لم تشهد العلاقات السورية–”الإسرائيلية” مجرد تحول سطحي خلال ستة أشهر، بل جرى إعادة تموضع استراتيجي كامل تحت جبال الجولان ومناطق “جبل العرب”، فالحديث ليس عن توجه تحو السلام بل عن هندسة مفاهيم جديدة للسيطرة على الأرض، والجيش الإسرائيلي، عبر ضرباته الجوية المتتالية، أعاد رسم الحدود المكانية في الجنوب السوري، مسترجعا منطق “احتواء استراتيجي مؤقت” كما يرسمها المنظور الجيوسياسي.
هذا الأمر لا يعكس سعيا لتوقيع معاهدة سلام شاملة، بل لتوطيد فرضية أمنية، وترتيب يترك مساحة للتفاوض السياسي لكنه يبدأ بالسيطرة العسكرية، و “إسرائيل” لم تنظر إلى نهاية هذا المسار، بل اختارت خرائط أمنية قابلة للتعديل تدعم سيطرتها الجغرافية الواقعية، ثم تتلوها تفاهمات سياسيّة تحت عنوان “اتفاقات أمنية مؤقتة”.
عمليا لم يكن انهيار النظام السياسي في سوريا مجرد فارق داخلي، بل فرصة لرؤية المنطقة من جديد، حيث أُعطيت “إسرائيل” مخرجا لتوسيع ناظمها الجغرافي تجاه الجنوب السوري، مع توظيف المناخ السياسي الجديد لضمان أمن الحدود وفرض شروطها الجغرافية قبل كل شيء، وفي عالمٍ لا يتقدم بـ”سلام بروتوكولي”، بل بما يَنتج عن احتياجات دائمة للسيطرة والتوازن الجغرافي، كانت “إسرائيل” تختار أن تحكم الساحة أولا قبل أن فكرة للتفاوض
تراكم الهيمنة: من استهداف القدرة إلى السيطرة المكانية
اختارت إسرائيل سياسة حرب مستمرة منذ كانون الأول 2024، ونفذت خلالها أكثر من 200 ضربة جوية دقيقة على القاعدة العسكرية والمالية السورية، مستهدفة القوة الجوية والبحرية السورية، وفي شباط هدّد نتنياهو بضرورة “نزع السلاح من جنوب سوريا” وبقاء “إسرائيل” في مناطق استراتيجية كقمة جبل الشيخ والمناطق المنزوعة السلاح، وهو ما تم تنفيذه على أرض الواقع، وتشير هذه الخطوة إلى تواجد فعلي لمنطقة يعتزم الجيش البقاء فيها “لفترة غير محدودة”.
هذا التوسع العسكري لم يكن فقط لأمن حدود الدولة، بل أيضا لخلق قوة ضغط ميداني غداة ضعف محور المقاومة، ومؤشر تحكم “إسرائيلي” في كل من “الجولان”، و”جبل الشيخ”، و”مناطق جبل العرب”، أسوة بما فعلته سابقا عسكريا.

الدفع نحو معاهدة أمنية: الإدراك الأمريكي وغيره من اللاعبين الإقليميين
بحسب تقرير لرويترز في أواخر مايو، رفع السفير الأمريكي توم باراك العلم الأمريكي في دمشق، معلنا أن واشنطن تعتبر سوريا صالحة لعقد سلام مع إسرائيل، وهذا يمثل تحوّلا جوهريا في السياسة الأمريكية تجاه دمشق.
وفي وقت لاحق، تم الكشف عن طلب رسمي من نتنياهو إلى باراك، من أجل وساطة أمريكية فورية للتفاوض مع سوريا بخصوص شروط “إسرائيل” الأمنية الواضحة المتمثلة بخلو جنوب سوريا من أي قوة مسلحة، حتى لو كانت تركية، وإلغاء أي احتمال لوجود قوات حزب الله او أو أي ميليشيات أخرى، وربطت التقارير ذلك بتحول في الموقف الأمريكي تجاه سوريا كدولة يمكن أن تدخل في خارطة “اتفاقات إبراهيم”.
التحديات الداخلية–الإقليمية: المناورة الاجتماعية والإثنية
خلال الاشتباكات في الجنوب السوري بين مسلّحين من جبل العرب والسُّلطات الموالية للحكومة في نيسان وأيار تحركت إسرائيل سريعا أمنيا وعسكريا، وقامت بضرباتٍ تحذيرية ضد جماعات اتُهمت بمهاجمة الدروز، وأرفقتها بتصريحات رسمية تؤكد التزامها بحماية الأقليات الدرزية داخل سوريا (مثل غارة في صحنايا قرب دمشق يوم 30 نيسان).
هذا التدخل عزّز موقف إسرائيل في محادثاتها مع النظام السوري الجديد، إذ ظهرت بمظهر الضامن لأمن الأقلية الدرزية، مما يدعمُ شرعيتها كطرف “مطلوب للتفاوض” انطلاقا من سؤال: “إذا لم تحمِهم إسرائيل، فمن سيفعل؟”
ومن جهة أخرى، استثمرت دمشق هذه الخطوة في تحريك الرأي العام المحلي، بوصفها تجسيدا لتدخل خارجي “عدواني” ضد السيادة السورية، وهو رواية استخدمتها لتأكيد أن “إسرائيل” تتصرف كقوة احتلال تحت غطاء حماية الأقليات.
وفي المقابل، تؤكد سرعة الرد “الإسرائيلي” العسكري والسياسي أنها استراتيجية محسوبة تستخدمُ دعم الأقليات كـ”ورقة ضغط داخلية” لتعزيز الموقف التفاوضي، بما يعطي “إسرائيل” قدرة على التأثير ضمن التفاهمات الأمنية المستقبلية
“السلام الأمني” قبل السلام السياسي
الملاحظ أن الرؤية الأمنية “الإسرائيلية” قائمة على ثلاث أمور أساسية:
- تثبيت قوات دائمة في الجنوب السوري وبمهام غير مشمولة باتفاقية فصل القوات لعام 1974.
- وضع شروط للسلام مثل خروج إيران وتركيا وتأمين الجولان وحماية الأقلية الدرزية.
- تمويل تفاهمات محدودة تحت مظلة أمريكية–إماراتية.
في حزيران أكد نتنياهو أن “نصر الحرب على إيران يولّد فرصة لتوسيع اتفاقات إبراهيم لتشمل سوريا”، في وقت تدرس فيه واشنطن توسيع السلام بموجب شروط منظمة .
رغم هذه الحماسة، يوضح ريتشارد نصر في كامبريدج أن هدنة مع إيران لا تعني سلاماً إسرائيلياً دائماً، وأن إسرائيل ترى في السيطرة العسكرية أداة تدخل استباقية قبل أي ترتيبات مستقبلية.

الرسم البياني العمودي السابق يُظهر طبيعة العلاقة بين سوريا و “إسرائيل” في النصف الأول من عام 2025:
- الضربات الجوية الإسرائيلية كانت هي الأساس بأكثر من200 ضربة جوية منذ كانون الثاني 2024، أي بمعدل نحو 33 ضربة شهريا.
- بالمقابل، المباحثات الأمنية المباشرة تمكّنت من عقد حوالي لقاءين وجها لوجه فقط خلال أيار 2025.
- وظهرت وساطة أميركية ذات تأثير رمزي واحد فقط – رفع العلم وبدء شروط السلام – تشير إلى أنها “إشارة طريق”، وليست مكافأة سلام شاملة.
- إسرائيل تبنّت نهجا يعتمد على القوة أولا (Military First Approach): تستدرج سوريا لتفاوض مشروط فقط بعد تمكنها من الأرض.
- بينما الاتصالات الأمنية والوساطة – رغم أهميتها الاستراتيجية – ما تزال ثانوية جدا، ما يعكس أن السياسة حاليا ما زالت في طور التأسيس بعد تمهيد عسكري قوي.
بهذا الشكل، الرسم لا يُظهر فقط التباين الرقمي، بل يكشف عن أولوية أدوات إسرائيلية واضحة في ضبط كامل المشهد السوري–الإسرائيلي خلال النصف الأوّل من 2025.
ما بين السيطرة المؤقتة والنقاش الإقليمي
إعادة التموضع العسكري الإسرائيلي في جنوب سوريا ليس مجرد تدخل عابر، بل خطة جيوستراتيجية واضحة تتلخص:
- فرص التفاوض لا تُبنى على الورق، بل على الأرض.
- “إسرائيل” تحدد شروط “السلام الأمني” قبل تطبيع العلاقات.
- النظام الجديد في دمشق، على رغم هشاشته، يربط التفاهم بحدود ترسيم الجولان ورفع العقوبات الأمريكية.
- حضور أميركي مع توظيف إماراتي كقناة وساطة لأنقرة ودمشق.
- تأجيل مسائل تطبيع ثقافي أو اقتصادي، على الأقل حتى يتم تثبّيت السيطرة الأمنية أولا.
عمليا فإن النصف الأول من 2025 شهد تشديد “إسرائيل”على التضيقالأمني–الجغرافي جنوب سوريا ضمن تكتيكات فرض وقائع على الأرض قبل فتح باب التفاوض، في المقابل فإن النظام السوري الجديد لم ينوه لحوار سلام شامل، لكنه يستجيب لشروط أمنية مشروطة، وفي الخلفية، تهدئة متبادلة أحرجت الاستقاطابات الإقليمية، مع حضور تركي محدود وإشراف أميركي أكثر وضوحا، وفي إطار رؤية “السلام الذي يبنى ببطء، من خلال السيطرة”.
الوضع الآن يمر بمرحلة “تطبيع أمني” قبل أي تقدم بإطار سياسي، مع توازن قوى جغرافي حاسم: السيطرة أولا.. الكلام لاحقا.