أحمد زيدان بين رهان الدعم العربي وواقعية دمشق الجديدة

في حواره مع برنامج بلا قيود على شاشة BBC عربي، قدّم أحمد موفق زيدان، المستشار للرئيس  الانتقالي أحمد الشرع، خطابا يمكن وصفه بأنه محاولة مزدوجة: من جهة تبرير موقع النظام الجديد في معادلة القوة الإقليمية، ومن جهة ثانية اختبار مدى قابلية الجمهور العربي لتصديق “سردية الاعتدال” التي تحاول دمشق تسويقها.
العبارة المحورية التي قالها زيدان “نراهن على الدعم العربي لوقف الغارات الإسرائيلية على دمشق” تختصر مزيجا من الأمل السياسي والعجز الاستراتيجي، ومن الغموض المحسوب الذي يميّز خطاب السلطة السورية منذ مطلع هذا التحول السياسي الذي جاء بالرئيس الشرع إلى الحكم.

خطاب المراهنة… أم خطاب الاستجداء السياسي؟

في بنية الخطاب السياسي العربي، كلمة “نراهن” تنطوي على أكثر من معنى، فهي ليست إعلان ثقة بقدر ما هي إقرار ضمني بعدم امتلاك أوراق القوة الكافية، وزيدان، وهو إعلامي سابق يعرف بدقة أوزان الكلمات، لم يقل “نعتمد” أو “نتعاون”، بل قال “نراهن”، وكأن سلطة دمشق الجديدة تقدم على مقامرة سياسية تتعلق بأمنها القومي، لا على مشروع شراكة عربية مؤسساتية.

بهذا المعنى، الخطاب لا يعكس ثقة في الذات بقدر ما يعكس حالة انتقالية في بنية القرار في سوريا؛ مرحلة تُحاول فيها الرئاسة الجديدة بناء شبكة دعم خارجي في غياب توازنات داخلية مستقرة، وفي ظل تصدعات مؤسساتية نتيجة الإدارة المبتدئة في تحمل أعباء دولة وليس دويلة على مقاس خاص.

دمشق بين “عروبة المصلحة” و”الاستقلال الرمزي

منذ عقود، كانت دمشق ترفع لواء العروبة كشعار تعبوي، تتحول العروبة اليوم، في خطاب زيدان، من شعار إلى أداة تفاوضية.
فعندما يقول إن “الدعم العربي هو السبيل لوقف الغارات الإسرائيلية”، فهو يعيد تعريف معنى “العمق العربي” من بعدٍ قومي إلى بعدٍ تقني ــ أمني، فلم تعد العروبة مشروع وحدة، بل وسيلة ضغط دبلوماسي يمكن أن توظَّف في مواجهة “إسرائيل” أو استرضاء الغرب.

هذا التحول الخطابي ليس تفصيلا لغويا، بل انعكاس لواقع استراتيجي جديد، فدمشق ما بعد الثورة لم تعد قادرة على بناء توازن ردعي مع “إسرائيل”، ولا تمتلك حلفاً إقليمياً قوياً كالذي تمتع به النظام السابق مع طهران أو موسكو، لذا فهي تتوسل غطاءً عربياً يعيد لها مكانتها لا سيادتها.

رهان الداخل: الانتخابات كمرآة هشّة للشرعية

تأتي مقابلة زيدان في لحظة حساسة تزامنت مع الانتخابات التشريعية السورية، وهي الأولى بعد إعادة هيكلة النظام السياسي، فبدا المستشار الإعلامي وكأنه يوجّه خطابه بقدر ما إلى الخارج، ويوجهه أيضاً إلى الداخل الذي لم يتعافَ بعد من الانقسام والحرب والشكوك المتراكمة.
لم يتحدث زيدان بإسهاب عن العملية الانتخابية، لكنه، بموقفه من “المراهنة على الخارج” أوحى ضمناً بضعف الثقة في قدرة الداخل السوري وحده على إنتاج حماية وطنية متماسكة.

في خطاب سياسي يفترض أنه وطني، يصبح غياب الإشارة إلى “الإرادة الشعبية” أو “الدفاع الذاتي” مؤشراً خطيراً على أن السلطة الجديدة ترى في الشرعية الخارجية تعويضاً عن الشرعية الشعبية.

إسرائيل في المعادلة الخطابية: من “العدو” إلى “الفاعل المفروض”

اللافت في حديث زيدان ليس موقفه من الغارات “الإسرائيلية” فحسب، بل طريقة توصيفه لها، فلم يتحدث بلغة الغضب، بل بلغة الحساب البارد، وهذا التحول الخطابي يعكس حالة في الإدراك السياسي من جهة، وانكماشاً في الثقة بالذات من جهة أخرى.
حين تُهاجَم دمشق ولا تصعّد، بل تراهن” على الدعم العربي، فإننا أمام تحول عميق في تصور السلطة الجديدة لسوريا ودورها الإقليمي، فهي تحاول إخراجها من معادلة “التحدي” إلى معادلة “التحمل”؛ من خطاب المقاومة إلى خطاب الاستجداء.

لكن هذا التحول، وإن بدا بحكم الواقع، يطرح سؤالاً جوهرياً، فإلى أي مدى يمكن للدولة أن تحافظ على هيبتها دون أدوات الردع، حتى لو كانت تسعى إلى الواقعية السياسية؟
الواقعية ليست نقيض الكرامة، بل مرادفة للحكمة المقترنة بالقوة، وحين تغيب القوة، يتحول الواقعي إلى استجداء مقنّع.

 إعادة إنتاج “الدولة ـ الرسالة

يحاول زيدان، طوال المقابلة، ترميم صورة الدولة السورية باعتبارها “رسالة” حضارية أكثر من كونها سلطة سياسية، فتحدث عن “دمشق التاريخية” و”عاصمة بني أمية”، وهي استعارات مألوفة في الخطاب السوري، لكنها هذه المرة تكتسب طابعاً دفاعياً أكثر من طابعها التبجيلي السابق.
ففي ظل تآكل السيادة الفعلية وتراجع الدور الاقتصادي، تحاول السلطة أن تستدعي تاريخ دمشق كبديل عن حاضرها، وهذه تقنية خطابية تستخدم عادة لتثبيت الرمزية حين تضعف القدرة الواقعية.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تكفي الرمزية التاريخية لخلق شرعية سياسية في القرن الحادي والعشرين؟
الجواب، ببساطة، لا. فالأنظمة الحديثة لا تُقاس بعراقة عواصمها، بل بقدرتها على بناء الثقة، والمؤسسات، والفرص.

قراءة في لغة الجسد والإيقاع الخطابي

لغة أحمد زيدان في المقابلة، بحسب التسجيل المصوَّر، كانت محسوبة بدقة، نبرة هادئة، وإيقاع بطيء، وإصرار على التوازن بين النقد والدفاع، ولم يرفع صوته، ولم يستخدم تعابير حادة، لكنه لجأ إلى التكرار الإيقاعي للجمل القصيرة، وهي تقنية معروفة في الخطاب الإعلامي لخلق انطباع بالثقة والانضباط.
غير أن هذا الانضباط الشكلي لا يخفي ارتباكاً في العمق، فكلما حاول زيدان أن يبدو واثقاً، كان يتعثر عند سؤال المحاورة حول البدائل الواقعية للدعم العربي، مما يكشف هشاشة الرهان الذي يدافع عنه.

دمشق الجديدة: بين الواقعية والرومانسية السياسية

ما بين “المراهنة” و”الانتظار” مساحة رمادية يعيش فيها الخطاب السوري الجديد، فبدلاً من رؤية فاعلة ترسم دور دمشق في النظام الإقليمي، يبدو أن السلطة الجديدة تكتفي بتفسير موقعها عبر الآخرين، “إسرائيل”، و “العرب”، و “الغرب”، دون أن تصوغ مشروعاً ذاتيا يعيد لها المبادرة.
وهنا تتجلى المعضلة في “الأنظمة الانتقالية”، فحين تفقد الدول رؤيتها لمستقبلها، تبدأ بالاعتماد على من يملك رؤيته الخاصة عنها، هذا هو جوهر المأزق السوري اليوم؛ دولة تتحدث بلغة الدفاع أكثر مما تتحدث بلغة البناء.

مقابلة أحمد زيدان ليست مجرد ظهور إعلامي لمستشار رئاسي، بل مرآة دقيقة لما يدور داخل النظام السوري الجديد من قلق، وإعادة تعريف، وبحث عن موقع في خريطة إقليمية متحركة.
خطابه كان متماسكاً لغوياً، لكنه هش سياسياً، ومتوازن في الشكل، ومضطرب في الجوهر.
وفي الوقت الذي حاول فيه أن يرسم صورة لسوريا منفتحة على محيطها العربي، كان يعيد تأكيد أن السلطة في دمشق ما زالت في مرحلة “الاعتماد على الخارج” لا على “استقلال القرار”.

إنها السلطة في دمشق التي تريد أن تكون جزءاً من النظام العربي، لكنها لم تحدد بعد بأي ثمن، فالعبرة ليست في المراهنة، بل في بناء القدرة على أن تكون طرفاً يُراهن عليه.

توازن القوى في الخطاب السوري الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *