بين العتمة والعدسات: حلب تستضيف مؤتمر المؤثرين

كأنهم جاؤوا من عالم موازٍ.. وجوه شابة تبتسم بعدسات ملوّنة، وخلفيات أنيقة مصممة بعناية، وكاميرات تدوّن اللحظة، وشعارات مكتوبة بخط عريض: “صوتكم يصنع الفارق”، ففي مبنى شركة الكهرباء القديمة بحي الجميلية في حلب، انعقد مؤتمر “سكريبت” الأول لصناع المحتوى والمؤثرين في سوريا، بتنظيم من وزارة الإعلام، بالتعاون مع الغرفة الفتية الدولية  (JCI) .

    أكثر من 380 مؤثّرا، من داخل البلاد وخارجها، توزّعوا على طاولات مستديرة وجلسات تدريبية حول “تعزيز المحتوى الإيجابي”، “أخلاقيات النشر”، و”دور الإعلام الرقمي في ترسيخ الاستقرار”.

    لكن على بُعد أقل من كيلومتر من هذا المشهد، بالكاد يستطيع سكان حيّ بستان القصر تحصيل مياه نظيفة، أو تشغيل مصباح واحد ليلا دون الاعتماد على بطارية مشحونة سرا في بيت الجيران.

    حلب: مدينة بلا كهرباء تستضيف مؤتمراً لصنّاع المحتوى

    كم يبدو الاسم تهكميا؛ “شركة الكهرباء القديمة”، في ذات المبنى الذي كانت تُوزّع منه الطاقة ذات يوم بات منصة يُنظَّم فيها مؤتمر لتعليم “الإنارة الرقمية”، بينما سكان المدينة غارقون في عتمة فعلية، ويُقام مؤتمر في مدينة بالكاد يمكنها أن تُشغّل بثا مباشرا على “إنستغرام” دون انقطاع، ويُطلب من المؤثرين أن يناقشوا استراتيجيات التفاعل والمحتوى “الإيجابي”، بينما المحتوى الحقيقي، أي الحقيقة، والألم، والعوز، والفساد، يُقصى عن الطاولة.

    من المثير للسخرية أن تتحدث وزارة الإعلام السورية عن “بناء الوعي المجتمعي” في مدينة لم تُبنَ فيها مدرسة جديدة منذ سنوات، ولم يُرمَّم فيها مستشفى واحد دون منّة من منظمة أجنبية، الخطاب الرسمي الذي احتفى بالمؤتمر بوصفه خطوة نحو “الاستقرار الرقمي”، بدا كأنه بيان دعائي موجّه لنسخة افتراضية من سوريا، لا لسكانها الفعليين.

    لوحة الخدمات حلب (بدون جافاسكربت)

    لوحة الخدمات حلب

    آخر تحديث: 4 أيلول/سبتمبر 2025

    الكهرباء ساعات تغذية/اليوم

    المقياس: 0–6 ساعات/اليوم

    الأعظمية
    2.0 ساعة
    سيف الدولة
    3.0 ساعة
    الميسّر
    1.0 ساعة
    اتجاه أسبوعي الكهرباء
    المصدر: رصد محلي

    المياه أيام ضخ/الأسبوع

    المقياس: 0–7 أيام/الأسبوع

    الأعظمية
    2 يوم
    الحمدانية
    4 أيام
    الأنصاري
    3 أيام
    اتجاه أسبوعي المياه
    المصدر: إعلانات مؤسسة المياه

    الخبز توفر تقريبي (%)

    المقياس: 0–100%

    صلاح الدين
    60%
    المشهد
    70%
    سيف الدولة
    55%
    اتجاه أسبوعي الخبز
    المصدر: متابعات محلية/شكاوى

    النظافة أداء الرفع (%)

    المقياس: 0–100%

    الشيخ مقصود
    40%
    الأنصاري
    55%
    الحمدانية
    65%
    اتجاه أسبوعي النظافة
    المصدر: رصد ميداني/صور

    المواصلات الخطوط العاملة (%)

    المقياس: 0–100%

    خط الحمدانية
    70%
    خط سيف الدولة
    60%
    خط الأنصاري
    50%
    اتجاه أسبوعي المواصلات
    المصدر: مديرية النقل/رصد

    حفلة فوق أنقاض المدينة

    الذين حضروا المؤتمر، بعضهم جاء من محافظات أخرى، وبعضهم من خارج البلاد، فهي وجوه مألوفة على “تيك توك”، ونجوم محتوى خفيف، ومحاضِرون في كيفية تحصيل “الإعجابات” ومعظمهم، رغم حسن النية لدى البعض، لم يعرفوا حلب إلا كخلفية لصورة جميلة، أو كمساحة لحدث مدعوم رسميا، ولم يسمعوا صوت أنين المدينة، أو هجرة الصناعيين فيها، وحتى لو سمعوه، تجاهلوه ليحافظوا على “نبرة إيجابية”.

    اللافت أن المؤتمر لم يتضمّن جلسة واحدة مخصصة لمناقشة الرقابة، والحريات، والحجب، وتجريم الرأي، أو التضييق على الصحفيين، ولم يُطرح سؤال: من يملك الحق في أن يكون “مؤثّرا” في سوريا؟ وما الثمن الذي يدفعه من يجرؤ على تخطي الخطوط الحمراء؟

    منصّة للدعاية أم محطة لحوار مجتمعي؟

    رسائل المؤتمر تمحورت حول دور المحتوى الرقمي في “دعم القضايا الوطنية والإنسانية”، لكن أي قضايا بالضبط؟ لا أحد يذكر الفساد، المحسوبيات، انهيار القطاع الصحي، ولا أحد يجرؤ على مساءلة الفجوة الهائلة بين المواطن السوري العادي، والطبقة الصغيرة التي ترعى هذا النوع من التظاهرات باسم “التمكين الشبابي”، والرسالة التي وصلت واضحة فالمطلوب هو محتوى لا يُحرج السلطات الجديدة، ولا يُدين الجوع، ولا يُربك الصورة، بل يجمّلها.

    هكذا تحوّل صانع المحتوى من راصد اجتماعي إلى فنان ديكور، ومن شاهد على المأساة إلى جزء من السردية التي تُخدر بها الحواس.

    صناعة نسيان لا صناعة محتوى

    ربما السؤال الأعمق هنا ليس: لماذا عُقد المؤتمر؟ بل لماذا لا يُعقد في مدينة أخرى أقل جرحا، وأكثر قدرة على الاستضافة؟ الجواب غير معلن، لكنه مفهوم ضمنا فحلب، برمزيتها، هي المكان المثالي لإرسال رسالة إلى الخارج، فالمنظمون يقولون بوضوح “أنظروا، ها نحن نُقيم مؤتمرات شبابية في مدينة كانت ساحة حرب، ونحن بخير”.

    لكن الواقع لا يكذب فـ 70% من شبكات المياه في المدينة بحاجة إلى إصلاح، وانقطاع الكهرباء يصل إلى أكثر من 20 ساعة يوميا، والواقع الأمني يتحدث عن اغتيالات متكررة وتصفيات كان آخرها خلال انعقاد المؤتمر بعد أن سقط الدكتور باسل زينو، نائب عميد كلية الطب البشري ورئيس قسم الأمراض الصدرية في جامعة حلب برصاص مجهولين، فأي استقرار هذا؟

    حين يُصبح “المحتوى الإيجابي” مرادفا للتواطؤ

    ما الذي يعنيه أن تكون مؤثّرً في سوريا اليوم؟ هل هو مجرد إتقانٍ للفلاتر، وتجويد خطاب لا يُزعج الجهات العليا؟ هل يُطلب من الشاب الحلبي أن يُبدع في مونتاج الفيديو بينما لا يجد مستشفى تستقبله عند المرض، أو مدرسة يرسل إليها أخاه الصغير دون خوف من تسرب المياه من السقف؟ هل يُراد لصانعي المحتوى أن يكونوا شهود زور، يوثّقون زيف الصورة ويصمتون عن صوت الحقيقة، مكتفين بـ”اللايكات” كتعويض رمزي عن العدالة المفقودة؟

    مؤتمر المؤثرين في حلب ليس مجرد تظاهرة إعلامية، فهو انعكاس لوضع خطير حيث تُصنّع النُخَب الرقمية في غرف مكيفة، بينما المدينة المحيطة تنهار بصمت، إنه مشهد استثنائي من التناقض، حيث يُعاد ترميم صورة الدولة لا بنيتها، ويُستثمر في واجهة إلكترونية براقة بدلا من إصلاح الصرف الصحي في حي السكري أو إعادة فتح مركز صحي في حي الفردوس.

    إنها دعوة غير مباشرة لصناعة النسيان، لا الوعي؛ لترويض السخط لا لتفهمه؛ لخلق خطاب يُشبه الحقيقة دون أن يمسّها، أن تكون مؤثرا في سوريا اليوم، يعني فيما يبدو أن تتقن فن التجميل لا فن الشهادة.

    سوريا لا تحتاج إلى مؤثرين جدد، بل إلى ضمير جماعي لا يُرقّم، ولا يُشترى، ولا يُقمع، وتحتاج إلى صوت لا يُعاد تدويره في قوالب جاهزة، بل ينبع من أرضٍ مكسورة تنزف ولا تجد من يضمدها، ومؤتمرات التأثير الحقيقية لا تُعقد أمام الشاشات، بل تبدأ حين تُعاد الحياة إلى مدرسة، حين يصل الماء إلى بيتٍ نسيه المسؤولون، وحين يعود للشارع السوري اسمه الحقيقي: شارع حيّ، لا منصّة صامتة.

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *