مع الانهيار الكامل للنظام الإقليمي الذي مثلت سوريا عقدة جيوسياسية فيه تربط طهران ببيروت، برزت ديناميات جديدة تُعيد رسم المشهد الجيوسياسي في شرقي المتوسط، فلم يؤدِّ سقوط دمشق إلى نهاية نظام سياسي فحسب، بل كشف عن هشاشة البنى الإقليمية الجديدة، وفجّر توازنات استمرت لعقود.
باتت القوى الطارئة تحاول ملء فراغ السيادة بديناميكيات أمنية واقتصادية بديلة، فيما تختفي الدولة لصالح توازنات مؤقتة تتجاوز الحدود وتعيد تعريف السلطة، وما يجري ليس انتقالا من نظام إلى آخر، بل إعادة تشكّل جذرية لوظيفة الجغرافيا نفسها.
سقوط دمشق: موت العمود الجغرافي لمحور المقاومة
في شرقي المتوسط، لا تُسجَّل التحوّلات الكبرى في بيانات الأمم المتحدة أو في بيانات الدبلوماسيين، بل تُرسم على الأرض، حيث تتداخل الجغرافيا مع الواقع الجيوسياسي في خطوط هشّة من النار والترحال والطموح، والمشهد الحالي في سوريا ولبنان، منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، يعكس حالة من الفراغ السياسي الشامل، لا يشبه سقوط الدول بل تفكّك الخريطة نفسها، فحين تنهار السلطة، تعود الجغرافيا لحكم المكان.
سوريا الجديدة: أرخبيل سياسي بلا مركز
سوريا التي كانت دولة مفصلية في العمق الإقليمي، باتت تُحكم فعليا من قبل هيئة تحرير الشام، التي تجاوزت كونها مجرد فصيل مسلّح لتغدو القوة المنظمة الوحيدة القادرة على إدارة الحكم والسيطرة.
لم تعد إدلب مجرد معقل التمرد المسلح بل تحوّل نموذج الحكم الذي رسخته هيئة تحرير الشام فيها إلى صيغة سيطرة مركزية انتقلت فعليا إلى دمشق، فالعاصمة أصبحت مركز إدارة البلاد ضمن هيكلية تقودها الهيئة سياسيا، عبر فصائل منضوية تحت سلطتها، لكن هذه الفصائل ورغم إعلان انخراطها في الجيش السوري الجديد، لا تزال تمارس مهامها ككيانات مستقلة، بلا اندماج فعلي أو تنسيق مؤسسي موحّد.
الحكومة الانتقالية لا تتجاوز في وظيفتها مظلة خارجية شكلية، بينما تتوزع مناطق مثل حمص والقنيطرة وسهل الغاب بين فصائل محلية غير مندمجة، ما يجعل من الدولة كيانا شكليا تحكمه التفاهمات الميدانية لا المؤسسات.
بهذا التفكك، لم تعد سوريا تمثل العمود الجغرافي لـ”محور المقاومة”، بل غدت شبكة مفككة من الولاءات العشوائية والمصالح المتصارعة.

الحدود اللبنانية–السورية: من خطوط دفاع إلى ساحات تصادم
هذا الفراغ لم يترك حدودا بل حوّلها إلى جبهات، لا سيما على خط التماس السوري–اللبناني، فالممر البرّي التقليدي الذي كان يربط طهران ببيروت عبر دمشق تلاشى، فحزب الله فقد العمق الاستراتيجي الذي طالما اعتمد عليه.
بعد انهيار خط الإمداد البري الذي كان يربط طهران ببيروت مرورا بدمشق، باتت شبكات التهريب تعيد رسم الحدود السورية–اللبنانية، ومع فقدان حزب الله للممرات التقليدية، ازداد الاعتماد على مسارات بحرية وجوية غير رسمية، وسط تضييق دولي متزايد.
لم تعد الحدود بين الدول خطوطا فاصلة، بل مناطق تماس مرنة تتراكب فيها مصالح وأذرع قوى إقليمية متنافرة، فـ”إسرائيل” تفرض معادلاتها من الجنوب، وتركيا تعزّز حضورها في الشمال، والولايات المتحدة تعيد ترتيب تحالفاتها الأمنية في ظل غياب دولة مركزية فعالة.
السويداء في مرمى “إسرائيل”: تدخل يرسّخ تفكك السيادة
في لبنان، أُعيد تكوين الحكومة في فبراير 2025، لكن على قاعدة نظام طائفي يترنّح بين فشل المؤسسات واستشراء الانهيار المالي، ولم يعد السؤال عن السيادة بل عن القدرة على فرض حدّ أدنى من النظام، فالجنوب اللبناني يشهد نزوحا داخليا كثيفا، واختلاطا سكانيا بين اللاجئين السوريين والمقيمين المحليين، ما خلق دويلات داخل الدولة.
في السويداء، إحدى أعقد مناطق التشابك الجغرافي–السكاني، دخلت “إسرائيل” المشهد مباشرة، وتحت ذريعة حماية الدروز، قصفت دمشق والسويداء، لم يكن مجرد دعم أقليّة، بل هندسة جديدة لمفهوم السيادة، فبعد نزاع دموي بين العشائر البدوية والدروز، أُبرمت هدنة برعاية فرنسية–أمريكية، تقضي بإخراج قوات دمشق وإنشاء مناطق شبه مستقلة، والسويداء لم تعد جزءا من سوريا الموحّدة، بل نموذجا للحدود المرنة التي تصنعها القوة لا الخرائط.
“إسرائيل” قوة تكتيكية بحدود رخوة
“إسرائيل” لا تلعب دورا دفاعيا، بل استراتيجية هجينة مابين القصف، رعاية طائفية، واجتماعات دبلوماسية غير معلنة لإعادة تشكيل جنوب سوريا وفق منطق أمني إسرائيلي محض، هي لا تسعى لتثبيت حدود، بل لإبقاء حدود الآخرين رخوة، فكلما طال غياب الدولة المركزية في دمشق، استمرّت “إسرائيل” بتثبيت فضاء استراتيجي لا يُعاد بناؤه.
لكن هذا التدخل لا يصنع استقرارا، بل يُغذّي انقسام السلطة إلى تكتيكات محلية غير مستدامة، فالحكومة السورية الجديدة تسعى لإغلاق شبكات التهريب دون سيطرة فعلية، بينما “إسرائيل” تفرض مناطق منزوعة السلاح بدون تفويض دولي، والجغرافيا تحكم، لكن دون مؤسسات فتبقى مستباحة.
تركيا والقوس الشمالي على حساب وحدة سوريا
من جهة تركيا، لم يعد مشروع “القوس الشمالي” مقتصرا على إدلب كمنطقة نفوذ معزولة، بل تحوّل إلى استراتيجية احتواء إقليمي في وجه تمدد هيئة تحرير الشام التي باتت تسيطر على دمشق، فأنقرة، التي دعمت فصائل قريبة من الهيئة سابقا، تجد نفسها اليوم أمام قوة مستقلة لا يرضيها أن تتجاوز حساباتها، ما يدفعها إلى توسيع الحزام الأمني شمال سوريا لضمان فصل جغرافي بين مناطق السيطرة الكردية وبين مركز القرار الجديد في دمشق.
هذا التغير يضع تركيا في توازن دقيق، بين ضرورة ردع النفوذ “الإسرائيلي” وحتى الخليجي ومراقبة صعود الجهادية الحاكمة، وسط فراغ سيادي يعيد تشكيل الخريطة السورية.

قوى بلا دولة: هندسة أمنية بغياب مشروع سيادي
ما يحدث ليس صراع دول، بل صراع خرائط التي تُرسم بالنزوح، وبالهويات الطائفية، وبالولاءات الميدانية المؤقتة، فمن الجنوب اللبناني إلى القصير وحوش الربيع و درعا والسويداء؛ لم تعد نقاطا على خارطة بل خطوط تماس بين استراتيجيات متنافسة.
ويبقى السؤال المركزي: هل هناك قوة تريد بناء دولة؟ أم أن الجميع يفضّلون الفوضى التي يمكن إدارتها على دولة لا يمكن التحكّم بها؟
“إسرائيل” مثل وتركيا، لا تسعى لإعادة الدولة السورية، بل لضمان ألا تعود كدولة مركزية قوية، والولايات المتحدة تفضل ترتيبات ميدانية تكتيكية على إعادة البناء المؤسسي الشامل، وغياب مشروع سيادي عربي حقيقي يجعل من الفراغ قدرا لا مجرد نتيجة.
الجغرافيا ليست مصيرا، لكنها تفرض قواعد اللعبة، ومن دون دولة، تبقى هذه الجغرافيا معرضة للتمزق والتدخل، والفراغ في شرقي المتوسط ليس فقط في السلطة، بل في الرؤية؛ مَن يرسم الحدود؟ مَن يحكم السكان؟ ومَن يملأ الفراغ عندما لا توجد دولة تملك الجواب؟