ما الذي يعكسه تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق؟

        ظهر تفجير كنيسة مار الياس في دمشق كصورة عن بيئة تطورت سريعا خلال الأشهر الست الماضية، فمهما كانت الأسباب الأمنية لما حدث لكن “الثقافة الدعوية” التي يتم نشرها تشكل “ظلال” ما يجري في سوريا، والعمل الإرهابي مهما كانت الجهة التي نفذته يدخل في مساحة كسر الهوية السورية التي تبدو اليوم مشتتة أكثر من أي وقت مضى

سياق السلطة اليوم ليس مجرّد تبديل للأعلام فوق المباني الحكومية، بل تحوّل في مركز الثقل السياسي والثقافي، والرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، الذي أُعلن كواجهة سياسية للمشروع الجديد، وظهر ببدلة مدنية بدلا من الزي العسكري، في محاولة لتسويق هيئة تحرير الشام كجهة قادرة على الحكم لا القتال فقط، لم يغير من الصورة النمطية لسيطرة “الدعاة” على الحالة المدنية، وفي هذه البيئة تصبح كل خطوة أمنية أو سياسية تحت المجهر؛ فهل يمثل هذا الكيان شكلا جديدا من الحكم؟ أم مجرد إعادة تغليف لمشروع سلطوي بهوية دينية.

ثقافة دعوية بثياب الدولة

منذ أشهر تعيش دمشق انتقالا “رماديا” في طبيعة السلطة، حيث حلّت هيئة تحرير الشام (HTS) محل الدولة المركزية، هذه السلطة، لم تستطع حتى الآن كسر البنية الدعوية التي خرجت منها؛

القرار ما زال يُدار من قبل شبكات دينية تمتد جذورها إلى خطاب تعبوي يتعامل مع الأقليات كاستثناء لا كجزء من النسيج الوطني، والتفجير، بهذا المعنى، ليس فقط ثغرة أمنية، بل نتيجة حتمية لمناخ ثقافي يهيمن عليه خطاب لا يحتفي بالتعدد، بل يعامله كمشكلة يجب “احتواؤها”.

الهشاشة لا تبدأ بالأمن

الهجوم الانتحاري على الكنيسة كشف عجزا أمنيا، لكنه أضاء في الوقت ذاته على مشكلة أعمق؛ هشاشة الهوية الجامعة، فعندما تكون الحاضنة الفكرية للسلطة مشبعة بالرموز الدينية والتصنيفات الطائفية، يصبح من السهل على الجماعات المتطرفة كداعش أن تجد ثغرات لاختراق المجتمع، مستغلة التناقض بين خطاب “المدنية” وممارسات “الفرز الهوياتي”.

السلطة الجديدة لم تستطع حتى الآن إنتاج خطاب وطني جامع وبقيت الأقليات تعيش في مناخ من القلق والانتظار، والتفجير لم يفاجئهم، بل أكد مخاوفهم، فالحرب على الإرهاب لا تُكسب بالأمن وحده، بل بالثقة، والثقة لا تولد من خطاب، بل من سلوك الدولة على الأرض”.

داعش يتحرك في ظل “الغموض المؤسسي

ما فعله تنظيم داعش ليس مجرد تنفيذ لهجوم رمزي، بل استثمار في الواقع القائم، فالبيئة الأمنية والسياسية الحالية توفر له هامشا واسعا للحركة، والسلطة رغم تبنيها خطابا ضد التطرف، لم تُنتج حتى الآن أجهزة مؤسساتية قادرة على اجتثاث الشبكات النائمة، بل إن بعض الخطابات الدينية التي تصدر عن شخصيات قريبة من السلطة تغذي عن قصد أو غير قصد أرضية خصبة لإعادة تدوير التطرف.

تنظيم داعش لم يحتج إلى قوة عسكرية كبيرة ليضرب قلب دمشق، كل ما احتاجه هو اختلال في الأولويات، وانشغال السلطة بإعادة تموضعها سياسيا، مع إهمال حقيقي لمعركة الوعي.

السلطة تحت المجهر: بديل أم إعادة إنتاج؟

السؤال الذي يطرحه تفجير مار إلياس بحدة هو: هل تمثل هذه السلطة مشروع دولة جديدة؟ أم هي مجرد قشرة مدنية تغطي على بنية سلطوية دعوية؟ فالأزمة ليست في عمل إرهابي فقط إنما في سياق كامل ظهر عبر التشريعات وبنية الحكم، وإيجاد مرجعية أخلاقية للمجتمع بدلا من الهوية الجامعة.

رغم محاولات النظام السياسي الجديد تقديم نفسه كجهة مسؤولة، إلا أن تفجيرا كهذا يعري حدود قدرتها على توفير الأمن، ناهيك عن خلق نموذج سياسي جامع، والنتيجة؟ تفكك في العلاقة بين الدولة والمجتمع، واستنزاف في الثقة التي تُعد أهم شروط بناء أي شرعية داخلية أو خارجية.

الشرعية لا تُصنع بالكلمات

تفجير مار إلياس يعيد ترتيب مشهد السلطة، فداخليا أعاد تسليط الضوء على مأزق الخطاب الذي تدّعيه مقابل الممارسات الفعلية، وخارجيا شكّل ضربة لمساعي الاعتراف الدولي بها، خصوصا في ظل مراقبة أوروبية حذرة لأي اختراق أمني يشير إلى فشل في ضبط الجماعات المتطرفة.

إن أي سلطة لا تمتلك القدرة على حماية رموز التنوع هي سلطة مهددة، مهما كانت شعاراتها، وما جرى في كنيسة مار إلياس يثبت أن الشرعية تُبنى بالفعل، لا بالتسويق، وأن الأمن ليس قضية أجهزة فقط، بل قضية خطاب جامع ونظام ثقافي واضح.

المأساة كمؤشر سياسي

ما شهدته دمشق ليس مجرد حادثة دموية، بل نقطة تقاطع بين الدين والسياسة، بين الهوية والأمن، وفي عمقها، هي رسالة من واقع سوري جديد لم يحسم بعد معناه، فهل هو مشروع دولة مدنية، أم بيئة محكومة بمنطق ديني معسول؟

المسألة لا تتعلق فقط بمن نفّذ الهجوم، بل بما سمح له بأن يجد طريقه إلى قلب دمشق، وهنا، يصبح السؤال الحقيقي هو هل سوريا تمضي نحو التعدد الحقيقي؟ أم أننا أمام فصل من الإقصاء بصيغة مختلفة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *