في سوريا، لم يكن الخبز يوما مجرد سلعة، فهو رمز العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، والدعم الذي يُبقي المطبخ السوري حيّا وسط الانهيارات، لكن منذ سقوط النظام السابق في الثامن من كانون الأوّل 2024، تغيّر هذا الرمز.
لم يعد الخبز المدعوم عنوانا للطمأنينة، بل مرآة لاقتصاد يتأرجح بين محاولات الاستقرار وخيبات التضخّم، فمن ربطة كانت تُباع بأقل من 400 ليرة سورية قبل عام، إلى أخرى بلغ سعرها اليوم 6 آلاف ليرة لدى المعتمدين؛ تتجسّد قصة التحول الاقتصادي السوري بأدقّ صورها.
من دعم الرغيف إلى تحريره: نهاية الأسطورة الاقتصادية
حين انهار النظام القديم، انهار معه نموذج الدعم الذي شكّل ركيزة السياسة الاقتصادية لعقود، وفي تلك المنظومة، كانت الدولة تشتري القمح بأسعار مرتفعة وتبيعه للمخابز بأثمان رمزية، محاوِلة بذلك حفظ ما تبقّى من الشرعية عبر “رغيف الدعم”، لكنّ الحكومة الانتقالية عوضا أن تضع خطة متكاملة لإصلاح منظومة الدعم تدريجيا أو بناء بدائل اجتماعية واقعية، اختارت الطريق الأسهل والأكثر كلفة شعبيا، رفع الأسعار سريعاً تحت شعار “تحرير السوق”.
رغم تذرّعها بوراثة موازنة خاوية واقتصاد متضخّم، فإنّ السياسات التي اتبعتها من رفع الدعم دون رقابة، إلى تحرير سعر الصرف دون أدوات حماية، هي التي عمّقت الأزمة بدل أن تحتويها، فجرى تحميل المواطنين عبء الإصلاح المالي بالكامل، بينما ظلّت بنية الفساد والاحتكار في الأجهزة الاقتصادية على حالها، ولم يكن إفلاس الخزينة قدرا لا مفرّ منه، بل نتيجة لخيارات سياسية ضيّقة رأت في التقشّف حلا سحريا، دون أن تلتفت إلى الثمن الاجتماعي والاقتصادي لذلك.
اختارت الحكومة الطريق الأسهل، بجرعاتٍ محسوبة، وبدأت بتقليص دعم الطحين والمازوت الصناعي، ثم انتقلت تدريجيا إلى تسعير واقعي يغطي تكاليف الإنتاج. وكانت النتيجة، خلال عشرة أشهر فقط، قفزة في سعر الربطة من بضع مئات إلى آلاف الليرات، في واحدة من أسرع موجات الغلاء التي شهدتها البلاد.
الرغيف كمؤشر: كيف تكشف الأسعار صورة الاقتصاد؟
لا تحتاج إلى مؤشرات معقّدة لتفهم حال الاقتصاد السوري، ويكفي أن تنظر إلى رغيف الخبز، ففي بلد يعتمد فيه أكثر من 80% من السكان على الخبز كغذاء رئيسي، يُترجم ارتفاع السعر مباشرة إلى ارتفاع معدل الفقر، وتراجع القوة الشرائية، وازدياد هشاشة الأمن الغذائي.
منذ كانون الأول 2024، فقدت الليرة السورية أكثر من 60% من قيمتها أمام الدولار، ومع كل انخفاض جديد في سعر الصرف، كانت تكلفة إنتاج الخبز ترتفع، فالطحين المستورد بالدولار، والوقود بالنقد الأجنبي، وحتى الخميرة أصبحت سلعة نادرة، في غضون أشهر، وفي غضون أشهر قليلة، أصبح سعر ربطة الخبز التجاري يبلغ خمسة آلاف وخمسمئة ليرة سورية عند شرائها مباشرة من المخابز، وستة آلاف ليرة عند شرائها عبر المعتمدين، وفق القرار الصادر عن وزارة الاقتصاد في السادس والعشرين من تشرين الأول 2025.
أنهت الحكومة عمليا آخر مظاهر الدعم العام، وأعلنت الدخول في اقتصاد السوق بأدواتٍ هشّة وأسعار محرّرة بلا ضوابط.
اقتصاد يلتهم نفسه
الخبز هو أحد السلع القليلة التي لا يمكن ترحيل الطلب عليها، فحتى في أشدّ الأزمات، يحتاج الناس إليه يوميا، ما يجعل ارتفاع سعره مؤشرا فورياً على مستوى التضخم العام، ووفق تقديرات مستقاة من بيانات برنامج الأغذية العالمي، تجاوز معدل التضخم الغذائي في سوريا 200% خلال العام 2025 وحده، ما يضع البلاد في مصافّ الاقتصادات الأكثر تضخما في العالم.
تقديرات مستقلة تشير إلى أنّ الأسرة السورية المكوّنة من خمسة أفراد تنفق اليوم أكثر من نصف دخلها على الخبز والمواد الأساسية فقط، أما الحد الأدنى للأجور، فيراوح حول 750000 ليرة، وهو لا يساوي ثمن 125 ربطة خبز فقط، أي أن دخل العامل السوري الأدنى بالكاد يغطي حاجات أسرته من الخبز لأقل من شهر، ما يجعل الرغيف ذاته وحدة قياس للفقر، ومؤشرا حقيقيا على انهيار القيمة الشرائية لليرة.
سياسة بلا مظلة اجتماعية
اقتصاديا، لا يمكن إنكار منطقية رفع السعر، فالمخابز التي ظلت تبيع الخبز بأقل من كلفته كانت على وشك الانهيار، والحكومة بحسب تصريحات مسؤوليها أرادت “حماية الإنتاج” لا “رفع الأسعار”، لكن من دون شبكة أمان اجتماعية فعّالة، تحوّلت السياسة إلى عبء شعبي ثقيل.
المفارقة أنّ الحكومة سعت لتقليل العجز المالي، لكنها وجدت نفسها أمام موجة تضخّم جديدة أكلت ما تبقّى من الدخول الثابتة، فكل ارتفاع في سعر الخبز جرّ خلفه ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية الأخرى، لأن الخبز هو سلعة مرجعية تسعّر وفقها معظم السلع الشعبية.
من وراء التضخم؟
ثلاثة محركات أساسية:
- تراجع الإنتاج الزراعي:
بعد عامين من الجفاف ونقص التمويل، تراجع إنتاج القمح إلى ما دون 1.2 مليون طن، أي ثلث حاجة البلاد السنوية، وباتت سوريا تعتمد على استيراد القمح الروسي والتركي، ما جعلها رهينة لسوق مضطربة وتقلبات أسعار الصرف. - أزمة الطاقة:
ارتفاع أسعار الوقود وانقطاع الكهرباء زاد كلفة تشغيل المخابز بنسبة تتجاوز 40%. كل رغيف اليوم يحمل في داخله كلفة طاقة توازي نصف ثمنه تقريباً. - ضعف السياسة النقدية:
البنك المركزي، العاجز عن كبح جماح التضخم، ما فاقم الانهيار النقدي، وفي غياب أدوات مالية حقيقية، تحوّل الاقتصاد إلى دائرة مغلقة من الأسعار الصاعدة والأجور المتآكلة.
ما وراء الرغيف: أزمة عقد اجتماعي
تجاوزت أزمة الخبز معناها الاقتصادي، فهي في جوهرها أزمة ثقة بين الدولة والمجتمع، فلعقود، كانت الشرعية الاجتماعية تقوم على فكرة أن الدولة، مهما ساءت الأحوال، تضمن لقمة الخبز، وانهيار هذه المعادلة يعني انهيار أحد آخر رموز الدولة الراعية.
في المدن الكبرى، أصبح الناس يتعاملون مع الخبز كسلعة تُشترى وتُخزّن وتُقتصد، لا كحقّ يومي، وفي الأرياف، عاد البعض إلى الأفران التقليدية أو إلى خلط الطحين بالذرة والشعير لتقليل التكلفة، وهو مشهد يعيد إلى الأذهان سنوات الحرب الأولى، لكن هذه المرة من دون حربٍ معلنة، بل حربٍ اقتصادية هادئة تلتهم اليومي وتُضعف ما تبقّى من تماسك اجتماعي.
اقتصاد هشّ ومجتمع مرهق
الأرقام الصامتة أكثر تعبيراً من الخطابات الرسمية:
- أكثر من 85% من السوريين يعيشون اليوم تحت خط الفقر.
- 40% من الأسر تقلّص استهلاكها من الخبز.
- متوسط إنفاق الفرد على الغذاء ارتفع بنسبة 220% خلال عام واحد.
هذه المؤشرات تعني أن ارتفاع سعر الخبز لم يكن نتيجة ظرفٍ طارئ، بل نتيجة تراكم اختلالات هيكلية؛ اقتصاد يعتمد على الاستيراد، وقطاع عام مثقل، ونظام دعم عاجز عن إعادة التوزيع العادل للموارد.
ماذا بعد؟ بين استقرار هشّ وتضخمٍ متوقّع
تقديرات المراكز الاقتصادية المحلية تشير إلى أن سعر الربطة مرشّح للاستقرار النسبي حول 6–7 آلاف ليرة خلال الأشهر المقبلة، بشرط بقاء أسعار الوقود والقمح العالمية عند مستوياتها الحالية، لكن أيّ هزّة في سعر الصرف أو انقطاع جديد في الإمدادات كفيل بدفع السعر إلى مستويات غير مسبوقة.
الحلّ المستدام، كما يرى خبراء الاقتصاد السوريون، يبدأ من الداخل:
- إعادة إحياء زراعة القمح عبر دعم المزارعين مباشرة لا عبر المخابز.
- خفض كلفة الإنتاج من خلال توفير الطاقة للمخابز العامة.
- تحويل الدعم إلى نقدي ذكي يستهدف الأسر الأكثر هشاشة.
لكنّ هذه الإصلاحات تحتاج إلى استقرار سياسي، وهو ما لم يتحقق بعد في البلاد التي لم تلتقط أنفاسها منذ عقدٍ من الأزمات.
الخبز كرمز: الاقتصاد بين اللقمة والكرامة
في النهاية، يمكن القول إن رغيف الخبز بات المؤشّر الأصدق لحالة سوريا الراهنة؛ بلد ضائع بين الواقع والكرامة، وبين اقتصاد السوق وحقوق العيش الكريم.
فحين يدفع السوري اليوم ستة آلاف ليرة لقاء ربطة خبز، فهو لا يشتري طحينا فقط، بل يدفع ثمن السياسات والقرارات والأخطاء التي راكمت عقدا من العجز والانقسام.
إنها لحظة اختبار عميقة، ليس للاقتصاد السوري فحسب، بل للفكرة كلها:
هل يمكن بناء استقرار جديدٍ على أساس رغيفٍ مكلف؟
أم أن الخبز سيبقى شاهدا يوميا على اقتصاد يعيش، كما الناس، على الكفاف؟
رغيف فوق الركام: تحولات سعر الخبز والاقتصاد السوري
تتبع تطور سعر ربطة الخبز في سوريا بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024 وأثره على الاقتصاد السوري
ملخص الأزمة
شهد سعر ربطة الخبز في سوريا ارتفاعاً صاروخياً من أقل من 400 ليرة سورية قبل سقوط النظام في ديسمبر 2024 إلى 6000 ليرة سورية في أكتوبر 2025، مما يعكس الانهيار الاقتصادي الكبير وتآخر القوة الشرائية للمواطن السوري.

