من بن لادن إلى الشرع: تحليل لخطاب أحمد موفق زيدان في سوريا الجديدة

منذ اللحظة الأولى لمداخلة أحمد موفق زيدان على قناة العربية، بدا خطابه استدعاء مألوف من أرشيف الأنظمة العربية حيث الدولة فوق المجتمع، والشرعية فوق التعدد، والاحتكار باسم الوطنية.

ما يقدّمه زيدان اليوم بصفته مستشارا للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع ليس مشروعا جديدا إنما إعادة تدوير لأدوات الهيمنة التي خبرتها المنطقة لعقود، فدعواته إلى “حل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا”، وإلى تجاوز الأحزاب والفصائل لصالح ما يسميه “الدولة السورية الوليدة”، لا تُعبّر عن مراجعة فكرية بقدر ما تكشف عن نزعة قديمة تظهر بلغة خطابية لا تقدم سوى سحق التنوع تحت ذريعة الوحدة الوطنية.

خطاب “النهاية” كاستراتيجية سلطة

منذ الجملة الأولى، يصرّ زيدان على أن زمن الأحزاب والجماعات انتهى، وهذه اللغة ليست جديدة؛ هي نفس خطاب “نهاية الأيديولوجيا” الذي استخدمته أنظمة سلطوية منذ الخمسينيات لتبرير سحق أي معارضة، والجديد هو أن زيدان يوظفها اليوم في سوريا ما بعد الحرب، ليعلن أن ما تبقى من التنظيمات، حتى تلك التي همشت وانكمشت كالتيارات الإسلامية، لم يعد لها مكان في المشهد.

الدعوة إلى “حل الإخوان” لا تُقدَّم كنتاج مراجعة فكرية، بل كإملاء ظرفي نتيجة تغير الظرف الإقليمي، فواشنطن تتحرك عبر الكونغرس لتصنّف الجماعة إرهابية، والعواصم العربية “تلفظها”، وهكذا يُعاد تعريف “المصلحة الوطنية” وفق شروط الخارج، ويقدم على أنه “تجديد داخلي”، فنحن أمام لغة سياسية تُخضع المجتمع السوري لتوازنات القوى الإقليمية، وتحوّل القرار الوطني إلى مجرد استجابة لمناخ دولي متقلب.

سوريا الجديدة”: وحدة قسرية أم تعددية ممنوعة؟

زيدان يتحدث عن “سوريا الجديدة الوليدة” باعتبارها مشروعا يتطلب ذوبان الجميع في بوتقة الدولة، لكن أي دولة؟ وأي عقد اجتماعي؟ الخطاب لا يقدّم تعريفا للسيادة أو للمواطنة، بل يُختزل في دعوة إلى حلّ الكيانات الوسيطة، سواء كانت دينية أو سياسية أو مدنية.

إنها نفس الاستراتيجية التي اعتمدتها الأنظمة الشمولية السابقة، واعتبرت كل أشكال التنظيم خارج الدولة “تشتيتا للجهد”، وما يُراد هنا هو دولة بلا مجتمع، وسلطة بلا معارضة، وتجربة “انصهار” لا تغير من المعطيات السياسية السابقة أي شيء.

تلاعب بالذاكرة: من الحديبية إلى إدلب

من أجل إضفاء شرعية دينية على الطرح، يستحضر زيدان قصة صلح الحديبية، حيث مسح النبي محمد لقبه من وثيقة الصلح، المقارنة هنا تكشف وظيفة الخطاب؛ في استدعاء التاريخ المقدس لتبرير قرار سياسي ظرفي، لكن السؤال هنا أليس في هذا الاستدعاء إقرار ضمني بأن الصراع هو على هوية أكثر مما هو مشروع دولة حديثة؟

الأمر نفسه ينطبق على استعارة “التجربة الإدلبية”، فيصف زيدان إدلب بأنها “جنين” تحوّل إلى “وليد”، ثم إلى “دولة عتيدة”، لكن كل من يعرف التجربة يدرك أن إدلب كانت نموذجا للهيمنة الفصائلية، وللاقتتال الداخلي، ولتغوّل الأجهزة الأمنية بوجه آخر، هنا يظهر التناقض فما يُسوَّق كرمز للوحدة، كان في الواقع مختبرا لإقصاء أي صوت خارج الهيمنة الجديدة.

خطاب “الاعتدال” الموجه للخارج

حين يؤكد زيدان أن الرئيس الشرع “ليس امتدادا للجهاديين ولا للإخوان ولا للربيع العربي”، فإن المستمع الغربي أو الخليجي يسمع خطابا جديدا عن سوريا متحررة من ماضيها الإسلامي، ومستعدة للاندماج في النظام الدولي، لكن على المستوى الداخلي، يتم إسكات الأسئلة الجوهرية، فمن يضمن حقوق المكونات؟ ومن يحاسب على المجازر في الساحل والسويداء؟ ما مصير المقاتلين الأجانب؟

إن خطاب “الاعتدال” هنا لا يُخاطب الداخل السوري، بل الخارج المانح والمموّل والضاغط، إنه إعادة صياغة “سردية الحرب على الإرهاب”، حيث تُقدَّم الدولة الجديدة بوصفها ضامنة للأمن، مقابل التنازل عن التعددية السياسية والاجتماعية.

السويداء والساحل: ذريعة القوة العارية

في رده على أسئلة تتعلق بأحداث السويداء والساحل، يقدّم زيدان تبريرات مألوفة مثل أرقام الضحايا مبالغ فيها، والفصائل غير المنضبطة هي المسؤولة، ولجان التحقيق ستقول كلمتها، وهذا الخطاب ليس بريئا؛ إنه يهدف إلى التركيز على فكرة: “نحن الضحية، والآخرون متمردون أو أدوات الخارج”.

لكن الحقيقة الصارخة هي أن النظام الجديد، يتعامل مع المكونات السورية بمنطق أمني، فإما الانصياع للدولة أو الاتهام بالخيانة، وهنا يظهر جوهر الخطاب عبر نفي المسؤولية، وتبرير العنف، وتحويل الضحايا إلى مشكلة إدارية.

تركيا، الخليج، و”الامتنان

الجزء الأكثر وضوحا في المقابلة هو المديح المتكرر لتركيا والسعودية، وهنا تتجلى البنية العميقة للخطاب فالسلطة الجديدة في دمشق تُبنى على تحالف إقليمي ودولي، لا على عقد اجتماعي داخلي، والامتنان لتركيا لأنها دعمت المعارضة سابقا، وأيضا للسعودية لأنها أعادت “تموضع سوريا” عربيا، وللولايات المتحدة لأنها لم تصنّف الكيان الجديد كإرهابي.

إنها دولة ممتنة قبل أن تكون دولة مستقلة، هذا الخطاب يكشف هشاشة المشهد من خلال سلطة ناشئة لا تستند إلى شرعية ديمقراطية أو عقد وطني، بل إلى شبكة رعاة خارجيين.

التطبيع مع إسرائيل: براغماتية أم استسلام؟

حين يُسأل عن طبيعة العلاقة مع إسرائيل، يجيب زيدان بوضوح أن سوريا “لا تستطيع فتح معركة الآن”، محددا أن الأولوية القصوى هي لتطبيق اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، وهذا التصريح مؤشر على قدر كبير من البراغماتية المباشرة، إذ يُغفل عمدا أي إشارة إلى الاحتلال أو السيادة الوطنية الكاملة، ويتجنب الخوض في قضايا جوهرية مثل حقوق الفلسطينيين أو القرارات الدولية ذات الصلة، يضع في المقابل الحديث ضمن إطارا ضيقا يقوم على فكرة تجميد النزاع بدلا من السعي لحل جذري.

هنا تتجلى البراغماتية الفجّة بأوضح صورها، فالخطاب بلا بعد تحرري، ولا حتى محاولة لصياغة رؤية استراتيجية تتجاوز إدارة اللحظة، ولم يعد مفهوم “الواقعية السياسية” في هذا السياق مجرد غطاء برّاق يُستخدم للمناورة، بل تحوّل إلى إقرار صريح بالعجز، وإلى اعتراف مسبق بالهزيمة، وكأن المطلوب هو تأبيد الوضع القائم تحت مسمى “إدارة الاشتباك”.

البعد الشخصي: زيدان بين الماضي والحاضر

من اللافت أن جزءًا كبيرا من المقابلة خُصّص لماضي زيدان نفسه، من علاقته بأسامة بن لادن، ودوره في نقل الأشرطة، واتهامات “إعادة تسويق الإسلام السياسي”، فالخطاب الشخصي جزء من استراتيجية سياسية عبر تحويل الصحفي السابق إلى شاهد حي على “المراجعات” التي خاضتها الحركات الإسلامية، ثم تقديمه كضامن لتحول النظام الجديد نحو الاعتدال.

لكن الحقيقة أن هذه السيرة تُظهر تناقضا، فمن كان يوما ناقلا لخطاب “القاعدة”، صار اليوم المعبر عن خطاب “الدولة الوليدة”، في الحالتين، هو لسان حال سلطة تحاول فرض روايتها على العالم.

خطاب بلا مضمون، دولة بلا مشروع

إن تحليل خطاب أحمد موفق زيدان يكشف عن ثلاث سمات رئيسية:

  1. إعادة إنتاج الهيمنةعبر الدعوة إلى ذوبان الأحزاب والفصائل في دولة مركزية واحدة.
  2. الاستجابة للخارجعبر تكييف الخطاب بما يرضي الإقليم والغرب، أكثر مما يخاطب الداخل السوري.
  3. تبرير القوة العاريةعبر نفي مسؤولية الدولة عن الانتهاكات وتحميلها للآخرين.

بهذا المعنى، لا يحمل خطاب زيدان مشروعا وطنيا إنما يعكس إرادة سلطة جديدة في فرض احتكارها، مستخدما لغة “التجديد” و”المراجعة” كأقنعة، فهو خطاب يَعِدُ بالديمقراطية بينما يؤسس للهيمنة، ويحتفي بـ”سوريا الجديدة” بينما يكرس نهج الالغاء والهيمنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *