في الخامس من تشرين الثاني 2025، أصدرت الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية قرارا استثنائيا، حمل الرقم (12/2015)، يقضي بوقف العمل بكل الأحكام القضائية التي تجيز الفوائد القانونية أو التعويضات التي تأخذ حكم الفائدة، باعتبارها مخالفة للشريعة الإسلامية، استنادا إلى المادة الثالثة من الإعلان الدستوري الصادر عام 2025، التي نصّت على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع.
لكن القرار، وإن لم يُعلن صراحة تعميم مبدئه على جميع المحاكم، يُثير خطورة واقعية في إمكانية تعميمه، فحين تصدر عن أعلى هيئة قضائية في البلاد، وتتضمن عباراته جمل من قبيل “تعميم هذا المبدأ على جميع المحاكم للعمل به”، فإن المعنى العملي يصبح أشبه بتوجيه ملزم غير معلن.
يدخل القرار في منطقة رمادية بين التفسير القضائي وبين التشريع الفعلي؛ فهو لا يملك من حيث الشكل قوة الإلزام التشريعي العام، لكنه يحمل من حيث المضمون سلطة معنوية تدفع المحاكم الأدنى إلى الالتزام به خشية المخالفة أو المساءلة التأديبية.
إن خطورة هذا الوضع لا تكمن فقط في مضمون القرار، بل في السابقة التي يؤسس لها؛ حيث تُستبدل إرادة المشرّع بإرادة المحكمة، ويمكن أن يتحول هذا “المبدأ القضائي” إلى قانون عرفي نافذ في جميع القضايا المدنية والمالية، دون المرور بأي من قنوات التشريع الدستوري أو البرلماني.
وهنا تصبح المسألة ليست تعميما رسميا، بل تسربا قضائيا بطيئا لمفهوم الدولة الفقهية داخل نظام الدولة القانونية.
من حيث الشكل، يبدو القرار محاولة لإعادة التوازن بين النصوص الدستورية والتشريعات التنفيذية، أما من حيث المضمون، فهو نقطة تحوّل فكرية وسياسية في بنية النظام القانوني السوري، وأشبه بانعطافة فلسفية تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والدين، وبين القانون والسياسة العامة، وهو قرار يتجاوز القضاء إلى هندسة جديدة لسياسات الدولة ومفهومها ذاته.
حين تصبح محكمة النقض مشرعا
لم يكن من المألوف في النظام القضائي السوري أن يتصدّى القضاء لعملية إعادة تعريف مصدر التشريع، فالمحاكم العليا، بما فيها محكمة النقض، كانت تاريخيا تنحصر وظيفتها في تفسير النصوص القانونية القائمة، لا في استبدالها بمرجعيات دينية أو فلسفية.
لكن هذا القرار تجاوز تلك الحدود، إذ أعلن صراحة أن نصوص القانون المدني المتعلقة بالفوائد والتعويضات باطلة لتعارضها مع النصوص الدستورية ذات المرجعية الإسلامية، فتم نقل القضاء نفسه من موقع المفسِّر إلى موقع المشرّع، وهو انتقال لا يخلو من خطورة على مفهوم الفصل بين السلطات، إذ يمنح القضاء سلطة الاجتهاد الديني والتأويل الشرعي، وهي سلطة لم تُمنح له تاريخيا إلا في الدول التي تقوم على نموذج “الدولة الفقهية”.
اللافت أن القرار لم يحدّد المرجع الفقهي أو المذهبي الذي سيُعتمد في تفسير هذه النصوص، بل ترك الأمر مفتوحا على عموم الفقه الإسلامي، وهذه الصيغة الفضفاضة تجعل من القضاء المدني فضاء للاجتهاد الديني المفتوح، وتزرع في بنية العدالة السورية حالة من اللايقين القانوني، إذ لا يعود المتقاضي على بيّنة من القاعدة التي سيُحكم بها، أهي نصوص القانون المدني؟ أم قواعد الفقه الحنفي؟ أم اجتهادات قاض يرى في الربا مفهوما يتسع ليشمل التعويض عن التأخير في الدفع؟
انهيار مبدأ اليقين القانوني
منذ صدور القانون المدني السوري عام ١٩٤٩، على يد فقيه القانون عبد الرزاق السنهوري، شكّل هذا القانون إطارا علمانيا واضحا للعلاقات المالية والمدنية، وكان يُعتبر من أكثر القوانين العربية انضباطا من حيث الصياغة والمصدر، جامعا بين روح الشريعة ومبادئ القانون الوضعي الأوروبي.
لكن القرار الأخير لمحكمة النقض نسف هذا التوازن تماما، حين اعتبر أن أي نصّ أو اجتهاد يخالف أحكام الفقه الإسلامي باطل دستورا.
بهذا المعنى، فإن القانون المدني لم يعد المرجع النهائي للعلاقات الخاصة بين الأفراد، بل أصبح مجرد نص مشروط بما يقرّه الفقه
إن مبدأ اليقين القانوني (Legal Certainty)، وهو أساس العدالة في أي دولة حديثة، يتعرّض هنا لهزة عميقة، فحين لا يعرف المستثمر أو المواطن القاعدة التي تُحكم معاملته وفقها، فإن البيئة القانونية كلها تتحول إلى حقل من المفاجآت، والاقتصاد لا يحتمل المفاجآت، والسياسة العامة لا تبنى على الغموض.
من الشريعة إلى الدولة – جدلية المرجعية
ليس السؤال هنا ما إذا كانت الشريعة الإسلامية نظاما أخلاقيا متينا، فهي بلا شك منظومة فكرية متكاملة، لكن السؤال هل تصلح الشريعة كنظام إداري للدولة الحديثة؟
الدولة الحديثة، كما نعرفها، تقوم على قابلية القانون للتطبيق الموحّد، وعلى قابلية الأحكام للقياس والمراجعة، وعلى حياد مؤسسات العدالة، أما الشريعة، فهي نظام قائم على الاجتهاد والتأويل وتعدّد المذاهب، حين يُسند للقاضي المدني مهمة الاجتهاد الفقهي، تتحول العدالة من علم مؤسسات إلى رأي ديني، وهذه النقلة تمثل تسييسا للدين وتديينا للقانون في آن معا.
إن القرار الأخير لا يكرّس فقط مرجعية الفقه في الشؤون المالية، بل يفتح الباب لتوسيع هذا المنطق إلى كل المجالات التي تتعارض نصوصها مع أحكام الشريعة، أي قانون العقوبات والأحوال الشخصية وقوانين العمل والمصارف.
وبهذا يصبح الإعلان الدستوري لعام 2025، الذي بدا في حينه نصا رمزيا، هو الأداة العملية لإعادة هندسة النظام القانوني كله.
آثار القرار على السياسات العامة
حين نحلّل القرار ضمن مفهوم السياسات العامة (Public Policy)، يتّضح أنه لا يتعلق بالفوائد القانونية فحسب، بل يتجاوزها إلى إعادة تعريف أولويات الدولة، فإلغاء الفوائد يعني ضرب أدوات التمويل والائتمان والمصارف في الصميم، لأن الفائدة ليست مجرد ربح، بل هي مكوّن أساسي في حساب المخاطر والتدفقات النقدية.
القرار يُحدث أثرا اقتصاديا مضاعفا:
- جمود في حركة القروض والتسليف، إذ سيخشى المقرضون التعامل بلا فائدة.
- انكماش في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على القروض المصرفية.
- إرباك للمؤسسات المصرفية العامة والخاصة التي بُنيت أنظمتها على صيغ قانونية لا على صيغ فقهية.
أما من منظور السياسات الاجتماعية، فإن القرار يعيد الدولة إلى نموذج الرعاية الأخلاقية بدل نموذج التنظيم المؤسساتي، أي أن الدولة تعود لتكون راعيا سلوكيا أكثر منها منظما اقتصاديا، وهذا النموذج له جاذبيته في أوقات الأزمات، لكنه في المدى البعيد يقوّض قدرة الدولة على إدارة المجتمع المعقّد اقتصاديا.
الشريعة كمشروع هوية
اللافت أن القرار صدر في العام نفسه الذي أُقرّ فيه “الإعلان الدستوري لعام ٢٠٢٥، وهو إعلان جاء في لحظة سياسية واجتماعية شديدة الحساسية، تزامنت مع محاولات النظام إعادة بناء سردية الدولة بعد سنوات من الصراع والانهاك الاقتصادي وانهيار النظام السابق.
فالإعلان لم يكن مجرّد وثيقة قانونية عابرة، بل بيان هوية سياسية جديدة، أرادت الدولة من خلاله إعادة تعريف شرعيتها عبر استدعاء المرجعية الدينية في صياغة القوانين والمؤسسات.
من هذه الزاوية، لا يبدو قرار محكمة النقض استثناء أو اجتهادا منفصلا، بل ترجمة قضائية فورية لفلسفة الإعلان نفسه، أي تحويل النصّ الدستوري ذي الطابع الرمزي إلى أداة تنفيذية في البنية القضائية، فما كان يُفترض أن يكون إطارا فكريا عاما للدولة أصبح، بقرار المحكمة، منهجا قضائيا نافذا، ينقل الشريعة من مستوى المبادئ إلى مستوى التطبيق المباشر في العلاقات المدنية والاقتصادية.
قرار محكمة النقض هو الامتداد القضائي لذلك المشروع؛ إنه ترجمة قانونية لفكرة أن الشرعية السياسية لا تُستمد من العقد الاجتماعي الحديث، بل من المرجعية الدينية، فتحوّل القضاء إلى ذراع أيديولوجي للدولة في عملية إعادة تأسيس هوية جديدة، قائمة على الدين لا على المواطنة.
الدولة بين الشرع والدستور
منذ نشأة الدولة السورية الحديثة عام 1920، كانت العلاقة بين الشريعة والدستور علاقة توفيقية دقيقة، فالشريعة مصدر تشريعي، لكنها ليست المصدر الحصري.
مع القرار الجديد، ننتقل من الفقه مصدرا للتشريع إلى الفقه مرجعا حاكما للدستور نفسه، وهي نقلة فكرية هائلة، تجعل من الدين ليس مكوّنا ثقافيا للدولة، بل بُنيتها الدستورية ذاتها.
عند هذه النقطة، تصبح كل السياسات العامة، ومن التعليم إلى الاقتصاد، ومن العدالة الاجتماعية إلى العلاقات الخارجية، مطالبة بأن تمرّ عبر مرشح الفقه، وهذا الانقلاب المفاهيمي يطرح سؤالا جوهريا، فهل ما زالت الدولة السورية دولة حديثة ذات قانون وضعي عام؟ أم أنها تتجه نحو نموذج الدولة الشرعية التي تُعرّف نفسها بوصفها حارسا للنصّ الديني؟
ما وراء القرار – صراع النماذج
مثل هذه القرارات لا تُولد في فراغ، بل تعكس صراع نماذج الدولة داخل النخبة السورية، فبين نموذج الدولة القانونية الحديثة ونموذج الدولة الدينية الموجهة، يبدو أن الكفّة تميل للأخير، وهذا الخيار ليس مجرد مسألة فكرية، بل قرار سياسي استراتيجي، فحين تعتمد الدولة مرجعية دينية في القضاء، فهي تؤسس لمنظومة جديدة من الشرعية تستند إلى الطاعة والإيمان لا إلى العقد والقانون.
هناك نهاية مرحلة وبداية أخرى، لا تعلنها السلطة السياسية صراحة، بل يُعلنها القضاء باسم الفقه والدستور.
الدولة التي تحكم بالنص لا بالمبدأ
يرى البعض في القرار خطوة نحو “تصحيح” القوانين لتتوافق مع القيم الدينية، لكن الخطر الحقيقي ليس في المبدأ الديني ذاته، بل في المنهج الذي يتيح للقضاء أن يصبح مفسِّر النصّ الشرعي والسياسي في آن واحد.
حين تذوب الحدود بين القانون واللاهوت، لا تعود العدالة علما بل عقيدة، ومن هنا يبدأ التراجع من الدولة الحديثة إلى دولة الفقيه، وما حدث في دمشق في تشرين الثاني 2025 ليس مجرد حكم في مسألة فوائد قانونية، بل تعديل عميق في هوية الدولة السورية، يُدخلها مرحلة جديدة عنوانها: “القانون على الشريعة، لا الشريعة في القانون.”
ما لم يُفتح نقاش وطني صريح حول معنى هذا التحوّل وحدوده، فإن ما يبدو اليوم قرارا قضائيا، قد يغدو غدا سياسة عامة تحكم حياة الناس والدولة معا.
قرار محكمة النقض السوري: إعادة تعريف النظام القانوني
تحليل تفاعلي للقرار التاريخي الصادر في 5 تشرين الثاني 2025 وأثره على النظام القانوني والسياسات العامة في سوريا
الآثار المتعددة للقرار على النظام القانوني السوري
معلومات أساسية عن القرار
قرار محكمة النقض السورية رقم (12/2015) الصادر في 5 تشرين الثاني 2025 يقضي بوقف العمل بكل الأحكام القضائية التي تجيز الفوائد القانونية أو التعويضات التي تأخذ حكم الفائدة، باعتبارها مخالفة للشريعة الإسلامية، استناداً إلى المادة الثالثة من الإعلان الدستوري الصادر عام 2025.
التطور الزمني للأحداث
توزيع مجالات التأثير
الآثار المتوقعة للقرار
الآثار الاقتصادية
جمود في حركة القروض والتسليف، انكماش في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إرباك للمؤسسات المصرفية التي بُنيت أنظمتها على صيغ قانونية.
الآثار القانونية
انهيار مبدأ اليقين القانوني، تحول القضاء من موقع المفسّر إلى موقع المشرّع، إرباك في النظام القضائي والعلاقات التعاقدية.
الآثار السياسية
إعادة تعريف شرعية الدولة عبر استدعاء المرجعية الدينية، تحول في هوية الدولة من دولة قانونية إلى دولة فقهية.
مسار التحول في النظام القانوني
الخلاصة
قرار محكمة النقض السوري لا يمثل مجرد تغيير في الأحكام القضائية، بل نقطة تحول فكرية وسياسية في بنية النظام القانوني السوري. فهو يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والدين، وبين القانون والسياسة العامة، ويتجاوز القضاء إلى هندسة جديدة لسياسات الدولة ومفهومها ذاته. هذا القرار يؤسس لسابقة خطيرة حيث تُستبدل إرادة المشرّع بإرادة المحكمة، ويمكن أن يتحول هذا “المبدأ القضائي” إلى قانون عرفي نافذ في جميع القضايا المدنية والمالية، دون المرور بأي من قنوات التشريع الدستوري أو البرلماني.

