خطابات المراحل الحرجة ليست مجرد نقل للمواقف أو عرض للخطط، بل يتم عبرها صناعة الجمهور، وإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي الحالة السورية، جاءت هذه اللحظة وفي الخطاب الأخير للرئيس الانتقالي أحمد الشرع سط ظروف سياسية متشابكة، حيث لا تزال بنية الدولة في طور التكوين، والمؤسسات في حالة هشاشة، فيما يخيّم على المشهد انعدام الثقة وتراكم الأسئلة المفتوحة، فوُجهت انتقادات للإعلان الدستوري من قبل قوى سياسية ومدنية، واعتبرت أنه يعيد إنتاج مركزية القرار دون آليات مساءلة حقيقية.
خطاب أحمد الشرع الأخير لم يخرج عن هذا الإطار، لكنه اختار أن يبدأ من الرموز قبل السياسات، ومن الحكاية قبل البرنامج، في محاولة لبناء انطباع شعوري يسبق الفعل السياسي.
عودة إلى اللغة وصناعة الانطباع
جاء خطاب أحمد الشرع لمناسبة خاصة مرتبطة بإطلاق الهوية البصرية الجديدة لسوريا، فبدا أشبه بعملية إحياء رمزي وشحن وجداني موجهة للداخل والخارج معا. وقد اختار الخطاب أن ينطلق من الصور والرموز قبل السياسات، ما جعله أقرب إلى تمرين شعوري منه إلى إعلان مسؤوليات.
كانت اللغة مشبعة بالإيحاءات والتاريخ والتراث، لكنّها بدت منفصلة عن الواقع السياسي المأزوم، حيث تعاني البلاد من غياب الوضوح الدستوري، وتُتهم السلطة الانتقالية بتكريس الهيمنة على القرار السياسي دون مساءلة.
لم يكن الخطاب عرضا لبرنامج سياسي بقدر ما كان إنتاجا شعوريا مشحونا بالسرديات التاريخية المصممة لبناء مشهد وطني جديد، لكنه مشهد لا يخلو من التناقض بين ما يُقال وبين ما يُمارس، وبين ما يُعد به المواطن، وبين ما يواجهه في يومه من أزمات.

لغة الحكاية وصناعة الذاكرة
بدا الخطاب برواية أسطورية لولادة دمشق؛ المدينة التي انطلقت منها الحياة الأولى وعرفها التاريخ كأمّ العواصم، ولم تكن هذه مجرد استعارة أدبية، بل محاولة لغرس ذاكرة جمعية جديدة تعيد تعريف المواطن بهويته من خلال التاريخ. وبهذا، يتحول الماضي إلى شرعية مستقبلية، حيث لا يُطلب من الجمهور فقط أن يتذكر، بل أن يشعر ويؤمن.
الرئيس الانتقالي قدّم دمشق لا كعاصمة سياسية بل كحكاية مقدسة، وكرّر العبارات والنداءات بشكل محسوب، ليمنح الخطاب وزنه العاطفي ورنينه الطقوسي، فمن “إنها الشام” إلى “عصر نهضتكم قد حان”، تم توظيف التكرار لبناء إيقاع تعبوي يُشعر المتلقي بأنه مشارك في لحظة استثنائية.
خطاب يصنع جمهوره
بُني الخطاب على نبرة وجدانية مباشرة استهدفت تعزيز الرابط العاطفي مع المواطنين، حيث توجّه الشرع إلى السوريين بصيغة “أيها الشعب السوري الكريم”، ولم يكن ذلك مجرد نداء شكلي، بل محاولة لتشكيل جمهور جديد من خلال خطاب يوحّد ويعزز الانتماء، جمهور يُراد له أن يكون صابرا، موحدا، منتصرا على جراحه.
بهذا الأسلوب، تحوّل الخطاب من مجرد إعلان سياسي إلى طقس اعتراف جماعي، يرسم من خلاله المتحدث ملامح علاقة عاطفية تتجاوز الأبعاد الحقوقية بين الشعب والدولة، ما جعل الخطاب أقرب إلى استدعاء للانفعال منه إلى رسم خارطة طريق واضحة.
اللافت أن التركيز لم يكن على تفاصيل سياسية أو برامج إصلاحية، بل على قيم عاطفية كالصبر والانتصار والكرامة، فما جرى تسويقه ليس خطة.

عندما تصبح الهوية مشروع دولة
جاء القسم الأبرز من الخطاب مكرّسا لتفسير معاني الشعار الجديد: طائر جارح، بصير، سريع، يحمي أبناءه، ويمثل الوحدة بتنوّع الريش والنجوم، وهي رموز مُحمّلة برسائل، لا على مستوى التصميم فقط، بل بوصفها دعامة لسردية سياسية جديدة، فهي دولة لا تُعرّف نفسها عبر دستور أو سياسة خارجية، بل من خلال صورة وشعار وهوية لفظية مرنة.
هذا النوع من الخطاب البصري/الرمزي يستخدم الرموز لتحل محل الواقع، ويُعاد تقديم الدولة كفكرة أكثر من كونها جهازا تنفيذيا، والمفارقة أن الخطاب دعا لإعادة الثقة بالداخل والمؤسسات، من خلال عناصر مجازية لا مؤسسية.

جمهور الداخل والخارج: رسائل متعددة الاتجاهات
ركز الخطاب على إعادة طمأنة السوريين بأن السجون حُلّت، والهجرة انقطعت، والأمل عاد، وهذه إشارات متعمدة لإغلاق ملفات العنف السياسي والنزوح من دون التورط في الاعتذار أو الإقرار بالمسؤولية، فالرسالة الأهم كانت: نحن نبدأ من هنا، من قطيعة مع الاستبداد لا مراجعة له.
في الوقت ذاته، خُصّ الشباب السوري في الخارج بتحية واعتراف ضمني بأنهم جزء من الهوية الجديدة، ما يوحي بمحاولة لخلق سردية وطنية جامعة تتجاوز الانقسامات، دون الانخراط فعليا في أي تسوية سياسية واضحة.
البعد الإقليمي: توقيت لا يخلو من دلالة
الخطاب لم يأتِ فقط كتعبير داخلي، بل كرسالة لمن يراقب من العواصم الإقليمية، فالكلمات التي أشارت إلى وحدة سوريا وعدم قبولها بالتجزئة كانت تحمل أبعادا تتجاوز الجغرافيا، لتطال ملف العلاقات مع الفاعلين الإقليميين، خاصة في ظل تغيّر التوازنات بعد انكفاء بعض اللاعبين الإقليميين.
في هذا الإطار، يمكن فهم التركيز على الهوية الجديدة كوسيلة لإعادة رسم خريطة الولاء السياسي في المنطقة، حيث تُعرض سوريا كدولة تسعى التحول من ساحة صراع إلى فاعل مستقر.
بين الطموح الاقتصادي والواقع المُعطّل
واحدة من أكثر العبارات تكرارا في الخطاب كانت الدعوة إلى “اقتصاد الكرامة” واستثمار آمن وفرص عمل وعدالة في التوزيع، لكن هذه الوعود ظلت في إطار الخطابة العامة، دون أن تترافق مع أي إشارة لخطط أو أدوات عملية، الخطاب يقدّم الاقتصاد بوصفه كرامة يومية، لكنه لا يُفصّل كيف.
وفي ظل عدم نهاية مسار العقوبات، والانهيار المؤسسي، وتعقيد ملفات الإعمار، فإن هذه الوعود تحتاج ما يتجاوز الخطاب الاحتفالي لتتحول إلى ثقة شعبية حقيقية.
سردية طموحة لكن محدودة الأثر دون فعل
يبدو الخطاب وكأنه مصمم لصناعة شعور لا لصياغة برنامج، فهو أراد النجاح في تحريك المشاعر، وإعادة طرح الرموز، و التلويح بهوية جديدة، لكنه لم يجب عن الأسئلة الصعبة: ماذا عن المحاسبة؟ ماذا عن الدستور؟ من يضمن الانتقال من صورة الدولة إلى مؤسساتها؟
انطلق الخطاب من قصة، وتوسّع في وصف الطائر والشام والهوية، لكنه لم يصل إلى طرح ملموس لحياة الناس اليومية أو لعقد اجتماعي جديد، والخطر أن تبقى هذه اللغة الرمزية، بديلا عن الفعل.

خطاب أحمد الشرع كان محكم البناء، مشحونا بالعاطفة والرمزية، مصمما بحرفية ليمتد تأثيره إلى جمهور متعدد، لكنه يضع نفسه في مأزق: كلما علت نبرة الوعود والرموز، زاد التحدي في تنفيذها، فالشعب الذي صدّق القصة، سيطالب الآن بالحقيقة.