في زاوية صغيرة من كتاب التاريخ للصف السادس في المناهج السورية الجديدة، تمرّ عبارة تبدو عادية للوهلة الأولى: “أما الحياة الدينية فقد كانوا قوماً وثنيين يتخذون الأصنام…”
لكن خلف هذه الجملة الموجزة تكمن منظومة فكرية كاملة؛ طريقة الدولة في تأطير الماضي الديني ضمن قيم الحاضر، فهي ليست مجرد جملة مدرسية، بل نافذة على كيفية تعريف “الآخر” ثقافياً ودينياً، وعلى الكيفية التي تُبنى بها الذاكرة الجمعية في لحظة تتداخل فيها الهوية، والدين، والسياسة التعليمية.
اللغة كأداة تأطير معرفي
حين تصف المناهج حضارة قرطاجة بـ”الوثنية”، فهي لا تستخدم مفهوما تاريخيا بل مفهوما دينيا لاحقا، و”الوثنية” ليست مصطلحا محايدا؛ بل وليد سياق لاهوتي جاء مع الديانات التوحيدية لتشير إلى “الانحراف” أو “الضلال”، فيتم تأطير الماضي في قالب قيمي لا معرفي.
يُعرّف الدين لا بوصفه نظام معتقدات مواز، بل كـ”غياب للإيمان الصحيح”، وكأن التاريخ الإنساني خط مستقيم يبدأ بالضلال وينتهي بالتوحيد.
المفارقة هنا أن المنهج السوري الذي يُفترض أن يكون علمانياً في بنيته الرسمية، يتبنّى لغة تقترب من اللاهوتي أكثر من التاريخي، فهو لا يعلّم “تاريخ الأديان”، بل يعيد إنتاج تاريخ الإيمان بتراتبية قيمية خفية.
المعيارية الدينية كأداة لبناء الهوية الوطنية
من منظور تحليلي، يمكن قراءة هذا الاختيار اللغوي ضمن مشروع أشمل: توحيد الهوية الوطنية عبر القيم الدينية.
في دولة عانت من انقسامات طائفية وسياسية، يصبح الدين، حتى لو بصورة غير مباشرة، رمزا للاستقرار الأخلاقي والشرعية الثقافية، وحين يتعلم الطالب أن “الوثنية” تعني “الانحراف”، فهو يتعلم ضمنا أن الاختلاف الديني أو العقائدي ليس تنوعا، بل انحرافا عن الصواب الجمعي.
تتحول المناهج إلى ما يسميه عالم الاجتماع، بيار بورديو، أجهزة رمزية لإعادة إنتاج الهيمنة، فالمدرسة لا تنقل المعرفة فحسب، بل تعيد تشكيل “ما يُعدّ معرفة”، وتحدّد ما هو “جدير بالاحترام” وما هو “خارج عن المعنى الصحيح للعالم”.
انحراف السرد التاريخي عن الحياد العلمي
من الناحية المنهجية، يمكن مقارنة هذا الخطاب مع اتجاهات تعليم التاريخ الحديثة في أوروبا أو كندا، حيث تُدرّس الأديان كأنظمة رمزية وثقافية، لا كعقائد محكومة على معيار الإيمان أو الكفر، فعلى سبيل المثال، في المناهج الكندية يُقدَّم الدين الإغريقي أو المصري القديم ضمن سياق الفهم الإنساني للعالم والروح، دون وصفه بالوثنية أو الزيف.
الفرق الجوهري هنا ليس في المعلومة، بل في زاوية النظر، هل الدين القديم مادة للدرس أم مادة للحكم؟
في المنهج السوري، الجواب واضح؛ النص لا يكتفي بوصف الممارسات الدينية، بل يحكم عليها ضمنا، وهو بذلك ينقل المتعلم من موقع الباحث إلى موقع المؤمن، ومن موقع الفهم إلى موقع الإدانة.
أثر السرد على التكوين المعرفي للطلاب
اللغة المعيارية تخلق وعيا معياريا، فحين يُقدم الماضي عبر منظار “الضلال ثم الهداية”، يُرسّخ في ذهن الطالب نموذجٌ معرفي أحادي الاتجاه:
- الحقيقة واحدة.
- ما عداها باطل.
- التاريخ مسار خلاص لا تطور.
هذه البنية تُنتج جيلا يرى العالم من خلال ثنائية الإيمان/الضلال لا من خلال الاختلاف/الفهم، وهي لا تؤثر فقط في دراسة التاريخ، بل تمتد إلى مجالات التفكير الاجتماعي والسياسي، فتُضعف قابلية التعدد وقبول الاختلاف.
بعد تعديل المناهج السورية عام 2025، بدا واضحا أن التغييرات تستخدم لغة معيارية ذات طابع ديني تُقدم الماضي من منظور أخلاقي لا تحليلي، وهذا لا يعكس خللا لغويا فقط، بل يكشف التوجّه التربوي المؤدلج الذي يُعيد إنتاج التصوّر التقليدي للعالم داخل المؤسسة التعليمية الحديثة.
المفارقة السورية – علمانية المناهج وإسلامية الخطاب
سوريا، رسميا، ليست مصنفة إلى الآن أنها دولة دينية؛ لكن المنهج يكشف عن تمازج ضمني مع الخطاب الديني، فبينما يُقدم التاريخ (من الفينيقيين إلى العرب) بوصفه سلالة حضارية متواصلة، تُضفى عليه شرعية أخلاقية عبر المفردات الدينية: الوثنية، الإيمان، الهداية، التسامح، إلخ.
بهذا، يُعاد بناء الهوية ضمن منظومة دينية أخلاقية تجعل الإسلام (بصيغته الثقافية لا بالضرورة العقائدية) محور الهوية التاريخية السورية، وهنا تكمن المفارقة: المنهج الذي يُفترض أن يفصل الدين عن السياسة، يوظف الدين، لغويا ورمزيا، كأداة توحيد ثقافي.. إنها ليست “أسلمة” المنهج فقط، بل تديين الخطاب الوطني.
من “الوثنية” إلى “الآخر”
حين تصف المناهج حضارة قرطاجة بـ”الوثنية”، فهي لا تصف فقط علاقة الإنسان بالآلهة، بل تعرّف الآخر في الذاكرة الوطنية، والآخر هنا ليس المختلف ثقافيا فحسب، بل المختلف قيميا.
الوثني، بهذا المعنى، ليس مجرد “من يعبد الأصنام”، بل هو من يقف خارج “دائرة الحقيقة”، وخارج الجماعة المتخيلة للأمة المؤمنة، وهذا يخلق هرمية ضمنية في التاريخ:
من الفينيقيين الوثنيين إلى العرب المسلمين، من الظلام إلى النور، من الوثن إلى الوحي.
النتيجة أن الطالب السوري لا يتعلم أن الحضارات تتنوع، بل يتعلم أن التاريخ يتطور نحو الحقيقة التي نمتلكها نحن، وهي بنية فكرية مغلقة، تعيد إنتاج مركزية الذات وتهدم شرعية التنوع الحضاري.
نحو تاريخ بلا وصاية
ليس المطلوب أن تُنزع القيم من المناهج، بل أن تُفكّك وصايتها على الفهم، فالمناهج ليست فقط وسيلة لتلقين الهوية، بل يمكن أن تكون مختبرا للنقد والتفكير المقارن.
يمكن للمنهج السوري، لو أراد، أن يقدّم الديانة القرطاجية مثلا كحالة بحث في علاقة الإنسان بالقداسةوالطبيعة، دون أن يصدر حكماً معياريا عليها، هذا لا يُضعف الهوية، بل يقوّيها عبر الانفتاح على تعقيد التجربة الإنسانية.
في السياق التربوي، يمكن إعادة صياغة المفهوم بطريقة علمية أكثر:
“اعتمد القرطاجيون على تعدد الآلهة في معتقداتهم، مثل الإله بعل حمّون والإلهة عشتروت، وهي ممارسات دينية شبيهة بمعتقدات حضارات أخرى في المتوسط.”
هذه الصياغة البسيطة تغيّر كل شيء. فهي لا تحكم، بل تشرح، وتحترم الاختلاف، وتقدّم الدين كظاهرة ثقافية، لا كاختبار إيماني، إنها خطوة صغيرة لغويا، لكنها قفزة معرفية وتربوية كبيرة.
من لغة الحكم إلى لغة الفهم
إن إدراج مصطلح “الوثنية” في المناهج السورية ليس تفصيلا لغويا عارضا، بل علامة على توجه أيديولوجي أعمق، فهو يربط الماضي بالحاضر من خلال منظار معياري يجعل من التاريخ أداة تربية أكثر منه مجال بحث.
لكن التعليم الذي يعلّم طلابه أن يحكم على الماضي لا أن يفهمه، يُعدّهم لمجتمع يحكم على الحاضر بالمنطق نفسه، فالمشكلة ليست في الكلمة، بل في المنطق الذي ينتجها.
حين يتعلّم الأطفال أن الاختلاف في الإيمان مرادف للخطأ، فإننا لا نعلّمهم التاريخ، بل نعيد صياغة العالم على صورة اعتقادنا، والإصلاح الحقيقي لا يبدأ بتغيير المفردة “وثنية”، بل بتغيير الزاوية التي ننظر منها إلى التاريخ — من معيارية الإيمان إلى موضوعية الفهم.
الخطاب الديني في المناهج السورية: تحليل نقدي
رسم بياني تفاعلي يكشف تحول المنهج التاريخي من الوصف العلمي إلى الحكم المعياري
اللغة المعيارية في وصف الأديان
تأثير المنهج على التكوين المعرفي
المفارقة السورية: علمانية الدولة وتديين الخطاب
مقارنة بين المنهج السوري والمناهج العالمية
المنهج السوري
يستخدم مصطلحات معيارية مثل “الوثنية” و”الضلال” لوصف المعتقدات القديمة
يقدم التاريخ كمسار من “الظلام” إلى “النور”
يركز على ثنائية الإيمان/الضلال بدلاً من التنوع الثقافي
المناهج العالمية (كندا/أوروبا)
تقدم الأديان كأنظمة رمزية وثقافية
تستخدم لغة وصفية محايدة
تركز على فهم السياق التاريخي والثقافي
الآثار التربوية والاجتماعية
بناء الهوية
توظيف الدين كأداة لتوحيد الهوية الوطنية
الذاكرة الجمعية
تشكيل تصور أحادي للتاريخ يرسخ مركزية الذات
التفكير النقدي
إضعاف قدرة الطلاب على تقبل الاختلاف والتنوع
الحل المقترح
انتقال من لغة الحكم إلى لغة الفهم والوصف المحايد

