يُطلّ خطاب أحمد الشرع في مقابلته مع شبكة CBS كتمثيل مكثّف لمعضلة الهوية السياسية في مرحلة ما بعد الحرب.
زعيمٌ خرج من قلب الفصائل المصنَّفة إرهابية، يعيد تقديم نفسه كوجهٍ للسلام وإعادة الإعمار، لكنّ الخطاب هنا لا يُقاس بمدى واقعيته السياسية بقدر ما يُفكَّك بوصفه بنية رمزية تصنع معنى السلطة والبراءة في آنٍ واحد.
إنها لحظة خطابية تنتمي إلى “الخيال السياسي للرغبة”، حيث تتقاطع الرغبة في الخلاص مع الحاجة إلى الاعتراف.
أنقاضٌ تُعيد إنتاج الذات
تبدأ المقابلة من مشهد جوبر المدمَّر، حيث يتحرك الشرع ببطء بين الركام، مكرّرا أن “كل غرفة تحمل ذكريات من عاشوا هنا”.
غير أنّ المشهد لا يستحضر الذاكرة فحسب، بل يؤسس سردية جديدة للذات التي كانت في قلب الحرب ثم صارت راويتها، فهو استدعاء لذنب جماعي مؤجل؛ فالرجل لا يكتفي بتبرئة نفسه، بل يروّض أيضا ماضيه عبر تحويله إلى مشهد تعاطف إنساني، وبهذا يفعّل الخطاب آلية التطهير الرمزي التي تتيح للمذنب أن يتكلم بلغة الضحية، وللمتَّهَم أن يحتل موقع الشاهد.
من المتهم إلى الراوي: صناعة البراءة
حين تُعرض صور الشرع القديمة على ملصق “المطلوب:”، ثم نراه بعد لحظات داخل القصر الرئاسي،
يتحوّل التتابع البصري إلى استعارة لتبدّل موقع الذات؛ من المطارد إلى الناطق باسم الدولة.
هذا التناقض لا يُحلّ داخل المقابلة، بل يُجمَّد عبر منطق المراوغة الخطابية، فهو لا ينكر تاريخه، لكنه يختزله إلى “زمنٍ مضى”؛ يفرّغه من الفعل وهذه هي لحظة تحويل الذنب إلى رأس مال رمزي، حين يُستثمر الماضي العنيف لا بوصفه خطأ بل كبنية تمنح المتكلم عمقا وجوديا وشرعية سردية.
الجسد الرئاسي: استعادة السيادة عبر الصورة
الكاميرا، لا الخطاب، هي التي تصنع الزعامة هنا، فجسد الشرع يُؤطر في لقطات مائلة من أسفل، تمنحه هيئة الأب الهادئ، لا المحارب، والإضاءة الخافتة على وجهه تحيله إلى علامة إنقاذ لا علامة سلطة،
لكنها أيضا تُخفي التناقض بين رمزية “الرئيس المدني” وماضي “القائد الفصائلي”، فهي لعبة المشهد السياسي المعاصر عبر “التمثيل المتناقض”.
الزعيم الحديث يُنتَج كصورة نقية داخل نظام رمزي متشظٍ، فيبدو حضوره تجسيدا لـ”الصدق” في لحظة يُفكّك فيها الخطاب نفسه هذا الصدق.
عنفٌ منزوعُ الدلالة
حين تواجهه الصحفية باتهامات الأمم المتحدة حول الانتهاكات، يردّ الشرع ببرود: “هذا وصف مبالغ فيه”، فهو لا يرفض الاتهام ولا يعترف به؛ بل ينقل السؤال من الأخلاقي إلى الخطابي، فيُفرغ الجريمة من معناها الواقعي ويعيد تأويلها ضمن خطاب “الضرورة الوطنية”.
بهذا الشكل، يتحوّل العنف من واقعة إلى بنية لغوية محايدة، ويُعاد إدخاله في دورة الرغبة السياسية بوصفه ثمنا لا بدّ منه للعبور نحو النظام الجديد، فالخطاب هنا لا ينفي الألم بل ينظّفه من أثره، محولا الكارثة إلى استعارة للتضحية.
الارتداد إلى رغبة الغرب
منذ الدقيقة الأولى، تربط CBS الشرع بتحولات إقليمية أوسع؛ اتفاق ترامب بين “إسرائيل وحماس”، وسقوط الأنظمة القديمة، كأنما المقابلة لا تتحدث عن سوريا بقدر ما تبحث عن “شرق أوسط يمكن الوثوق به”.
الشرع يُقدَّم كعلامة على هذا الاحتمال، فهو مسلم سابق الانتماء للتيارات الجهادية، لكن يمكنه الآن التحدث بلغة المصالحة والعقلانية، وبهذا يُختزل الخطاب إلى مرآة لرغبة الغرب في نموذج عربي يبرّر خيباته السابقة.
إنه الآخر الديمقراطي المُتخيَّل الذي لا يُسمع صوته إلا بقدر ما يكرّر صدى الحلم الغربي بإصلاح الشرق.
الديمقراطية كمدلول فارغ
حين تسأله المراسلة عن الديمقراطية، يجيب بأن الانتخابات ستُجرى بعد إعادة بناء البنية التحتية، وفي هذا التأجيل الزمني تتحوّل الديمقراطية إلى رمز بلا مضمون، فهي “المدلول الفارغ” الذي يوحّد الجماعة حول كلمةٍ لا تحدّد شيئا.
الخطاب يُحافظ على جاذبيته لأنه لا يَعِد بشيء محدّد، بل يترك المعنى مفتوحا كي يُملأ لاحقا بما يتناسب مع مصالح المرحلة، وهكذا يُبنى التوافق لا على المبدأ، بل على الغموض المنظَّم.
العدالة كطقسٍ للتكفير
في خاتمة المقابلة، يظهر الشرع بين الأنقاض ويقول: “العالم شاهد هذه المأساة ولم يفعل شيئا… كل من يعرقل رفع العقوبات شريك في الجريمة”، وهذه ليست مطالبة سياسية فحسب، بل استدعاء للذنب الكوني.
العالم الخارجي يُعاد إدخاله في المشهد لا كمحاوِر بل كمتَّهَم، وكأن الخطاب يريد أن يُقلب علاقة السلطة الرمزية، فالغرب الذي حاكم الشرق طوال سنوات يصبح الآن موضوعا للاتهام الأخلاقي.
هنا يتحول الخطاب إلى لاهوتٍ سياسيٍّ للغفران، حيث تُستبدَل العدالة بالمغفرة، ويُعاد بناء الأخلاق على أنقاض القانون.
المشهد كإيديولوجيا بصرية
تُصاغ المقابلة وفق جماليات “التحول من الظلام إلى الضوء”؛ ابتداء من لقطات الرماد في جوبر، وصولا إلى الدفء الذهبي في القصر الرئاسي.
إنه نمط بصريّ للتطهير يجعل الخلاص يبدو حتميا، لكنّ هذا الضوء لا يكشف، بل يُغشي؛ فهو يخفي المسافة بين الخطاب والممارسة، وبين سردية الأمل وبنية القوة.
هذه هي وظيفة الإيديولوجيا في زمن ما بعد الحقيقة؛ أن تُنتج شعورا بالمعنى رغم غياب المعنى ذاته.
الذات الجريحة والسلطة الجديدة
المقابلة تكشف أنّ الشرع لا يقدم مشروعا بقدر ما يعرض عملية رمزية لتسكين الجرح الجماعي، فهو يتحدث باسم سوريا التي لم تعد موجودة، ويعيد توحيد التناقضات داخل شخصية واحدة تجمع بين المقاتل والرئيس، والضحية والجاني.
بهذا يصبح الخطاب آلية لعلاج نفسي جماعي أكثر من كونه برنامجا سياسيا، لكن هذا العلاج مؤقت؛ لأن الذات التي تبنى على الجرح تظلّ رهينة له.
إنها ذات تبحث عن خلاصها في تمجيد ماضيها المنقوص، وفي ذلك تحديدا يكمن في “وهم الاكتمال الذاتي السياسي”
تفكك الخلاص
ليس خطاب الشرع في “60 دقيقة” خطابا عن المستقبل بقدر ما هو محاولة لترويض الماضي داخل لغة يمكن للعالم أن يسمعها.
إنه يقدّم سردية تطهيرية حيث تتحول المأساة إلى فرصة، والذنب إلى رأس مال رمزي، لكنّ هذه اللغة التي توحّد، تخفي أيضا الفراغ في قلب المشروع؛ غياب تصورٍ واضح للدولة، للعدالة، للهوية.
في النهاية، يبقى الخطاب أكثر قدرة على التخييل منه على الفعل، وأكثر نجاحا في صناعة المعنى منه في تغيير الواقع.
إنه درسٌ حيّ في كيف يمكن للخطاب السياسي أن يقدّم نفسه كعلاجٍ للجراح، بينما يكرّس في العمق الشرخ ذاته الذي يدّعي التئامه.