خطف النساء العلويات في سوريا: الجسد الأنثوي كأداة سلطة وصمت الدولة كشرعنة للعنف

في سوريا، حيث الحرب أنهكت كل معنى للعدالة، يظهر شكل جديد من العنف ضد النساء، يتجاوز الرصاصة والخوف إلى ما هو أعمق؛ اختطاف النساء كفعل سياسي، وكوسيلة للهيمنة، وكبيان صامت للسلطة على الجسد الأنثوي.
هذا ليس مجرد “اختفاء قسري” بالمعنى البيروقراطي البارد للكلمة، فهو اختطاف الجسد ليصبح نصا يُكتب عليه صراع السلطة في مجتمع منهك، وحيث الأنثى الصفحة البيضاء الوحيدة التي يُسمح بتدنيسها دون حساب.

العنف الذكوري حين يرتدي الزي الرسمي

في الحالات التي خرجت إلى العلن، كجنى من صافيتا، وزينب التي غابت لأربعة أشهر، وهبة التي “أعادها عزازيل بسيارته”، ومي السلوم التي ما زالت مختطفة، تتكرر بنية واحدة؛ فهناك صمت رسمي، واتهام ضمني للضحية، وسردية جاهزة تبرر.
وكأن السلطة الحالية، حين تفشل في حماية النساء، لا تكتفي بالعجز بل تتحول إلى راعٍ للعجز نفسه.

توضح الدراسات الاجتماعية أن الدولة الحديثة تُضفي شرعية على اغتصاب النساء حين تلوذ بالصمت، لأنها تجعل من التساهل قاعدة ومن الحماية استثناء، في سوريا، هذه القاعدة أصبحت نمطا، فالجهات الأمنية التي يُفترض أن تحمي، تتعامل مع الخطف كملف هامشي، وتُعيد الفتاة إلى بيتها إن عادت، دون تحقيق، ودون رواية ولا مساءلة، وكأن العودة تغسل الجريمة، والصمت يغني عن الحقيقة.

في هذا النظام الأبوي المعمم، لا يُرى الخطف كجريمة ضد إنسان، بل كـ”عار عائلي” يجب دفنه. بذلك يتحول العنف إلى علاقة قانونية مغلقة: الدولة تشرّع، والأسرة تُخفي، والمجتمع ينسى.

الجسد الأنثوي كحدّ سياسي

عندما تُخطف امرأة في سوريا اليوم، لا يُختطف جسدها فقط، بل تُختطف رمزية انتمائها الطائفي، العائلي، والمكاني.
في حالة النساء العلويات، الجريمة تأخذ بعدا مزدوجا:
فهي في الظاهر اعتداء على امرأة، لكنها في الباطن اعتداء على انتماء كامل يُراد إذلاله من داخله.

يُعاد إنتاج السيطرة على النساء العلويات بأدوات مألوفة في التاريخ الذكوري؛ الخوف من “العار”، والتبرير بالحب أو الهروب، والسردية التي تحوّل الضحية إلى متهمة.
إنها لعبة قديمة، لكنها في سوريا تُمارس بوقاحة متجددة.

في خطاب الدولة، الجسد الأنثوي ليس مواطنا بل رمزا اجتماعيا، وحين يُختطف، يتم التعامل مع القضية كخلل أخلاقي لا كجريمة، وعندما تُعاد الفتاة، لا تُسأل “من خطفك؟” بل ماذا فعل بك؟”.
الأسئلة تنكشف هنا كأداة سلطة، تُوجّه لا لتكشف الحقيقة، بل لتعيد إنتاج الذنب في جسد الضحية.

الغياب كمنهج سلطة

اللافت في هذه القضايا ليس وجود الجريمة بل غياب التحقيق.
في لغة الدولة، الصمت يصبح شكلا من أشكال الكلام، والرسالة تقول “نعرف، لكننا لن نتحرك”.
هذا الغياب ليس عرضا، بل سياسة، فحين لا تُنشر أسماء الخاطفين، ولا تُقدَّم نتائج التحقيق، يُترك الخوف معلقا، ليعمل كأداة ضبط اجتماعي.

العائلة التي تبلّغ تُصبح موضع شبهة، والفتاة التي تعود تُحمَّل عبء تبرئة نفسها، والمجتمع يتهامس: هل كانت فعلا مخطوفة؟ هل هربت؟
هكذا يتحول الغياب إلى نظام تأديب، الخطف لا يعود مجرد حادثة بل تقنية في هندسة الصمت.

تُظهر التجربة أن السلطة لا تُمارس فقط حين يُملى على الفرد ما يفعل، بل أيضا حين يُترك ليتحمّل عبء الصمت، وهذا ما يحدث اليوم؛ تُختطف النساء، ويُختطف معهن الخطاب العام عن العدالة؛ فلا مكان للكلام، لأن الكلام نفسه بات جريمة.

من الخطف إلى الاغتصاب البنيوي

الحديث عن الخطف في سوريا لا يمكن فصله عن الاغتصاب، ليس لأن كل ضحية خُطفت وتعرّضت لاعتداء جنسي، بل لأن البنية التي تسمح بالخطف هي نفسها التي تُشرعن الاغتصاب، فالسلطة فوق القانون، وجسد بلا حماية.

الاختطاف في هذا السياق هو اغتصاب مؤجل، واغتصاب قانوني لا يحتاج إلى فعل جسدي ليكتمل، فحين تُحتجز فتاة دون إرادتها، ويُسكت صوتها، ويُعاد إنتاج العار عليها، يكون المجتمع مارس اغتصابا جماعيا رمزيا قبل أن يلمسها أحد.

في تقرير لمنظمة العفو الدولية (2025)، وُثّقت حالات اختطاف 36 امرأة وفتاة من الطائفة العلوية، بعضهن دون الثامنة عشرة، أكثر من نصف الحالات لم تُفتح فيها تحقيقات رسمية، وأغلبها أُغلق بالقول إن “الفتاة عادت إلى منزلها”.
العودة، هنا، ليست خلاصا بل محوا، حيث تُمحى الجريمة كما يُمحى الاعتراف.

رسم بياني: دور السلطة في تعزيز الخطف كأداة هيمنة

دور السلطة في تعزيز الخطف كأداة هيمنة (استنادًا إلى 8 حالات موثقة)

خطاب التبرير: من الخطف إلى الكذب

تعمل الآلة الدعائية على إعادة صياغة الخطف كلعبة سردية.
في الإعلام المحلي، تُقدَّم بعض القصص كـ “خروج طوعي”، أو “حب مراهق”، أو “سوء تفاهم عائلي”، فيُعاد تسييس الحقيقة، ويُختزل الخطف إلى قصة رومانسية أو هروب من الأهل، ويُعاد إدماج العنف في نسيج الحياة اليومية.

هذا الخطاب لا يهدف إلى طمأنة الناس، بل إلى إعادة إنتاج الطاعة.
فعندما يُقال إن “الفتاة هربت”، فإن الرسالة المضمرة هي “لا تثقوا بالنساء، لا تصدقوا روايتهن”.
المرأة، كما في كل نظام أبوي، هي دائما المذنبة المحتملة.

اختطاف الدولة من ذاتها

القضية ليست فقط خطف النساء، بل خطف الدولة نفسها من مفهومها.
حين تُسلب النساء حريتهن ولا تتحرك العدالة، تتحول الدولة إلى هيئة شكلية بلا مضمون.
إنها سلطة بلا مسؤولية، وقانون بلا تطبيق، وعدالة بلا ذاكرة.

الاختطاف، في هذا المعنى، ليس جريمة ضد امرأة واحدة بل ضد فكرة المواطنة.
فإذا كانت المرأة في النظام الأبوي لا تُرى إلا من خلال رجل، سواء أب، أو زوج، أو أخ، أو ضابط أمن، فإن غياب العدالة هنا يُعيد تأكيد هذه التبعية:
لا وجود ذاتي للمرأة، ولا حتى حين تُختطف.

من الضحية إلى الفاعلة: كسر الحلقة

الطريق إلى كسر هذه البنية لا يمر فقط عبر المحاكم، بل عبر اللغة.
في سوريا، اللغة الرسمية تُفرغ الجريمة من اسمها:
تقول “مفقودة” بدل “مختطفة”،
“عادت” بدل “أُعيدت”،
“حادثة فردية” بدل “نمط عام”.

إعادة تسمية الأشياء فعل مقاومة.
حين تقول الأسرة “خُطفت ابنتنا”، فهي لا تطالب بفتاة فقط، بل تطالب بحقها في أن تكون طرفا في الحقيقة.
حين تكتب ناشطة على فيسبوك عن روان التي اغتُصبت، فإنها تُعلن أن الخوف لن يُخفي الجريمة.
المرأة هنا تُعيد تعريف ذاتها من موضوع للعنف إلى ذات سياسية تُعرّي العنف نفسه.

الخطف كمرآة لنظام اجتماعي

في النهاية، لا يمكن فهم اختطاف النساء في سوريا كجرائم منفصلة، فهي بنية سلطة تعمل على مستويات متعددة:

  • اجتماعيا: تزرع الخوف كآلية لضبط سلوك النساء.
  • سياسيا: تُعيد إنتاج الولاء عبر حماية وهمية من عدو غير مرئي.
  • قانونيا: تُضعف الثقة بالقضاء لصالح الأجهزة الأمنية.
  • رمزيا: تُعيد تثبيت موقع المرأة ككائن هش، يعرّف بقدرته على الصمت.

العنف ضد النساء ليس انحرافًا في النظام؛ إنه جزء من طريقة عمله.

 من الغياب إلى الوجود

في سوريا اليوم، كل فتاة تُختطف تُعرّي النظام القائم أكثر مما تكشف عن جريمة واحدة.
فالجريمة الكبرى ليست الخطف نفسه، بل الشرط الذي يجعله ممكنا، فالنظام لا يرى النساء كذوات، بل كأشياء قابلة للاستبدال.

إذا كانت العدالة تُقاس بقدرة الدولة على حماية أضعف مواطنيها، فإن اختطاف النساء العلويات ليس حادثا طائفيا، بل إعلان فشل أخلاقي شامل.
وفي مواجهة هذا الفشل، لا يكفي أن نطلب “عودة الفتيات”، بل أن نطالب بعودة الدولة إلى معناها.

1 فكرة عن “خطف النساء العلويات في سوريا: الجسد الأنثوي كأداة سلطة وصمت الدولة كشرعنة للعنف”

  1. استباحة النساء العلويات أو الدرزيات بخطفهن و بيعهن يتم على مراى نظام الحكم الانتقالي بل و برعاية منه ..
    حقوق المرأة و حقوق الإنسان لن تصمت عن هذه الجرائم الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *