حدث عسكري أم زلزال جيوسياسي؟
حين نشرت وكالة رويترز تقريرها حول نية الولايات المتحدة إنشاء قاعدة جوية قرب دمشق، لم يكن الحدث مجرد بند عسكري جديد في سجل الشرق الأوسط المزدحم.
في العمق، يبدو الحدث وفق رؤية المفكر الروسي ألكسندر دوغين تحولا روحيا في ميزان القوى الحضارية بين الكتلتين؛ البرّ الأوراسي الذي تمثله روسيا ومحورها، والبحر الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة.
دمشق، بقدمها التاريخي وعمقها الرمزي، ليست موقعا عاديا على الخريطة، بل عقدة روحية وجغرافية تربط الشرق بالغرب، واليابسة بالبحر، والتاريخ بالمستقبل، ومن يضع موطئ قدمٍ فيها، لا يسيطر على مساحة، بل يلمس أعصاب القارة نفسها.
عودة البحر إلى قلب البرّ
منذ القرن العشرين، صاغ المنظّر البريطاني هالفورد ماكندر معادلة شهيرة “من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على قلب الأرض، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على العالم.”
وفي قلب هذه الفلسفة ولدت ثنائية البرّ والبحر التي يشرحها كصراع بين “حضارة الجذور” و”حضارة السيولة”، فالولايات المتحدة، وهي تقيم قاعدة قرب دمشق، تحاول اختراق الحصن الأخير لليابسة الأوراسية الممتدة من بحر قزوين إلى المتوسط.
ليست المسألة مراقبة أجواء أو ممرات، بل تغيير بنية التوازن الرمزي بين القوتين؛ وتحويل البرّ إلى منطقة نفوذ بحرية بالمعنى الحضاري، أي إدخال دمشق في المدار الأطلسي بعد أن بقيت طويلا في فلك موسكو وطهران.
دمشق كـ”نقطة ارتكاز” للشرق الأوسط الجديد
من يقرأ الخريطة يدرك أنّ دمشق تقع على عقدة استراتيجية فريدة؛ من الجنوب تلامس “إسرائيل” والأردن، ومن الشرق العراق، ومن الشمال تركيا، ومن الغرب لبنان والبحر المتوسط، فأي تحرك عسكري حولها يُعيد رسم خرائط القوة في المنطقة كلها.
القاعدة الأميركية وفقا لمصادر رويترز، لن تكون “احتلالا بالمعنى الكلاسيكي، بل وجوداً لوجستياً وتنسيقيا ًيشمل مهام مراقبة وتزويد ودعم إنساني، لكنّ خلف هذه اللغة التقنية تكمن إرادة سياسية واضحة؛
تحويل سوريا من “ساحة نفوذ روسي – إيراني” كما كانت قبل سقوط النظام، إلى نقطة تماس مشتركة بين واشنطن وتل أبيب من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى، في إطار تفاهمات أمنية جديدة.
تسعى الولايات المتحدة إلى جعل دمشق “برلين جديدة” في جغرافيا الشرق الأوسط ومدينة حدودية بين عالمين.
دلالات أوراسية
من وجهة النظر الأوراسية، كما يصفها دوغين، فإن هذا التمدد الأميركي يخرق الهندسة المقدسة لأوراسيا،
فمنذ تدخّل روسيا في سوريا عام 2015، كان يُنظر إلى الساحل السوري (حميميم وطرطوس) بوصفه “الضمانة الروحية” لبقاء التوازن بين البحر والبرّ.
أما اليوم، فإن قاعدة أميركية قرب دمشق تمثل اختراقا رمزيا لمركز الثقل الأوراسي، وتنذر بمرحلة جديدة من “الحرب الجيوحضارية” التي لا تُخاض بالدبابات فقط، بل بالمعاني والرموز.
ولذلك، فإن الردّ الروسي – إن أتى – لن يكون بالضرورة عسكريا مباشرا، بل على شكل تحالف أوراسي-إسلامي متجدد يعمّق حضور موسكو في آسيا والشرق الأوسط، ويستثمر في خطاب ثقافي مضاد للعولمة الأطلسية.
دمشق أصبحت نقطة اشتعال في الصراع بين الوجود البحري والهوية البرية.
الانعكاسات على الداخل السوري
من منظور محلي، يطرح هذا التطور سؤالا وجوديا؛ هل يمكن لسوريا أن تستعيد سيادتها وهي تفتح أبوابها أمام قوةٍ خارجية جديدة، حتى لو بدت أقل وطأة من الوجود الروسي أو الإيراني؟
النظام السوري الجديد، الذي يجد نفسه اليوم بين ضغط حلفاء دمشق القدامى وإغراء الانفتاح الأميركي، يواجه معادلة السيادة مقابل البقاء.
لكن الأخطر من السياسة هو التحوّل الرمزي، فالقاعدة الأميركية، وإن قُدّمت كإجراء إنساني أو تقني، ربما تُعيد تشكيل الوعي العام وتبدّل صورة “المقاومة” التي كانت جزءا من هوية الدولة السورية، إنها ليست فقط مسألة جغرافيا عسكرية، بل إعادة تعريف الذات الوطنية في ظل عالم تتآكل فيه الحدود بين الاحتلال والتعاون.
المعركة على المعنى
العالم يعيش اليوم، كما يقول دوغين، مرحلة ما بعد الجغرافيا، لم تعد السيطرة تُقاس فيه بعدد الأميال، بل بقدرة القوى على احتلال الوعي.
في هذا الإطار، تصبح القاعدة الأميركية قرب دمشق أداة لإعادة تشكيل السردية أكثر منها قاعدة ميدانية، فالولايات المتحدة، في هذا المعنى، لا تزرع علمها على الأرض بقدر ما تزرعه في الرموز واللغة، عبر الإعلام، وفي الخطاب الإنساني، وفي فكرة “الاستقرار” مقابل “الفوضى”.
وما لم يمتلك السوريون، والعرب عموما، سرديتهم الجيوحضارية الخاصة، فسيجدون أنفسهم عاجلا أو آجلا يعيشون في جغرافيا الآخرين.
من الصراع العسكري إلى الصراع الوجودي
ما يجري اليوم في دمشق هو نسخة متقدمة من صراع الكواكب الحضارية كما يسميه دوغين؛ الأطلسي ضد الأوراسي، الليبرالي ضد التقليدي، التقنية ضد الروح، والقاعدة الأميركية ليست سوى أداة تموضع جديدة في حربٍ تتجاوز المدافع إلى المعنى ذاته: من يملك تعريف العالم؟
من يملك الحق في أن يقول ما هو “شرعي” وما هو “استقرار” وما هو “حرية”؟
في هذا الصراع، تصبح دمشق مختبرا للقرن الحادي والعشرين: إمّا أن تتحوّل إلى عاصمة فيدرالية ضمن النظام الأميركي-الإسرائيلي الجديد، وإمّا أن تستعيد موقعها كرمزٍ لعالم بديل يدافع عن التعدد والتوازن أمام أحادية العولمة.
دمشق كمرآة للعالم
القاعدة الأميركية الجديدة ليست حدثا معزولا، بل بداية فصل جديد في الجغرافيا المقدسة للشرق الأوسط، حيث ينتقل الصراع من الحدود إلى العواصم، ومن الجغرافيا إلى الوعي، ومن الاحتلال العسكري إلى إدارة المعنى.
السؤال الحقيقي اليوم ليس: “هل ستبقى القاعدة الأميركية قرب دمشق؟ بل “أي معنى ستأخذه دمشق من وجودها؟”
إنها معركة بين البحر والبرّ، بين الموجة والجذر، بين العالم الذي يسعى إلى إذابة كل هوية، والعالم الذي يحاول أن يتذكّر نفسه.
وفي هذه اللحظة التاريخية، تبدو دمشق مرة أخرى أقدم المدن وأحدث الجبهات في الحرب على روح العالم.
دمشق بين البحر والبرّ
الصراع الجيوسياسي: البرّ الأوراسي مقابل البحر الأطلسي
الأبعاد الاستراتيجية للقاعدة الأميركية
دمشق كـ”نقطة ارتكاز”
تقع دمشق على عقدة استراتيجية فريدة تربط الجنوب (إسرائيل والأردن) بالشرق (العراق) والشمال (تركيا) والغرب (لبنان والبحر المتوسط).
الاختراق الرمزي
القاعدة الأميركية تمثل اختراقاً رمزياً لمركز الثقل الأوراسي وتنذر بمرحلة جديدة من “الحرب الجيوحضارية”.
إعادة تشكيل السردية
تصبح القاعدة أداة لإعادة تشكيل السردية أكثر منها قاعدة ميدانية، حيث تزرع الولايات المتحدة رموزها في الوعي الجمعي.
المعركة على المعنى
العالم يعيش اليوم مرحلة ما بعد الجغرافيا، لم تعد السيطرة تُقاس بعدد الأميال، بل بقدرة القوى على احتلال الوعي. في هذا الإطار، تصبح القاعدة الأميركية قرب دمشق أداة لإعادة تشكيل السردية أكثر منها قاعدة ميدانية.
دمشق أصبحت مختبراً للقرن الحادي والعشرين: إمّا أن تتحوّل إلى عاصمة فيدرالية ضمن النظام الأميركي-الإسرائيلي الجديد، وإمّا أن تستعيد موقعها كرمزٍ لعالم بديل يدافع عن التعدد والتوازن أمام أحادية العولمة.

