هيئة الطيران المدني السورية: خطوة نحو المركزية أم الإصلاح؟

تحولت “المؤسسة العامة للطيران المدني” إلى “هيئة الطيران المدني” عبر مرسوم صدر في حزيران، وتم ربطها مباشرة بمؤسسة الرئاسة، لتستقل بذلك عن وزارة النقل والتي أُلحقت بها منذ إحداثها بالمرسوم التشريعي رقم 93 تاريخ 23/9/1974، وأصبحت تابعة لها إدارياً، ويثير هذا الإجراء تساؤلات حول الهدف الأساسي من تبعيتها للرئاسة، خصوصا في ظل غياب المؤسسات الرقابية التي ستجعل هذه “الهيئة” تعمل دون قواعد حوكمة أساسية.

السياق التاريخي: من الانتداب إلى الرئاسة

في بدايتها كانت مصلحة الطيران المدني السورية ذراع إداري للانتداب الفرنسي، وبعد الاستقلال عام 1946، انتقلت إدارة المطارات، وأبرزها مطار المزة، إلى السلطات الوطنية، لكن هذه الإدارة تغيرت عبر العقود، وخضع الطيران المدني لوزارات وهيئات متعددة، فمن وزارة الأشغال العامة إلى وزارة الدفاع ثم إلى وزارة النقل، وكل تغيير كان عكس تحوّلات سياسية نتيجة الظروف المتقلبة لسورية منذ الاستقلال.

في عام 2003، أُحدثت “المؤسسة العامة للطيران المدني” ككيان اقتصادي مستقل، وهي خطوة يُفترض أن تعزز الكفاءة وتفصل بين الوظيفة التنظيمية والتنفيذية، لكنها بقيت مرتبطة بوزارة النقل وخاضعة للبيروقراطية التقليدية، إلى أن جاء التعديل الأحدث في 2025 بربط الهيئة مباشرة بالرئاسة.

تفكيك القرار

هذا التحول في التبعية الإدارية يمكن وصفه وفق النظريات التقليدية في الإدارة بانه “مركزية متقدمة” عبر وضع سلطة القرار في أعلى نقطة في الهرم الإداري، لكن التخلص من “البيروقراطية” يتطلب قواعد محاسبة شفافة، فهل استُند هذا التغيير إلى تحليل ممنهج للبيئة المؤسسية والنتائج المرجوّة؟ هل هناك خطط عملية لتحسين أداء المطارات، أمن الطيران، والاستجابة للتحديات التقنية؟

الربط بالرئاسة يسهل القرارات، لكنه لا يضمن تحسين الأداء ما لم يتضمن إصلاحات إدارية وتقنية ومؤسسية، والانتقال من “مؤسسة” إلى “هيئة” لا يكفي، إن لم يترافق بتحوّل في نمط العمل والثقافة التنظيمية.

تجارب دولية: هل المركزية مفتاح النجاح؟

لفهم أبعاد التحول السوري، من الضروري مقارنته بتجارب دولية في إدارة الطيران المدني، ويمكن هنا النظر إلى التجارب التالية:

  • دبي: نموذج الاستقلال والتفويض

“هيئة دبي للطيران المدني” تعمل بوصفها سلطة تنظيمية مستقلة، تدير السياسة العامة وتشرف على المطارات من دون أن تديرها مباشرة، وتُمنح المؤسسة سلطات واسعة ولكن مع خضوعها لمعايير شفافة في الأداء والمحاسبة، فالاستقلالية هنا لا تعني الانعزال بل التكامل مع أهداف التنمية الشاملة.

  • فرنسا: الفصل بين التنظيم والتشغيل

في فرنسا، تتولى Direction Générale de l’Aviation Civile (DGAC)  مسؤولية الإشراف والتنظيم، بينما تتولى شركات خاصة أو مختلطة مثل “ADP Group” تشغيل المطارات، وهذا الفصل يعزز الكفاءة ويقلل من تضارب المصالح، ويمنع أن تكون الجهة المنظمة هي نفسها المنفّذة.

  • مصر وتركيا: مركزية مشروطة

رغم خضوع هيئة الطيران المدني في مصر لوزارة الطيران، فإن لها استقلالا ماليا وإداريا نسبيا، كما يتم تحديث بنيتها بالتوازي مع تحديث الأسطول والمطارات، أما في تركيا، فربط المديرية العامة للطيران المدني مباشرة بالوزارة لم يمنع من تحقيق قفزات كبيرة، لكن هذا تم بفضل تبني سياسة سماء مفتوحة واستثمارات ضخمة في المطارات والبنية التحتية.

هل القرار السوري إصلاح أم مناورة؟

ربط هيئة الطيران المدني السورية بالرئاسة يُفهم على أنه:

  1. تحرير من البيروقراطية الوزارية ربمايكون فعلاً خطوة لتسريع الإجراءات وتجاوز الترهل المؤسسي الذي راكمته سنوات الحرب والعقوبات.
  2. لكن من جهة أخرى يعبر عن تشديد السيطرة ويفتح الباب لتعزيز المركزية بعيدا عن الرقابة المؤسسية أو البرلمانية، خاصة في غياب الاستقلال القضائي أو وجود صحافة حرة تراقب الأداء.
  3. الخطوة تشكل تمهيدا للخصخصة أو الشراكة ولتحويل مطار دمشق أو مطارات أخرى إلى نموذج “تشغيل-تحويل-نقل” (BOT) كما حدث في دول عدة، حيث تسهّل الهيئة الرئاسية تمرير عقود استراتيجية.

التحديات الكامنة

لا يكفي تغيير الاسم أو تبعية الهيئة، فما تحتاجه سوريا هو بناء رأس مال بشري جديد يمتلك المهارات التقنية الحديثة في أمن الطيران، والملاحة، وإدارة الحركة الجوية، والخدمات الأرضية، كما لا يمكن لهيئة الطيران أن تتحرك بحرية ما لم تُفكّ القيود المفروضة على القطاع الجوي السوري، بما فيها شراء قطع الغيار وتحديث الأنظمة.

عمليا حتى لو وُضعت خطط إصلاح متقدمة، يبقى التنفيذ هو العقبة، وتحتاج الهيئة الجديدة إلى استقلال فعلي، ولكن أيضاً إلى مساءلة حقيقية وآليات تقييم أداء دقيقة.

التحول من “مؤسسة” إلى “هيئة” تتبع الرئاسة لا يحمل قيمة بحد ذاته ما لم يُربط بإصلاحات جوهرية، ويجب النظر إلى هذا القرار من التجربة السورية الطويلة في مسألة إعادة هيكلة قطاع الطيران المدني، واعتماد معايير الحوكمة الرشيدة، والمساءلة، والانفتاح على التجارب الدولية الناجحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *