قانون قيصر ومعضلة السيادة السورية: كيف تغيّر ميزان السلطة بعد سقوط البعث؟

في الشرق الأوسط الجغرافيا لا تموت، لكنها تتكلم بلغات جديدة كل عقد من السنوات، وسوريا التي كانت ذات يوم صلب النظام الإقليمي العربي، تحولت بعد عقد ونصف من الحرب إلى خريطة من الأعصاب المكشوفة، وسيادتها لم تعد تعني امتلاك الأرض، بل القدرة على منع الآخرين من التحكم بها.

هذا ما يجعل معضلة “قيصر” ليست في العقوبات نفسها، بل في الكيفية التي حولتها واشنطن إلى وسيلة لإعادة هندسة الدولة السورية، حتى فقدت السيادة معناها الأصلي وتحولت إلى حالة تفاوض مستمرة.

الجغرافيا كمرآة للسلطة

من الساحل إلى البادية، يمكن قراءة الجغرافيا السورية كأرشيف سياسي مفتوح، فالساحل، الممتد من اللاذقية إلى طرطوس، أصبح قاعدة نفوذ روسي مغلقة على المتوسط، حيث تلتقي الموانئ بالمدافع، وحيث تتجسد الوصاية بصورتها الأكثر وضوحا؛ أمن روسي محدود مقابل نفوذ سياسي متناقص، فالساحل لم يعد قاعدة روسية مغلقة بقدر ما أصبح منطقة شراكة اضطرارية تُدار فيها التوازنات بين موسكو والسلطة بدمشق، ولم تعد سوريا تُدار من الخارج، بل من شبكة مصالح متداخلة تجعل الداخل نفسه امتدادا لصراع الآخرين.

أما دمشق، لم تنجو من الحرب ولم تتعاف منها، فهي اليوم عاصمة رمزية في دولة مفككة؛ حكومة أحمد الشرع القادم من إدلب، المدينة التي كانت مرادفا للفوضى، تمثل لأول مرة انتقال السلطة من الأطراف إلى المركز، وهو انقلاب جغرافي على الفكرة التقليدية للدولة السورية التي طالما انطلقت من دمشق إلى الأطراف، لكن هذا التحول كشف هشاشة المركز للحكم الجديد؛ فالسلطة التي تُبنى على التسويات لا تملك إلا شرعية مؤقتة بقدر ما تسمح به الارادات الدولية.

شمال شرق الفرات يعيش في زمن آخر، فهناك، تتقاطع القوات الأمريكية مع الفصائل المحلية والإدارة الذاتية لتصنع نموذج “السيادة بالتقسيط”، حيث استقلال إداري وتبعية مالية، وتنسيق أمني، أما إدلب وجبل الزاوية، اللذان كانا مسرحا للتمرد، صارا اليوم منطقة تجريب لسياسة “الدمج المراقب” التي تعتمدها حكومة الشرع عبر بقاء الهياكل المحلية مقابل الاعتراف بالمركز.

أما البادية، الممتدة من تدمر إلى الرقة ودير الزور، فهي حدود غير مستقرة، ويعيش فيها اقتصاد التهريب تحت حماية العشائر والسلاح، وتُموّل منها بقايا الدولة المركزية في دمشق.

تحولت الجغرافيا إلى خريطة سياسات متوازية لا تتقاطع إلا في الخطوط الكبرى، ولم تعد الدولة السورية جسما واحدا، بل نظاما متعددا للسلطة، كل جزء منه يفاوض الآخر على الثروة والأمن والولاء.

من الاستبداد إلى الانتقال المشروط

حين سقط نظام البعث في كانون الأول 2024، لم يكن ذلك انتصارا للديمقراطية بقدر ما كان انهيارا لواحد من أكثر الأنظمة المركزية في الشرق الأوسط، فالإعلان الدستوري المؤقت في مارس 2025 لم يعلن ميلاد دولة جديدة، بل كشف عن صعوبة بناء مركز بديل، وحكومة الشرع الانتقالية وُلدت من رحم الفوضى، لكنها ظلت تدور في مدار الخارج.

في تشرين الأول 2025، أُجريت انتخابات برلمانية وُصفت بأنها “أول اختبار للسيادة السورية”، لكنها لم تغيّر شيئا جوهريا، فبقي ثلث المقاعد بيد الرئيس، فيما تتحكم العواصم الكبرى بميزانية الدولة أكثر مما تتحكم بها السلطة في دمشق، وحتى حين صرّح وزير الخارجية السوري أن بلاده “تريد إنهاء التدخل الخارجي”، كان يعلم أن ذلك غير ممكن دون تمويل دولي، وهو اعتراف غير معلن بأن السيادة السورية باتت تُقاس بمستوى الحاجة إلى الآخرين، لا بمدى القدرة على الاستغناء عنهم.

قيصر: من العقوبة إلى البنية

قانون “قيصر” لم يكن مجرد إجراء عقابي، بل مشروع سياسي طويل الأمد، وواشنطن لم تستخدمه لمعاقبة نظام الأسد فقط، بل لتثبيت مبدأ جديد في المنطقة بأن السيادة ليست مطلقة، وأن بقاء الأنظمة مرهون بمدى اندماجها في منظومة المصالح الأمريكية.
حين خففت الإدارة الأمريكية بعض العقوبات في أيار 2025، لم يكن ذلك تعاطفا، بل استثمارا، وواشنطن أرادت اختبار مدى استعداد الحكومة الجديدة للامتثال، فحوّلت “قيصر” من سلاح اقتصادي إلى أداة تفاوض مفتوحة عبر رفع تدريجي مقابل التزامات أمنية وسياسية.

جوهر الصراع الحالي هو كم من السيادة يمكن لسلطة دمشق أن تبيع لتشتري شرعيتها؟ فكل خطوة في ملف إعادة الإعمار، وكل مشروع بنية تحتية، وكل عقد استثماري، بات يحمل توقيعا أمريكيا غير مرئي.

السيادة السائلة: من الجغرافيا إلى الإدارة

ما تسميه واشنطن “السيادة المشروطة” هو في الواقع تجريد تدريجي من القرار الوطني، ففي شمال شرق سوريا، تُستخدم السيطرة على النفط والقمح كوسيلة ضغط ناعمة؛ وفي الجنوب، تتحول المعابر إلى أدوات ضبط سياسي؛ أما في الشمال الغربي، فالحضور التركي يجعل أي قرار أمني مرتبطا بتفاهمات أنقرة والسلطة بدمشق، لا بقرار داخلي مستقل.

تحولت السيادة السورية إلى مفهوم سائل تتوزع بين الفاعلين المحليين، وتُعاد صياغتها كل يوم بحسب موازين التفاوض، والجغرافيا، التي كانت يوما مساحة تفرض فيها الدولة سلطتها، أصبحت الآن مساحة تفاوضية لتقاسم تلك السلطة.

حتى في الملفات غير العسكرية من المساعدات إلى التعليم وإدارة البلديات؛ تدخلت المنظمات الدولية بصمت في إعادة تعريف علاقة المواطن بالدولة، فالسيادة هنا لا تُمارس داخل الحدود، بل تُقاس بمدى “التفاهم مع الخارج” على شكل موازنة أو برنامج إنساني.

فخ السيادة: التبعية المقنّعة

السلطة في دمشق اليوم ليست في مواجهة مع واشنطن بقدر ما هي رهينة آلياتها، فكل مبادرة اقتصادية تُفتح بشروط سياسية، وكل مشروع إعادة إعمار يُدار بتمويل خارجي مشروط، والولايات المتحدة لم تعد بحاجة لاحتلال بلد كي تديره، يكفي أن تمتلك مفاتيح اقتصاده، وتحول “قيصر” إلى شكل من الوصاية غير المعلنة، تضمن من خلاله واشنطن أن تبقى الدولة السورية تحت سقفها المالي والقانوني.

لكن المشكلة لا تكمن في العقوبات فقط، بل في البنية التي أنتجتها، فالقانون أعاد تعريف الدولة السورية كمؤسسة تحت الرقابة، حيث لا تمر صفقة أو تحويل مالي إلا بعد موافقة أمريكية أو أوروبية، إن “فخ السيادة” شعارا نظريا، بل واقع يومي يُقاس بالدولار واليورو، لا بالشعارات السياسية.

ما بين الجغرافيا والسياسة: طريق ضيق نحو الاستقلال

في الخطة الانتقالية بين 2025 و2030، تبدو سوريا أمام خيارين:

  • إما أن تُعيد صياغة مفهوم السيادة ليصبح قابلا للبقاء في نظام دولي مترابط.
  • أو أن تبقى في دائرة “الاستقلال الممنوع” – حيث تمتلك كل رموز الدولة دون أن تملك قرارها.

لكن التحدي الحقيقي ليس في واشنطن، بل في دمشق نفسها، فالمركز الذي نشأ بعد الحرب ما زال هشّا، والأطراف التي أعادت تكوينه لا ترى في الوحدة سوى صفقة مؤقتة، فالساحل ينتمي إلى روسيا اقتصاديا، الشمال الشرقي إلى أمريكا سياسيا، الشمال الغربي إلى تركيا أمنيا، والبادية إلى شبكات محلية تموّل نفسها ذاتيا، والجنوب الغربي يتبع “أمن إسرائيل”، فالجغرافيا نفسها أصبحت بنية تقاسم سيادي مستمر.

قانون قيصر لم يُنهِ الدولة السورية، لكنه أعاد تعريفها، وجعل من بقائها مشروطا، ومن استقلالها قابلا للتفاوض، ومن سيادتها مادة في لعبة النفوذ الدولي.
إن ما يحدث في سوريا ليس مجرد تحوّل سياسي، بل تحوّل في معنى الدولة الحديثة، فلم تعد السيادة حقا قانونيا، بل رصيدا متناقصا يُستنزف مع كل اتفاق أو تسوية أو إعفاء.

في الشرق الأوسط، الجغرافيا لا تُغفر ولا تُنسى. وسوريا ليست دولة على الخريطة بقدر ما هي اختبار دائم لحدود القوة والإرادة، والاختبار اليوم هو هل تستطيع دمشق أن تفرض وجودها دون أن تطلب إذنا من أحد؟

سوريا – تشريح السيادة في زمن قيصر

“قيصر” ومعضلة السيادة: سوريا في زمن ما بعد الخرائط

تحولات السيادة السورية بين الجغرافيا التقليدية وإدارة النفوذ الدولي

الجغرافيا كمرآة للسلطة

النفوذ الروسي
النفوذ الأمريكي
النفوذ التركي
النفوذ المحلي

توزيع السيادة والنفوذ

تأثير عقوبات قيصر على الاقتصاد

التحولات الزمنية للسيادة السورية

كانون الأول 2024
سقوط نظام البعث

انهيار واحد من أكثر الأنظمة المركزية في الشرق الأوسط

آذار 2025
الإعلان الدستوري المؤقت

كشف عن صعوبة بناء مركز بديل في سوريا

أيار 2025
تخفيف جزئي لعقوبات قيصر

تحويل “قيصر” من سلاح اقتصادي إلى أداة تفاوض مفتوحة

تشرين الأول 2025
الانتخابات البرلمانية

“أول اختبار للسيادة السورية” مع بقاء ثلث المقاعد بيد الرئيس

رؤى أساسية من التحليل

1

السيادة السورية تحولت من امتلاك الأرض إلى القدرة على منع الآخرين من التحكم بها

2

قانون “قيصر” لم يكن مجرد إجراء عقابي بل مشروع سياسي طويل الأمد لإعادة هندسة الدولة السورية

3

سوريا لم تعد جسماً واحداً بل نظاماً متعدداً للسلطة، كل جزء منه يفاوض الآخر على الثروة والأمن والولاء

4

السيادة السورية باتت تُقاس بمستوى الحاجة إلى الآخرين، لا بمدى القدرة على الاستغناء عنهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *