشهد، اندفعت طهران لملء الفراغ لا بوصفها حليفا للعرب، بل باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على بناء مشروع بديل، وبهذا تحوّلت العواصم التي كانت تصنَّف رموزا للرفض وعلى رأسها دمشق إلى نقاط ارتكاز داخل ترتيبات جديدة تعيد رسم حدود الشرعية، والموقف من “تل أبيب”، والموقع من الصراع.
في هذا السياق، لم يعد ما نشهده مجرّد تحوّل في التموضع، بل هو انكشاف كامل للهندسة السياسية القديمة، حيث انقلب الصراع العربي–الإسرائيلي إلى مواجهة مفتوحة بين طهران وتل أبيب، فيما تلعب دمشق دور “الحلقة العمياء”، من موقعها السابق كرمز للممانعة القومية، إلى كونها الآن ركيزة استراتيجية للنفوذ الأطلسي، بل وفي لحظة تاريخية مستعدة فيها لتفكيك العداء التاريخي مع “إسرائيل”، تحت ضغط التحول الذي أعقب سقوط سلطة “البعث”.
أولا: القومية العربية كحرب منتهية والانسحاب إلى “التحالف الإيراني“
كان المشروع القومي العربي يهدف إلى التحرر الكامل من الاستعمار، وتجسّد في مقاومة “إسرائيل” عسكريا وإعلاميا وثقافيا، لكن حرب تشرين 1973 كانت المحطة الأخيرة التي ظهرت فيها دمشق بوصفها فاعلا نظاميا في المواجهة المباشرة.
المرحلة | الفاعل المركزي | شكل المواجهة | موقف دمشق |
1948–1973 | الجيوش العربية | حروب تقليدية | جيش نظامي في الجبهة |
1974–1979 | النظام العربي | تراجع بعد حرب تشرين | تقارب مع الاتحاد السوفييتي |
1980–2000 | إيران ما بعد الثورة | حروب غير نظامية | تحالف استراتيجي مع طهران |
مع دخول إيران الثورة إلى الميدان، قررت دمشق التحول من نموذج المواجهة التقليدية إلى استراتيجية “الاحتضان المتبادل” مع طهران، وهو ما مهّد لبروز “محور المقاومة”.
ثانيا: سوريا كممر للنفوذ الإيراني وتحوّل تدريجي في الموقف الرسمي
حين تساقطت أنظمة عربية وأُنهكت أخرى، برزت سوريا باعتبارها الأرض “المستقرة” لاستمرار المواجهة مع “إسرائيل”، وبدت بالنسبة لإيران كجغرافية لمشروع أوسع، وتحولت الحرب مع “تل أبيب” إلى نموذج ناجح عبر النموذج “اللا تماثلي” في الحروب، فكانت معارك حزب الله في لبنان حتى عام 2000 شكلا ناجحا لرسم الصراع مع “إسرائيل” على قواعد اللا تماس المباشر بين الدول.
البُعد | الدور السوري |
اللوجستي | تسهيل نقل السلاح الإيراني إلى حزب الله عبر الحدود اللبنانية |
العسكري | السماح بوجود قواعد إيرانية ومستودعات على الأرض السورية |
العقائدي | احتضان التحالف الثلاثي (سوريا – إيران – حزب الله) بوصفه معسكر “الممانعة” |
لكن ابتداءً من عام 2008، وتحديدا بعد استئناف المفاوضات غير المباشرة بين سوريا و”إسرائيل” برعاية تركية، بدأ يظهر خط رمادي في موقف دمشق، وكانت القيادة السورية تختبر إمكانية تحويل الصراع إلى “ملف تفاوضي” في مقابل ضمانات داخلية وخارجية.
ثالثا: صراع الدولة الوطنية السورية وتحرير الدور الإيراني
جاء الاضطراب في2011 ليعيد ترتيب الأدوار الإقليمية ومركزية للدولة السورية، وظهرت سوريا كجبهة صراع بالوكالة حيث كانت القوة الإيرانية أساسية في هذا الصراع ليس عسكريا إنما اقتصاديا أيضا، تحوّلت سوريا إلى أرض مرنة في معركة بين مشروع قوة برية إيرانية مدعومة روسيا، وتحالف أطلسي بغطاء تركي – خليجي، وأصبحت سوريا منطقة اشتباك شاركت فيه “إسرائيل” عبر ضرب أي تعاون مشترك بين طهران ودمشق.
بعض الإحصاءات:
العام | عدد الضربات الإسرائيلية على أهداف إيرانية داخل سوريا |
2017 | 35 ضربة |
2018 | 105 ضربة |
2019 | 80 ضربة |
2020 | 110 ضربة |
2021 | 120 ضربة |
2022 | 130 ضربة |

رابعا: نهاية العداء بعد 8 كانون الأول 2024 – من الإنكار إلى الواقعية الجيوسياسية
والتحول الفعلي في موقف النظام السوري من إسرائيل بدأ لحظة الانهيار المؤسسي في 8 كانون الأول 2024، حين فقدت السلطة المركزية سيطرتها على منظومة القرار السيادي، وتحولت إلى بنية تبحث عن الشرعية الدولية في ظل الغطاء الأطلسي، فلم يعد العداء لإسرائيل جزءا من عقيدة الدولة، بل تراجعت القضية الفلسطينية من الخطاب الرسمي، وحلّ مكانها منطق البقاء والاستدارة التكتيكية، وبرزت على السطح:
- تقارير دبلوماسية غربية بعد كانون الأول 2024 تحدثت عن مداولات غير مباشرة بين شخصيات سورية وإسرائيلية بوساطة روسية.
- بيانات إعلام النظام بعد هذا التاريخ تجنبت الإشارة إلى “تحرير فلسطين” أو دعم المقاومة.
- تم رصد تغيّرات لغوية في الخطاب الإعلامي السوري الرسمي تجاه “حل الدولتين” و”واقعية التسويات”، بلغة تماثل خطاب بعض الأنظمة المطبّعة.
هذا الانفتاح غير المعلن لا يمكن فصله عن حالة الفراغ السيادي التي يعيشها النظام الجديد في سوريا، إذ لم يعد يمتلك قراره، بل بات يتحرك وفق مزيج من الإملاءات الأطلسية والحسابات التركية، ما يجعل التحرّك نحو “نهاية العداء” مع إسرائيل، مشروطا وغير مكتمل، لكنه حتمي في ظل تغيّر معادلات الشرعية والبقاء.

خامسا: سوريا بين فكين – إيران تقاتل من أرضها، وإسرائيل تقصفها
باتت سوريا حلبة الحرب الخالية بين إيران وإسرائيل: لا قرار داخلي مستقل، ولا قدرة على التفاوض، ولا سيادة على الأرض.
الطرف | التوظيف الإستراتيجي لسوريا |
إيران | ممر عسكري واستخباراتي إلى المتوسط |
إسرائيل | ساحة قصف منتظمة للحد من التمدد الإيراني |
روسيا | ورقة أوراسية لإعادة التوازن العالمي |
أمريكا | ساحة لتفكيك التحالفات المعادية عبر العقوبات والقصف المحدود |
سادسا: الجغرافيا السورية كجبهة “أوراسية” حاسمة
إن سوريا ليست دولة بل نقطة ارتكاز جيوسياسية في المواجهة بين المشروع “النيوليبرالي البحري” (إسرائيل – الناتو – الخليج) و”المشروع الأوراسي البرّي” (إيران – روسيا – الصين).
المحور الجيوسياسي | التكوين | الغاية |
المحور البرّي الأوراسي | إيران – العراق – سوريا – لبنان | الوصول إلى المتوسط |
المحور البحري الأطلسي | إسرائيل – الخليج – الناتو | منع التمدد البري وتكريس التفوق البحري |
سوريا اليوم تتحول إلى “أرض فارغة” تخدم أجندات الآخرين، بعدما انسحب فيها البعد الوطني لصالح الدولة الجهادية وأصبحت نقطة صراع جيوسياسية متحركة ما بين النفوذ الإيراني الذي تقلص، وإمبراطورية النفوذ “الإسرائيلي” المتمدد.

دمشق حسمت اصطفافها الأطلسي – ما بعد العداء العلني
حسمت دمشق موقفها بعد انهيار النظام في 8 كانون الأول 2024 باتجاه الاصطفاف ضمن ترتيبات المحور الأطلسي، متخلّية عن العداء العلني لإسرائيل، وساعية إلى ضمان الحد الأدنى من الشرعية الدولية والبقاء الإداري ضمن خارطة جديدة للمنطقة.
لم يعد السؤال بين التطبيع والانصهار في المشروع الإيراني مطروحا، بل أصبحت دمشق تتحرك وفق توازن إقليمي يمليه الضغط الغربي، والتفاهمات الروسية–الإسرائيلية، والضعف البنيوي الداخلي.
- باتت الأجهزة المتبقية من الدولة السورية تتعاون أمنيا في ملفات التهريب والحدود مع أطراف إقليمية قريبة من إسرائيل.
- هناك مساعٍ متنامية لإعادة صياغة العلاقة مع لبنان والأردن على أسس غير عقائدية، بل وظيفية–أمنية.
لم تعد المسألة وجودية في معناها السياسي التقليدي، بل تحولت إلى مسألة إدارة ما تبقى من “كائن جغرافي” في سياق صفقات إقليمية–دولية، وأصبحت سوريا ساحة أطلسية بلا إعلان، وتحوّلت المقاومة إلى رواية مؤجلة داخل سردية ما بعد النظام، حيث أصبح خيار دمشق واضحا إمّا الدخول في مسار إقليمي جديد يُنهي العداء العلني مع إسرائيل، أو فقدان شرعيتها الدولية، وبالتالي تحوّل كامل الأرض السورية إلى هدف مشروع في الحرب المقبلة.
هذه ليست معادلة عسكرية فقط، بل وجودية:
- هل تريد دمشق أن تبقى دولة ذات سيادة؟
- أم ستتحول إلى “جسر بلا قرار” بين طهران وتل أبيب؟