التوازن الردعي الإيراني الإسرائيلي بعد الضربة الأخيرة

الضربة التي لم تُشعل المنطقة… بعد: في ظلال الصواريخ على إيران

في ساعةٍ مُبكرة من فجر الأحد، اهتزّت أعماق جبال “قم” و”ناتانز” و”أصفهان”، لا بفعل زلزال، بل جراء أعقد ضربة عسكرية أميركية ضد بنية نووية منذ قصف إسرائيل لمفاعل تموز العراقي عام 1981؛ لكن الفرق فيما جرى في إيران لا يمكن قياسه لحدث جرى بشكل منفرد ضد مفاعل تموز، فمع ظل تصاعد الصراع الإيراني الإسرائيلي، عاد الحديث مجددا عن طبيعة التوازن الردعي الإيراني الإسرائيلي ومدى فعاليته في منع الحرب الشاملة.

قصف المفاعلات الإيرانية في 22 حزيران لم يكن مجرد رسالة سياسية أو ردع رمزي، بل عملا جيوسياسيا مركبا، ومخططًا له بدقة، هدفه إخراج إيران من معادلة الزمن النووي، دون أن يُغرق المنطقة في الفوضى الإشعاعية.

ودون تحليل الخلفيات والأدوات وأبعاد هذه الضربة عبر عدسة الجغرافيا السياسية لا يمكن قراءة هذا الحدث، ففي هذا العمل العسكري يجب أن نفهم الأرض وليس فقط تصريحات السياسيين، وننظر إلى الأسلحة كامتداد للتضاريس والخرائط العميقة للتاريخ.

أولا: خارطة الضربة… حين ينطق الجغرافيا

لم يكن اختيار الأهداف في الضربة الأمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية اعتباطيا أو تقنيا صرفا، بل خضع لمنطق جيوسياسي صارم يراعي التضاريس، والرمزية، والمستوى الفني لكل منشأة، وظهر ذلك بوضوح في كيفية اختيار الأهداف الثلاثة التي تمثل ثلاث وظائف نووية مختلفة ضمن هيكل البرنامج الإيراني: السرية، التصنيع، والمعالج

الموقعالأهمية النوويةالخصائص الجغرافيةطريقة القصف
فوردو (Fordow)منشأة تخصيب سرية تحت الجبالتقع داخل جبل بعمق أكثر من 80 مقاذفات B-2 + قنابل MOP
ناتانز (Natanz)أكبر منشآت التخصيب في إيرانموقع صحراوي محصّن جزئيًاصواريخ توماهوك من غواصات
أصفهان (Isfahan)مركز لتحويل اليورانيوم (UCF)ضواحي حضرية قرب مركز علميصواريخ توماهوك موجهة

اختيار هذه المواقع يعكس “الجيو-استهداف”؛ فلم يكن الأمر عسكريا فقط، بل مرتبطا بعلم الجغرافيا نفسه: فوردو لضرب القلب السري، ناتانز لكسر العمود الصناعي، وأصفهان لنزع الغلاف الفني عن المشروع.

ثانيا: أدوات الضربة… من عمق المحيط إلى عمق الأرض

لم تقتصر العملية الأمريكية على اختيار دقيق للأهداف، بل تجسدت في استخدام مزيج معقد من أدوات الردع والتكنولوجيا المتقدمة، تم تنسيقها على نحو يُحاكي استراتيجية عسكرية ما بعد الحداثة؛ أدوات غير مرئية، انطلقت من أعماق البحار وعبرت مسارات جوية لا تكشفها الرادارات، بهدف إصابة الهدف دون إطلاق حرب شاملة، هذه الأدوات ليست مجرد وسائل قتال، بل تعبير مباشر عن التوازن بين القوة والسياسة في لحظة جيوسياسية حساسة.

السلاحالخصائصالهدف العملياتي
توماهوكصواريخ كروز بعيدة المدى (~1600 كم) أطلقت من غواصاتتعطيل الدفاعات الجوية والرادارات والمنشآت السطحية
B-2 Spiritطائرة شبح استراتيجية غير قابلة للرصداختراق العمق الجبلي لفوردو دون سابق إنذار
GBU-57 MOPقنبلة اختراق للتحصينات (وزن 13 طنًا، عمق اختراق يصل 60 مترًا)تدمير مداخل وقاعات التخصيب في الجبال

العملية لم تكن استعراضا تقنيا، بل عملية جراحية جيواستراتيجية، فهي عمل صامت من تحت البحر (الغواصات) وتقدم جوي من خارج الرادار.

ثالثا: لماذا لم يحدث تلوث إشعاعي؟

“لم تسجَّل مؤشرات على تسرب إشعاعي حتى الآن”، وهو ما أعلنته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتبعتها إيران بتصريح مماثل.

العاملالتأثير
المواقع المستهدفةلا تحوي مفاعلات نشطة بل منشآت تخصيب وتحويل
نوع الموادUF6 وUO2 لا تنفجر تلقائيا أو تطلق إشعاعا عند قصفها
نوع السلاحموجهة بدقة إلى البنية التحتية وليس قلب التخصيب
احتمال الإخلاء الإيراني المسبقمؤشرات استخبارية تشير إلى نقل مواد حساسة مسبقا

الضربة كانت أقرب إلى نزع االممكنات النووية، لا تفجير الرأس.

رابعا: الانقسام داخل واشنطن… بين الردع والاستعراض

بينما اعتبرها البيت الأبيض والقادة العسكريون ضربة “ناجحة تقنيا”، ظهرت أصوات داخلية في واشنطن تصف الضربة بـ”الاستعراضية”.

وجهة النظرالحجة
مؤيدو العمليةالضربة عطلت منشآت نووية بعمق الأرض، دون سقوط ضحايا أو تسرب إشعاعي
منتقدو العمليةالتوقيت انتخابي، والمواقع قابلة للإصلاح خلال أشهر، وغياب استراتيجية ما بعد الضربة

صحيفة The Atlantic وصفتها بـ”عرض عضلات لا يُغيّر التوازن النووي”، ومراكز مثل Brookings وRAND  حذرت من غياب الرؤية الإستراتيجية.

لكن بالمقابل، فإن استخدام قنابل GBU-57 الموجهة ضد فوردو، والاعتماد على غواصات بعيدا عن قواعد مكشوفة، يُظهر حسابات دقيقة تتجاوز الشعارات الانتخابية.

خامسا: ردود الفعل الدولية والإقليمية

الضربة الأمريكية على المفاعلات النووية الإيرانية لم تمر دون صدى عالمي، بل أطلقت موجة من التصريحات الحذرة والتقييمات المتضاربة، ما بين الترحيب الإسرائيلي، والقلق الأممي، والصمت المتأمل من روسيا والصين، اتضحت خريطة جديدة من الردود السياسية التي تعكس هواجس فكرة استخدام الضربات الجوية كوسيلة لضبط التوازن النووي الإقليمي.

الفاعلالموقف
إسرائيلباركت العملية، واعتبرتها استكمالًا لردع “النووي الإيراني”
الأمم المتحدةأعربت عن قلق عميق ودعت إلى ضبط النفس
روسيا والصينالتزمتا الصمت الرسمي، لكن دبلوماسيين أعربوا عن “عدم رضا”
إيرانأدانت وهددت بالرد، لكن لم ترد حتى الآن

عمليا لا يمكن اعتبار طهران عاجزة عن التصعيد. فإيران تملك، بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي وأذرعها المنتشرة إقليميًا، أدوات متعددة للرد غير التقليدي. وضغوط الاقتصاد لا تلغي حضورها الجيواستراتيجي في الخليج وشرق المتوسط، بل تجعل ردّها أكثر براغماتية ومرونة، وهو ما قد يُربك واشنطن أكثر من رد مباشر.

سادسا: ما بعد الضربة… جغرافيا الغموض

الضربة تعني باختصار أن واشنطن وجهت ضربة قاسية لقدرة الردع الإيرانية من دون الدخول في مواجهة مباشرة، غير أن مدى نجاح هذه الضربة في تحييد النفوذ الإقليمي الإيراني لا يزال محل شك، فإيران، رغم خسارتها البنيوية المؤقتة، لا تزال تحتفظ بأذرع متعددة خارج حدودها: من لبنان إلى اليمن، ومن العراق إلى البحر الأحمر، الغموض لا يزال قائما حول ما إذا كانت طهران ستترجم هذه الخسارة إلى مراجعة استراتيجية أم إلى تصعيد غير متكافئ، فلم تكن الضربة محاولة فقط لتعطيل منشآت، بل اختبارا صريحًا لفعالية الردع الأمريكي في وجه منظومة نفوذ إقليمية عميقة يصعب تفكيكها بمجرد القنابل.

السيناريوالتقدير
تصعيد إيراني غير مباشر في العراق وسوريامحتمل
نقل المنشآت إلى مواقع سرية جديدةمرتفع
سباق تسلح عربي مضاد (خصوصا من السعودية ومصر)متوقع
مفاوضات سرية عبر أطراف ثالثة (عُمان؟)محتمل

الضربة الأمريكية لم تكن مجرد عمل عسكري، بل إعادة رسم لحدود الردع الإقليمي، وهي فصل جديد من استراتيجية الضربات دون الغزو، والاستعراضات الموجهة بدقة، ففي الشرق الأوسط، كل صاروخ يحمل خارطة، وكل ضربة تفتح بابا للتاريخ، والسؤال اليوم: هل كانت هذه الضربة خاتمة مشروع إيران النووي؟ أم فصلاً جديدا من فصوله السرية؟

فكرتين عن“الضربة التي لم تُشعل المنطقة… بعد: في ظلال الصواريخ على إيران”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *