اللامركزية في سوريا: بين تفكك الدولة وإمكانية بناء نظام حوكمة جديد

في بلد عاش لعقود تحت نظام سياسي مركزي، وظروف إقليمية فرضت صراعا وجوديا، يتم طرح اللامركزية لا بوصفها إصلاحا إداريا، بل كخيار وجوديا لتفادي انهيار الدولة.

لا تقاس اللامركزية من منظور الاقتصادي والسياسي البريطاني – البوليفي جان-بول فاغيت (أحد أبرز منظري اللامركزية) بشعاراتها، بل بقدرتها على إنتاج حوكمة أفضل ومسؤولية محلية حقيقية، لكن حين توضع هذه الفكرة في سوريا المثقلة بالحرب والانقسام والاقتصاد المنهك، تبدو النتائج أقل يقينا.
اللامركزية الحكم من الأسفل إلى الأعلى

اللامركزية وفق الأبحاث للدول مثل سوريا ليست وصفة تقنية، إنما منهج في إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، وجوهرها أن المواطن المحلي، حين يملك سلطة القرار والرقابة، يخلق مؤسسات أكثر كفاءة وعدلا،
لكن هذا لا يتحقق إلا بثلاثة شروط:

  1. وضوح في توزيع الصلاحيات.
  2. قدرة مالية محلية حقيقية.
  3. إطار وطني يحافظ على وحدة الدولة.

في حال عدم التعامل مع الشروط السابقة تتحول اللامركزية إلى شكل من أشكال “تفويض الفشل” عبر تحميل السلطات المحلية أعباء الحكم بلا أدوات ولا موارد.

الواقع السوري: تعددية الأمر الواقع أم تعددية الحكم؟

منذ عام 2011، نشأت في سورية لامركزية أمر واقع:

  • في الشمال الشرقي، إدارة ذاتية كردية تسعى إلى نموذج “فيدرالي” قائم على الهويات المحلية.
  • في الشمال الغربي، مجالس محلية مرتبطة جزئيا بالمعارضة.
  • في مناطق سيطرة الحكومة، محاولات شكلية لتفعيل “قانون الإدارة المحلية” لعام 2011.

لكن هذه النماذج، وإن أفرزت بعض مظاهر الإدارة المدنية، لم تنجح في إنتاج سلطة محلية يمكن مساءلتها أو إخضاعها لنموذج حوكمة واضح، فمعظم التجارب السورية الراهنة تعمل في فراغ قانوني ومؤسساتي، يجعلها أشبه بـ«إدارات طوارئ» أكثر منها كيانات حكم مستدامة.

في الشمال الشرقي، تبدو “الإدارة الذاتية” نموذجا مكتملا ظاهريا للامركزية، لكنها في جوهرها تعتمد على سلطة عسكرية-أمنية مهيمنة، وعلى موارد النفط التي تُدار خارج أي منظومة مالية وطنية، فشرعيتها تنبع من الأمر الواقع لا من تفويض شعبي جامع، ما يجعلها عرضة للاهتزاز كلما تغير ميزان القوى أو تفاهمات الخارج.

وفي الشمال الغربي، تُظهر المجالس المحلية التي نشأت في كنف المعارضة نمطا آخر من اللامركزية المقيدة، فهي تتلقى تمويلها وتوجيهها من منظمات دولية أو من مانحين مشروطين، ما يحولها إلى واجهات تنفيذية لسياسات الإغاثة أكثر من كونها مؤسسات حكم محلي، فنفوذ الفصائل المسلحة، وتعدد المرجعيات الإدارية بين حكومة مؤقتة وأخرى إنقاذية، يعمّق التبعية ويُفرغ فكرة الحكم المحلي من مضمونها الديمقراطي.

أما في مناطق سيطرة الحكومة، فاللامركزية التي يتيحها قانون الإدارة المحلية لعام 2011 بقيت شكلية إلى حدّ كبير، فالمحافظون ورؤساء المجالس ما زالوا يعيّنون من المركز، والموازنات تُقر وتُصرف عبر وزارات دمشق، ما يجعل “القرار المحلي” مجرد تفويض إداري في إطار بيروقراطي مغلق.

في جميع الحالات، تفشل هذه النماذج في تحقيق الاستقلال المالي والسياسي الذي يعتبره جان-بول فاغيت شرطا مسبقا لنجاح أي تجربة لامركزية، فلا وجود لنظام جبائي محلي فعّال، ولا لصلاحيات حقيقية في إدارة الموارد، ولا لآلية تُمكن المواطن من محاسبة سلطته المحلية ضمن عقد اجتماعي واضح.

“اللامركزية السورية” الراهنة ليست سوى تعدد في مراكز النفوذ لا في مراكز الحكم، فهي لامركزية بلا دولة، حيث تتبدل الرايات ولا تتبدل البُنى السلطوية، ويتحوّل المحلي إلى وكيل لمركزٍ آخر عسكري، أو أيديولوجي أو خارجي، وما لم يُعاد تعريف اللامركزية بوصفها نقلا للسلطة المشروعة لا مجرد تفويض للنفوذ، فإنها ستبقى محلية في الشكل، مركزية في الجوهر، وخاضعة للابتزاز المالي والسياسي على الدوام.

اختلال التوازن بين المسؤولية المحلية والتكامل الوطني

نجاح أي تجربة لامركزية مرهون بقدرتها على تحقيق توازن دقيق بين الاستقلال المحلي والترابط الوطني، وفي سوريا يبدو هذا التوازن مفقود على المستويين:

  • تراجع المركز عن دوره التنسيقي، وتآكل قدرته على ضمان العدالة في توزيع الموارد أو صياغة سياسات عامة شاملة، وتحول الدولة إلى جزر إدارية منفصلة تتفاوت في الخدمات والقدرة الاقتصادية والولاءات السياسية.
  • لم تكتسب الأطراف بعد شرعية مؤسسية أو قدرة مالية تخولها أن تكون شريكا فعليا في التنمية أو الحكم الرشيد، فالمجالس المحلية والهيئات المدنية تعمل في ظل غياب إطار دستوري واضح، وتمويل مستقر، ومساءلة قانونية.

بدلا من لامركزية منظمة تعيد توزيع السلطة على نحو متكامل، تشهد البلاد تفككا إداريا وسياسيا ويتخفى في لغة الإصلاح، فيما الواقع يشي بانقسام فعلي بين سلطات محلية مفككة ومركز عاجز عن احتوائها.

اللامركزية: إصلاح إداري أم إعادة تعريف للدولة؟

في السياق السوري، غالبًا ما يُقدَّم الحديث عن اللامركزية بوصفه أداة إصلاح إداري، أي نقل بعض الصلاحيات إلى البلديات أو المحافظات لتحسين الخدمات وتخفيف العبء عن المركز، غير أن هذا الطرح يلامس القشرة ولا يقترب من الجوهر.
اللامركزية الحقيقية ليست مجرد هندسة إدارية، بل إعادة صياغة لعقد الدولة والمجتمع، بحيث تُعاد تعريف السيادة والهوية والموارد على أسس عادلة.
أي مقاربة تكتفي بتوزيع الوظائف دون إعادة بناء الشرعية السياسية ستبقى شكلية، فالمطلوب هو عقد وطني جديد يحدّد بوضوح ما هي الدولة التي يريد السوريون استعادتها:

  • دولة جامعة توزع السلطة بعدالة،
  • أم أرخبيل من الإدارات المتجاورة تتنافس على الموارد والنفوذ؟
    إن غياب هذا النقاش البنيوي يجعل اللامركزية الحالية أقرب إلى “تفويض إداري” منها إلى مشروع وطني لإعادة بناء الدولة.

المخاطر الكامنة: تفتيت السلطة وتكريس الفوارق

اللامركزية في الدول الخارجة من صراع سلاح ذو حدّين، فحين تطبق بلا إطار وطني ناظم، يمكن أن تتحول من أداة إصلاح إلى عامل تفتيت.
في سورية، يلوح هذا الخطر بوضوح في ثلاثة مستويات رئيسية:

  1. سياسيا فإن اللامركزية غير المنضبطة تشرعن واقع الانقسام العسكري والمناطقي، فتتحول خطوط النفوذ الميدانية إلى حدود إدارية بحكم الأمر الواقع.
  2. اقتصاديا فغياب سياسة مالية موحدة يجعل المناطق الغنية بالنفط أو الزراعة قادرة على تعزيز استقلالها المالي، فيما تترك المناطق الفقيرة لتواجه العجز والعزلة.
  3. إداريا فإن ضعف الجهاز البيروقراطي وغياب مؤسسات الرقابة يجعل من نقل الصلاحيات مجرد انتقال للفساد والمحسوبية إلى المستوى المحلي، دون أن تتحقق مساءلة أو شفافية حقيقية.

وبذلك، تصبح “اللامركزية” اسما آخر لفوضى السلطة، لا لحوكمتها، فهي لا تخلق ديمقراطية محلية بقدر ما تفرّغها من معناها، عندما تُمنح سلطات بلا مؤسسات، وموارد بلا رقابة، وقرارات بلا مساءلة.

فرصة البناء من القاعدة: نموذج “لامركزية مسؤولة”

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس تفكيك الدولة، بل هندسة دولة جديدة تستمد قوتها من محلياتها، لا على حسابها:

  • مجالس محلية منتخبة بسلطات واضحة.
  • موازنات شفافة تخضع للرقابة الوطنية.
  • توزيع عادل للموارد بين المحافظات.
  • آليات لتسوية النزاعات بين المركز والمناطق.

هذه ليست تفاصيل تقنية، بل الأساس التي تحدد ما إذا كانت سوريا القادمة دولة واحدة متعدّدة، أم جغرافيات متجاورة تتناحر.

بين الخوف والأمل

إن قراءة اللامركزية في سورية بلغة تكشف عن مفارقة حادة:

  • اللامركزية ربما تكون الدواء الوحيد لإنقاذ الدولة من أزمة الانقسام الحالية، لكنها في الوقت نفسه تصبح سما بطيئا إذا استُخدمت كغطاء للتقسيم أو كتعويض عن غياب الدولة.
  • سورية تحتاج إلى لامركزية قائمة على عقد اجتماعي جديد، لا على اعتبارات “من انتصر” ووجود “طائفة” مهزومة، فمهمتها إعادة الثقة بين المواطن والدولة.

التحدي الأساس الذي يواجه سوريا ليس هل تحتاج إلى اللامركزية؟ بل أيّ لامركزية تحتاجها سوريا كي تبقى دولة واحدة؟

اللامركزية في سورية

اللامركزية في سورية

بين تفكك الدولة وإمكانية بناء نظام حوكمة جديد

شروط اللامركزية الفعالة

  • وضوح في توزيع الصلاحيات
  • قدرة مالية محلية حقيقية
  • إطار وطني يحافظ على وحدة الدولة

نماذج اللامركزية في سورية

  • الإدارة الذاتية الكردية (الشمال الشرقي)
  • المجالس المحلية المرتبطة بالمعارضة (الشمال الغربي)
  • قانون الإدارة المحلية (مناطق الحكومة)

مقارنة بين نماذج اللامركزية في سورية

النموذج المصادر المالية الشرعية التحديات الرئيسية
الإدارة الذاتية الكردية النفط، التجارة الحدودية الأمر الواقع، الهوية المحلية الاعتماد على القوة العسكرية، العزلة الدولية
المجالس المحلية بالشمال الغربي التمويل الدولي، المنظمات الإغاثية الارتباط بالمعارضة التبعية للمانحين، تنافس المرجعيات
قانون الإدارة المحلية موازنة الحكومة المركزية تفويض من الحكومة المركزية المركزية الفعلية، محدودية الصلاحيات

مخاطر اللامركزية غير المنضبطة

  • ترسيخ واقع الانقسام العسكري والمناطقي
  • تكريس الفوارق الاقتصادية بين المناطق
  • انتقال الفساد والمحسوبية إلى المستوى المحلي

متطلبات “اللامركزية المسؤولة”

اللامركزية الحقيقية ليست مجرد هندسة إدارية، بل إعادة صياغة لعقد الدولة والمجتمع، بحيث تُعاد تعريف السيادة والهوية والموارد على أسس عادلة.

التحدي الأساسي

التحدي الذي يواجه سوريا ليس هل تحتاج إلى اللامركزية؟ بل أيّ لامركزية تحتاجها سوريا كي تبقى دولة واحدة؟

سورية تحتاج إلى لامركزية قائمة على عقد اجتماعي جديد، لا على اعتبارات “من انتصر” ووجود “طائفة” مهزومة، فمهمتها إعادة الثقة بين المواطن والدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *