الزمن المكسور: كيف تحولت الجغرافيا السورية إلى ميتافيزيقا للبقاء والمعنى

يقول روبرت كابلان في انتقام الجغرافيا إن “الخرائط لا تروي الماضي فقط، بل تتنبأ بالمستقبل، لأن الجغرافيا هي الذاكرة التي لا تموت”1، وفي سوريا هي الذاكرة التي لا تموت لأنها لا تكتمل أبدا، فهي تبدو كأرض تعيش زمنا مكسورا؛ لم ينقطع كلياً ولم يتصل تماما.
المدن التي بقيت واقفة تَحمل في حجارتها آثار الخرائط القديمة، والناس الذين ما زالوا على الأرض يعيشون خارج زمن الدولة؛ بين ماض لم يعد صالحا للحياة، ومستقبل لم يُخلق بعد، فالبلاد كلها تحولت إلى فسيفساء من الأزمنة المتجاورة، ولكل مدينة زمنها، ولكل قرية سرديتها الخاصة، وهذا هو شكل الزمن حين تنفجر الجغرافيا من الداخل.

حين تبتلع الجغرافيا التاريخ

كتب كابلان أن “التاريخ هو ظل الجغرافيا على الزمن”2، وفي سوريا، هذا الظل ابتلع الأصل، فالزمن فيها لم يعد سلسلة تطور سياسي أو اجتماعي، بل صار حركة ارتدادية تتبع تضاريس الأرض.
كل حرب أو أزمة أو تحالف أو انقسام هو في جوهره انعكاس لصراع بين الجبال والسهول، والبحر والصحراء.

حين تنهار الدولة، يبقى المكان هو الراوي الأخير، والجغرافيا السورية بتنوعها الشديد وازدواجها البنيوي لم تسمح بولادة سردية وطنية مستقرة، بل أنتجت تواريخ محلية متعددة تتناوب على الحكاية، في الساحل تاريخ بطابع خاص منفتح حمل ذاكرة الطوائف، وفي الداخل تاريخ ريفي محافظ، أما الشمال فيحمل ذاكرة عثمانية مختلطة، وفي الشرق سردية قبائل لا تعترف بالخرائط.

هذه التعددية ليست صدفة بل قدر جيوبولتيكي، فالأمم التي تتكوّن عند مفترق الجغرافيات لا تملك رفاهية النسيان، بل تعيش أسيرة ذاكرة المكان أكثر من ذاكرة الدولة، وهنا يتجسد “العبء الجغرافي للتاريخ”، حيث يصبح البقاء شكلا من أشكال المقاومة ضد المعنى.

في هذا السياق، يصبح البقاء في الحالة السورية أكثر من غريزة استمرارية؛ إنه شكل من أشكال المقاومة ضد المعنى ذاته، فحين تتهاوى السرديات الكبرى التي منحت الوجود قيمته ، كالقومية والدين والثورة ، لا يختفي المكان، بل ينهض من تحت ركام المعنى ليواصل الحياة بقوة الجغرافيا وحدها، وهنا يتحول الوجود نفسه إلى فعل اعتراض على الانقراض الرمزي، وكأن البلاد تقول بصمتها الجيولوجي سنبقى حتى وإن فقدنا السبب الذي كنا نحيا من أجله.

في هذه اللحظة، يصبح البقاء موقفا فلسفيا بقدر ما هو واقع مادي، ويغدو استمرار الأرض في احتضان ساكنيها شكلا من الصمود الصامت ضد العدم، وضد فكرة أن الحياة تحتاج دوما إلى معنى كي تستمر.

الجغرافيا كبنية بقاء

منذ عام 2011 كشفت الأزمة السورية عما يمكن تسميته بـ”الذاكرة الجغرافية للبقاء”، فحين تراجعت مؤسسات الدولة، لم ينهَر الكيان كما كان متوقعا، بل أعادت الجغرافيا ترتيب التوازنات من تحتها، فالجبال تحصّنت، والسهول تشرذمت، والصحراء امتصّت الصدمة.3
قاومت البلاد الانهيار الكامل لأن تضاريسها تعلّمت عبر القرون كيف تتكيف مع الهزائم، وهو ما يسميه كابلان بـ”ذكاء الأرض”، وهو ما تمتلكه الجغرافيا في إدارة المصير حين يعجز الإنسان عن ذلك، فالجبال لا تثور لكنها ترفض السقوط، والسهول لا تحارب لكنها تغيّر ولاءاتها بسرعة، والصحراء لا تعترف بالحدود لكنها تصون توازن القوى.

هذه العناصر ليست مجرد تضاريس، بل أنظمة دفاع صامتة، فالجغرافيا أنقذت سوريا مرتين:

  • من الانهيار الكامل.
  • من السرديات المطلقة التي حاولت تدميرها باسم المعنى.

سوريا كزمن جغرافي

في تحليله لبلقان التسعينيات، كتب كابلان أن “التاريخ في مناطق التماس لا يسير إلى الأمام، بل يدور في دوائر من الرماد”4، وسوريا تعيش هذا الدوران المأساوي، لكنها تختلف في شيء جوهري، فهي ليست ساحة صراع بين قوميات فقط، بل بين تصورات متناقضة للزمن نفسه.

في دمشق زمن مركزي محافظ يقدّس الاستمرارية، وفي الشمال متمرد يعيش خارج الدولة، وفي الشرق اقتصادي مرتبط بخطوط الطاقة والعبور، وفي الجنوب عشائري يمتد في الذاكرة البدوية، وهذه الأزمنة لا تتصارع فقط، بل تتناوب على تعريف الوطن.

إنه “الزمن الجغرافي” الذي زمن تحكمه التضاريس لا المؤسسات، وتتحدد فيه السياسة بمدى القدرة على السيطرة على المكان، وليس بالقدرة على إنتاج المعنى، وهذا ما يجعل سوريا اليوم زمنا يتخذ شكل دول، وليست دولة في الزمن.

البقاء كميتافيزيقا

في منطق كابلان، البقاء الجغرافي هو الشكل الأعلى للوعي التاريخي، فحين تنكسر الأيديولوجيا، لا يبقى سوى الغريزة المكانية، وهذا ما يفسر المفارقة السورية، حيث فقدت البلاد سرديتها السياسية لكنها لم تفقد قدرتها على الوجود.

المدن المدمرة لا تزال مأهولة، الحدود الممزقة ما زالت تشكّل طرقا لمرور البضائع، والمجتمعات المنهكة وجدت بدائل اقتصادية غير رسمية، وحتى الهجرة الواسعة أعادت توزيع الكتلة السكانية بطريقة تحافظ على الحد الأدنى من التوازن.

يشير ذلك إلى ما ميتافيزيقا البقاء، حيث يتحول البقاء نفسه إلى معنى، ويغدو استمرار المكان دليلا على هوية لا تُختزل في نظام سياسي، فـ”حين تفشل الدولة، تتكلم الجغرافيا بلغة لا يفهمها إلا من عاش قرونا في المكان ذاته”5.

الجغرافيا والهوية الوطنية

تُظهر التجربة السورية أن الهوية الوطنية لم تُبنَ على الإرادة السياسية فقط، بل على توازن دقيق بين الجهات، وحين اختل، تصدّعت السردية الجامعة، لكن ما يجعل إعادة بناءها ممكنة هو أن الجغرافيا نفسها ما زالت تحتفظ ببنيتها المتكاملة رغم الانقسام السياسي.

البحر ما زال يطل على الداخل، والصحراء ما زالت تمتد نحو الشرق، والشمال لم ينفصل عن القلب، والجنوب لم يغادر ذاكرة التاريخ السوري، وهذا الترابط الطبيعي هو ما يجب أن يتحول إلى أساس السردية الوطنية الجديدة، التي لا تتنكر للجغرافيا بل تتصالح معها.

إنها الفكرة التي توضح أن “المكان هو العقل الباطن للأمة”6، وأن كل دولة تفشل في مصالحة هذا العقل مع وعيها المعاصر تتحول إلى زمن مكسور مهما حاولت إعادة الإعمار.

من الجغرافيا إلى الفلسفة السياسية

الفارق بين البقاء والمعنى أن الأول جغرافي والثاني أخلاقي، لكن في سوريا كلاهما باتا سؤالا واحدا؛ كيف يمكن لجغرافيا منقسمة أن تنتج معنى جمعيّا؟

ربما الجواب يكمن في التحول من سردية المركز إلى سردية التوازن، فالدولة السورية الحديثة بُنيت على منطق الهيمنة، من المدينة على الريف، والداخل على الساحل، والمركز على الأطراف، أما المستقبل فيتطلب سردية توزيع لا سردية تركيز، حيث تتعامل كل جهة مع الأخرى بوصفها شريكا في البقاء، لا خصما في السلطة.

هذا التحول ليس مجرد مشروع سياسي، بل تحوّل في فلسفة الزمن الوطني، من تاريخ يكتب من الأعلى، إلى ذاكرة تُكتب من الجغرافيا نفسها.

سوريا كمرآة للشرق الأوسط

“الشرق الأوسط هو المختبر الأخير لصراع الخرائط القديمة مع العالم الحديث”7، وسوريا، في هذا السياق، هي التجربة الأوضح لهذا الصراع، كلّ ما يحدث فيها هو انعكاس لتبدّل النظام الإقليمي من الحروب بالوكالة إلى إعادة رسم الممرات الاقتصادية، ومن الانقسامات الطائفية إلى صعود الهويات الفرعية.

لكن سوريا تختلف لأنها، بخلاف جاراتها، تحمل في جغرافيتها جميع عناصر التناقض الشرق أوسطي، العروبة والإسلام والبحر والصحراء، والمشرق والمتوسط، والأقليات والأكثريات.
ولذلك، فإن إعادة بناء السردية السورية ليست شأنا محليا، بل مشروعا إقليميا يمسّ مستقبل الشرق الأوسط ذاته.

من الزمن المكسور إلى سردية المعنى

إن الزمن المكسور الذي تعيشه سوريا ليس نهاية التاريخ، بل بداية جغرافيا جديدة تبحث عن معنى جديد، فالخرائط لم تتغير بعد، لكن الزمن تغيّر جذريا، وما كان بالأمس حدودا سياسية صار اليوم رموزا ذهنية، وما كان ولاء طائفيا صار ذاكرة مكانية.

البلاد التي كانت تُعرّف نفسها بخطاب الأيديولوجيا، أصبحت تُعرّف اليوم بقدرتها على البقاء الذي إن لم يتحول إلى معنى سيبقى معلقا في زمن بلا مستقبل، فالتحدي الحقيقي أمام سوريا ليس في إعادة الإعمار العمراني أو العسكري، بل في إعادة بناء المعنى الوطني من داخل الجغرافيا.
أن تتحول الجبال والأنهار والسهول إلى رموزٍ جامعة، وأن يصبح المكان نفسه نصّا وطنيا يُكتب بيد أبنائه،
لا بقرارات الخارج، فـ”حين تفقد الأمم بوصلة المعنى، عليها أن تعود إلى خرائطها القديمة لترى أين ضاعت الطريق”⁷.

الزمن المكسور: سوريا بين جغرافيا البقاء وميتافيزيقا المعنى

الزمن المكسور: سوريا بين جغرافيا البقاء وميتافيزيقا المعنى

تحليل جيوسياسي باستخدام أفكار روبرت كابلان

يقول روبرت كابلان في انتقام الجغرافيا إن “الخرائط لا تروي الماضي فقط، بل تتنبأ بالمستقبل، لأن الجغرافيا هي الذاكرة التي لا تموت”، وفي سوريا هي الذاكرة التي لا تموت لأنها لا تكتمل أبدا، فهي تبدو كأرض تعيش زمنا مكسورا؛ لم ينقطع كلياً ولم يتصل تماما.

الجغرافيا كبنية بقاء

الجبال تحصّنت

تمثل الجبال مناطق تحصّن طبيعي، تحافظ على هوية مستقلة وتقاوم السقوط رغم عدم ثورتها بشكل مباشر.

السهول تشرذمت

المناطق السهلية شهدت تشرذمًا في الولاءات والمواقف، متغيرة بسرعة مع تغير الظروف.

الصحراء امتصّت الصدمة

الصحاري السورية امتصت صدمات الأزمة، محافظة على توازن القوى دون الاعتراف بالحدود المفروضة.

“قاومت البلاد الانهيار الكامل لأن تضاريسها تعلّمت عبر القرون كيف تتكيف مع الهزائم، وهو ما يسميه كابلان بـ’ذكاء الأرض'”
– روبرت كابلان

الأزمنة المتعددة في الجغرافيا السورية

  • دمشق: زمن مركزي محافظ يقدّس الاستمرارية
  • الشمال: زمن متمرد يعيش خارج الدولة
  • الشرق: زمن اقتصادي مرتبط بخطوط الطاقة والعبور
  • الساحل: زمن منفتح يحمل ذاكرة الطوائف
  • الجنوب: زمن عشائري يمتد في الذاكرة البدوية

البقاء كميتافيزيقا

من الزمن المكسور إلى سردية المعنى

الزمن المكسور الذي تعيشه سوريا ليس نهاية التاريخ، بل بداية جغرافيا جديدة تبحث عن معنى جديد. التحدي الحقيقي أمام سوريا ليس في إعادة الإعمار العمراني أو العسكري، بل في إعادة بناء المعنى الوطني من داخل الجغرافيا.

أن تتحول الجبال والأنهار والسهول إلى رموزٍ جامعة، وأن يصبح المكان نفسه نصّا وطنيا يُكتب بيد أبنائه، لا بقرارات الخارج.

Endnotes

  1. Robert D. Kaplan, The Revenge of Geography: What the Map Tells Us About Coming Conflicts and the Battle Against Fate, Random House, 2012, pp. 23–27. ↩︎
  2. Robert D. Kaplan, The Coming Anarchy: Shattering the Dreams of the Post Cold War, Vintage Books, 2001. ↩︎
  3. Robert D. Kaplan, Balkan Ghosts: A Journey Through History, St. Martin’s Press, 1993. ↩︎
  4. Robert D. Kaplan, Eastward to Tartary: Travels in the Balkans, the Middle East, and the Caucasus, Random House, 2000. ↩︎
  5. Robert D. Kaplan, The Ends of the Earth: A Journey at the Dawn of the 21st Century, Vintage Books, 1996. ↩︎
  6. Robert D. Kaplan, The Revenge of Geography, op. cit., p. 215. ↩︎
  7. Ibid., p. 254. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *