بين رمزية السياسة وعجز المعيشة: تفكيك مبادرة 89 مليون دولار في سوريا

  تكشف مبادرة الدعم الخليجي الأخيرة لسوريا، البالغة 89 مليون دولار والمخصصة لتغطية جزء من رواتب موظفي الدولة لثلاثة أشهر، عن جوهر المعضلة الاقتصادية السورية فهو قائم على المساعدات الطارئة بدل التخطيط الاستراتيجي، وعلى التكيّف الدفاعي بدل البناء التنموي.

المبلغ بحد ذاته محدود إذا ما قورن بحجم العجز والاحتياجات الفعلية، لكن أهميته تكمن فيما يعكسه من مسار سياسي واقتصادي أوسع، فيظهر استعداد دول إقليمية مؤثرة، كالسعودية وقطر، للتعامل مع مؤسسات الدولة السورية مباشرة، في وقت لا تزال فيه البلاد تفتقر إلى رؤية اقتصادية واضحة المعالم.

السؤال المحوري لا يتعلق بحجم المنحة بقدر ما يتصل بما تكشفه عن طبيعة الاستراتيجية الاقتصادية السورية، فهل نحن أمام سياسة بقاء تعتمد على حقن مالية متقطعة تُبقي جهاز الدولة مستمرا بأقل التكاليف، أم أن هذه المبادرات يمكن أن تكون مقدمة لتحوّل أعمق في مقاربة إعادة الإعمار والتنمية؟

الدعم الخليجي: قيمة رمزية تفوق المالية

من الناحية الحسابية، تبدو المنحة محدودة للغاية، فالموازنة السورية تعاني من عجز سنوي يُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، في حين أن رواتب الموظفين وحدها تتطلب مليارات إضافية لتغطية الفجوة المتسعة بين الدخل وتكاليف المعيشة.

إذا ما قُسّمت الـ 29 مليون دولار شهريا على نحو مليوني موظف حكومي، فإن كل فرد سيحصل على زيادة لا تتجاوز14  أو 15 دولارا شهريا، أي ما يعادل نحو 250 ألف ليرة سورية وفق سعر السوق الموازي، وهذا المبلغ يُضاف إلى راتب يتراوح بين 55 و65 دولارا، ليصبح الدخل الشهري بحدود 70–80 دولارا للفرد، في وقت تحتاج أسرة سورية مكوّنة من خمسة أشخاص إلى500–600  دولار شهريا لتغطية الحد الأدنى من المعيشة.

لا يمكن لهذه المنحة أن تغيّر الواقع المعيشي، لكنها تحمل قيمة سياسية ورمزية، إذ تعكس استعداد السعودية وقطر للتعامل مع مؤسسات الدولة السورية مباشرة، لا عبر قنوات إنسانية أو إغاثية كما كان الحال في السنوات السابقة.

الاقتصاد السوري بعد 2024: هشاشة وانتظار

منذ كانون الأول 2024، ومع سقوط النظام السابق وتشكيل مؤسسات انتقالية، دخل الاقتصاد السوري مرحلة توصف بـ”الانتقالية الهشة”، فرغم الخطاب الرسمي حول “الإصلاح” و”إعادة دوران العجلة الإنتاجية”، إلا أن المؤشرات الاقتصادية تكشف عن مشهد أكثر قتامة:

  1. سعر الصرف، فالليرة السورية فقدت أكثر من 98% من قيمتها مقارنة بما قبل 2011، ما جعل التضخم جزءا بنيويا من الحياة اليومية.
  2. الإنتاج المحلي، حيثالزراعة والصناعة في حالة انهيار شبه كامل، مع اعتماد متزايد على الاستيراد لتأمين الغذاء والوقود.
  3. الاعتماد على الخارج فالمساعدات والتحويلات الخارجية (من الخليج، الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي بدرجة أقل) تشكل الشريان الأساسي لبقاء الاقتصاد.
  4. العقوبات التي رغم محاولات الانفتاح الإقليمي، ما تزال حاجزا أمام تدفق الاستثمارات الكبرى.
  5. الوضع الأمني المتردي في معظم المناطق السورية الذي لا يوفر بيئة مناسبة للاستثمار.

بهذا، تبدو المنحة الخليجية بمثابة جرعة أوكسجين قصيرة الأمد في جسد اقتصاد يعيش على الدعم الخارجي، بلا قاعدة إنتاجية أو رؤية تنموية واضحة.

الاستراتيجية الاقتصادية السورية: دفاعية أكثر من كونها بنائية

ما تكشفه المبادرة هو أن الاستراتيجية الاقتصادية السورية مؤقتة ومرتبكة، تركّز على تثبيت البنية الإدارية والبيروقراطية للدولة، أكثر من كونها تسعى إلى بناء قاعدة إنتاجية جديدة.

فالسلطات الانتقالية تدرك أن أي نظام سياسي في سوريا لا يمكن أن يستمر فقط عبر الأجهزة الأمنية أو العسكرية، بل يحتاج إلى شبكة الموظفين والمعلمين والأطباء والإداريين الذين يحافظون على الحد الأدنى من الخدمات العامة، لذلك فإن أولوية الحكومة المؤقتة هي تأمين الرواتب، ولو رمزيا، لتجنّب انهيار جهاز الدولة.

المنحة الخليجية إذن ليست مجرد دعم مالي، بل جزء من استراتيجية بقاء لاستمرار عملالمؤسسات بحدها الأدنى إلى أن يتضح أفق التسويات السياسية والتمويل طويل الأمد.

البعد الخليجي: لماذا الآن؟

التحرك السعودي–القطري يثير بدوره تساؤلات حول توقيته ودوافعه:

  • إقليمية فيشير إلى تقارب في المواقف بين الرياض والدوحة، بعد سنوات من التباعد، عبر ملف سوري حساس.
  • جيوسياسية عبر السعي لخلق توازن مع النفوذ التركي في سوريا، والدخول من بوابة الدولة ومؤسساتها.
  • اقتصادية حيثيمثل اختبارا أوليا لإمكانية ضخ استثمارات مستقبلية، لكن بشكل مشروط بالاستقرار السياسي وبمستوى ضبط الفساد.

المنحة هي بمثابة إشارة سياسية أكثر من كونها دعما اقتصاديا، ورسالة بأن الخليج يراقب ويختبر قبل أن يغامر باستثمارات أكبر.

غياب الرؤية التنموية: أين الأولويات؟

أحد أبرز أوجه القصور في الاستراتيجية السورية هو غياب رؤية تنموية متكاملة، فحتى الآن، ينحصر التركيز في البحث عن موارد لسد فجوة الرواتب، من دون خطة لإعادة بناء القطاعات الإنتاجية.

  • الزراعة، فلم تُطلق بعد برامج جادة لإعادة تأهيل الأراضي والمياه والبنية التحتية الريفية.
  • الصناعة التي خضعت بالكامل لمنافسة حالة الاستيراد الجائرة،فالكثير منالمصانع توقفت ولم تحظَ ببرامج تحفيز أو شراكات استثمارية حقيقية.
  • الطاقة، حيث يستمر الاعتماد على الاستيراد والقطع الأجنبي بدل التفكير في حلول محلية مستدامة.

من هنا، فإن انتقاد الاستراتيجية الاقتصادية لا يتعلق فقط بضعف التمويل، بل بانعدام أولويات واضحة لإعادة تشكيل الاقتصاد وفق حاجات المواطنين.

سيناريوهات المستقبل

في ضوء هذه المعطيات، يمكن رسم ثلاثة مسارات محتملة للاقتصاد السوري:

  1. الحد الأدنى من البقاء مع استمرار الاعتماد على منح مؤقتة وصغيرة، تكفي فقط لإبقاء مؤسسات الدولة حيّة، من دون قدرة على تحقيق تنمية أو استقرار معيشي.
  2. الانفتاح التدريجي في حال تحقق توافق سياسي أوسع وانتهت التوترات الأمنية، فتُرفع بعض القيود، ما يفتح الباب أمام استثمارات خليجية وأوروبية أكبر في مجالات البنية التحتية والطاقة، حينها قد تكون مبادرة الـ 89 مليون دولار مجرد مقدمة لمسار أطول.
  3. الانهيار الكامل في حال فشلت السلطة الانتقالية في ضبط الفساد وإقناع المانحين بجديتها، فقد يتراجع الدعم الخارجي، ويعود الاقتصاد إلى مسار الانهيار.

تكشف مبادرة الدعم الخليجي أن الاقتصاد السوري يعيش في حالة انتظار التمويل والتسويات والاستقرار السياسي، والمنحة لن تغيّر الواقع المعيشي، لكنها تعكس بوضوح أن مستقبل سوريا مرهون بقرارات تُتخذ في الرياض والدوحة وواشنطن وموسكو، أكثر مما يُصاغ في دمشق.

سوريا لا تحتاج إلى “89 مليون دولار”، بل إلى تصور اقتصادي شامل يحدد دور الدولة، وأولويات الاستثمار، ويضع المواطن في قلب السياسات العامة، من دون ذلك، ستظل أي مبادرات خارجية مجرد مسكّنات ظرفية، لا تعالج الداء البنيوي الذي يفتك بالاقتصاد السوري منذ أكثر من عقد.

المبادرة الخليجية وأثرها على الوضع المعيشي في سوريا

💵 حجم المبادرة

إجمالي: 89 مليون دولار
شهريًا: 29 مليون دولار

👥 المستفيدون

عدد موظفي الدولة: نحو 2 مليون موظف
نصيب الفرد شهريًا: 14.5 دولار ≈ 250 ألف ليرة سورية

📊 مقارنة مع الوضع المعيشي

  • راتب حكومي متوسط: 55–65 دولار
  • مع الدعم يصبح: 70–80 دولار
  • تكاليف معيشة أسرة (5 أشخاص): 500–600 دولار
  • التغطية قبل الدعم: 15% → بعد الدعم: 18–20%

🔍 الخلاصة

الدعم يضيف ربع راتب إضافي تقريبًا، لكنه لا يغطي سوى جزء صغير من الفجوة المعيشية. أهميته سياسية ورمزية أكثر من كونه حلًا اقتصاديًا جذريًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *