حذف الأصفار من الليرة السورية: إصلاح نقدي أم وهم استقرار؟

خلال أسبوع واحد فقط، وقفت سوريا أمام اختبار اقتصادي وسياسي غير مسبوق، حيث انكشفت خطة لإصدار أوراق نقدية جديدة بعد حذف صفرين من العملة، في خطوة يُنتظر أن تُطلق في كانون الأول المقبل وسط تساؤلات عن جدواها ومغزاها.

وكالة رويترز قدمت تفاصيل دقيقة مدعومة بوثائق وتسريبات داخلية، بينما جاء الخطاب الرسمي مربكا ومترددا بين الإقرار الضمني والنفي الجزئي، وهذه الفجوة ليست تفصيلا عابرا؛ إنها مرآة لانعدام الشفافية، وربما أيضا لارتباك القرار الاقتصادي في دمشق.

لغة الأرقام أم رمزية السياسة؟

الحذف المقترح لصفرين يعني ببساطة أن الليرة التي تبلغ قيمتها اليوم 5000 ستُستبدل بورقة من فئة 50، وعلى الورق فهو حل تقني لتبسيط المعاملات اليومية التي أرهقها التضخم الجامح، لكن خلف هذه الخطوة تقبع رسالة سياسية صاخبة؛ فإزالة الصور السابقة من بعض الفئات، إن صحت، ليست مجرد تعديل شكلي، بل إعلان صارخ من النظام الجديد عن رغبته في محو رموز الماضي من الذاكرة النقدية، وتثبيت شرعيته الخاصة بديلاً عنها.

العملة ليست مجرد أداة للتبادل، بل شهادة على طبيعة السلطة التي تُصدرها، وفي “سوريا الجديدة”، لا يبدو حذف الصور كإجراء تجميلي بريء، بل كجزء من هندسة سياسية مقصودة لإعادة كتابة الرموز وتوجيه المخيال الجمعي نحو سردية بديلة، فهو محاولة لدفن حقبة كاملة عبر دفاتر المصرف المركزي، وتثبيت هوية سياسية واقتصادية تُسوَّق على أنها بداية جديدة، وحقيقتها محاولة لفرض شرعية بالقوة الرمزية أكثر مما هي إصلاح اقتصادي حقيقي.

طباعة في موسكو… أو ربما لا

بحسب رويترز، أُبرم الاتفاق مع شركة “غوزناك” الروسية في أواخر تموز، ولكن تصريحات محافظ المصرف المركزي لمّحت إلى أن مكان الطباعة ما زال قيد البحث، وهذا التناقض يطرح سؤالين: الأول هل نحن أمام محاولة لإدارة التوقعات، أم أن الخلاف داخل أروقة السلطة لم يُحسم بعد؟ وفي كلتا الحالتين، يظل الغموض سيد الموقف، وهو ما يزيد من هشاشة الثقة بالقرار.

عمليا الطباعة في روسيا تحمل بُعدا جيوسياسيا بالغ الأهمية لأن هذا الخيار ليس تقنيا فقط، بل رسالة ولاء سياسي واقتصادي إلى موسكو، الحليف الرئيسي للنظام السابق، فكما أن دعم روسيا العسكري قلب موازين الحرب، فإن احتكارها لمفاصل حساسة مثل إصدار العملة يرسّخ تبعية اقتصادية عميقة، وفي حال صُدّرت الأوراق من مطابع موسكو، فإنها ستكون محملة برمز سياسي لا يقل دلالة عن الصور المطبوعة على وجهها.

معضلة الثقة والاقتصاد الموازي

تقدّر التسريبات أن نحو 40 تريليون ليرة سورية يتم تداولها خارج النظام المصرفي، والهدف المُعلن من الإصلاح النقدي هو إعادة هذه الكتلة إلى القنوات الرسمية، لكن التجارب التاريخية تُظهر أن الحذف الشكلي للأصفار، دون إصلاح بنيوي في السياسة النقدية والمالية، لا يعيد الثقة ولا يوقف انهيار العملة، بل يتحول إلى مجرد قناع جديد على وجه أزمة أعمق.

فتركيا عام 2005، حذفت ستة أصفار من الليرة القديمة، لتتحول المليون ليرة إلى ليرة واحدة، لكن ما جعل التجربة التركية مقنعة هو سياقها حيث اقتصاد ينمو بسرعة، وتدفقات استثمارية ضخمة، وتفاوض جدي على عضوية الاتحاد الأوروبي، فالحذف جاء تتويجا لمسار إصلاحي، لا بديلا عنه، في المقابل، فإن الأرجنتين خاضت تجارب متكررة لحذف الأصفار (1983، 1985، 1992)، لكن دون إصلاح حقيقي، فتحولت الخطوة إلى مجرد مسرحية متكررة لم تخفِ انهيار الاقتصاد ولا التضخم المفرط.

في الحالة السورية، لا يلوح في الأفق أي مسار إصلاحي جاد، فالاقتصاد ما يزال مُكبّلاً بفساد عميق، وحرب مستمرة بوجوه متعددة، وعقوبات دولية لم تنته بعد، والأهم أن الجهاز المصرفي شبه معطل، يعاني من عزلة عن النظام المالي العالمي، فإن أي محاولة لإعادة رسملة الثقة عبر الحذف الشكلي للأصفار تبدو كمن يحاول سد نزيف شريان بضمادة ورقية.

بين الحاجة والإنكار

الحكومة تروّج لفكرة أن تغيير العملة “ركيزة إصلاح”، غير أن غياب خطة موازية لإعادة هيكلة الاقتصاد، وضبط الإنفاق، ومكافحة اقتصاد الحرب، يجعل هذه الركيزة أشبه بدعامة جوفاء، فالإصلاح النقدي الحقيقي لا يبدأ من المطبعة الروسية، بل من سياسات تُعيد للمواطنين ثقتهم بقدرة الدولة على حماية مدخراتهم.

التحدي الأكبر أمام السلطة الجديدة يكمن في طبيعة الاقتصاد الموازي، الذي نما وترسّخ خلال سنوات الحرب، وأصبحت أسواق الصرف، وتحويلات المغتربين، وشبكات التهريب، مصادر تمويل بديلة تتجاوز الأطر الرسمية وتضعف قدرة الدولة على التحكم بالسيولة.

إن أي محاولة لإعادة إدخال هذه الكتلة النقدية إلى النظام المصرفي ستصطدم بشبكات مصالح راسخة، كوّنت لنفسها قوة اقتصادية مستقلة، والسؤال الجوهري هنا: هل تستطيع الدولة الجديدة أن تفرض سلطتها على اقتصاد موازٍ اعتاد العمل خارج رقابتها؟”

إصلاح نقدي أم وهم استقرار؟

من منظور اقتصادي بحت، حذف الأصفار يُسهّل المعاملات اليومية ويمنح انطباعا مؤقتا بالاستقرار، لكنه لا يغيّر شيئا في القوة الشرائية الفعلية ولا في ميزان العرض والطلب على العملة، والتجارب الدولية تؤكد أن الإصلاح النقدي يكون فعالا فقط حين يترافق مع حزمة واسعة من الإجراءات من استقلالية حقيقية للبنك المركزي، وسياسة مالية رشيدة، وإصلاح ضريبي، وفتح قنوات استثمارية جديدة، وفي غياب هذه العناصر، فإن الإصلاح النقدي يصبح مجرد “وهم استقرار”.

ما يحدث في سوريا الآن ليس مجرد قرار اقتصادي، بل مشهد سياسي بامتياز، فالعملة الجديدة ستولد في موسكو، محمّلة برمزية سياسية واضحة، بينما يحاول النظام بيعها للداخل كركيزة إصلاح، لكن السوريين، الذين جرّبوا الانهيارات المتكررة لعملتهم ومدخراتهم، قد لا يقتنعون بسهولة، والثقة لا تُطبع في مطابع غوزناك، بل تُبنى بإصلاح مؤسسي عميق وبعقد اجتماعي جديد.

التحدي الحقيقي أمام دمشق ليس إصدار أوراق نقدية جديدة، بل إقرار سياسة اقتصادية غائبة حتى الآن، وما لم يحدث ذلك، فإن كل صفر يُحذف اليوم سيعود غدا مضاعفا، تمامًا كما أثبتت التجارب المريرة لدول أخرى، فالإصلاح النقدي ليس ما يُكتب على العملة، بل ما يُكتب في ميزان الثقة بين الدولة ومواطنيها، وفي سوريا، هذا الميزان ما يزال مختلا إلى حد بعيد.

📊 الرسم التفاعلي: حذف الأصفار من العملة السورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *