في الصورة الرسمية التي نشرتها وزارة المالية السورية، يظهر الوزير محمد يسر برنية وهو يوقّع اتفاقية “نفاذ المنحة القطرية-السعودية، بابتسامة واثقة وملف جلدي أنيق، وما وراء الصورة أكثر تعقيدا من مراسم بروتوكولية، فهي إعلان وبدون تصريحات رسمية عن عجز الدولة في تمويل رواتبها دون دعم خارجي.
حين تحتاج حكومة دولة مركزية بعد خمسٍ وسبعين سنة من قيامها إلى منحة بقيمة 89 مليون دولار لتأمين أجور موظفيها لثلاثة أشهر، فالمشكلة ليست في السيولة، بل في موت الدورة الاقتصادية الداخلية، والاقتصاد السوري عام 2025 يشبه مريضا يعيش على التنفس الصناعي؛ والمنحة الخليجية ليست علاجا، بل أكسجينا اصطناعيا مؤقتا.
الأرقام الجديدة: زيادة الرواتب لا تغيّر المعادلة
الحكومة أعلنت في آب الماضي عن زيادة بنسبة 200% على الرواتب والأجور، ليرتفع متوسط راتب الموظف العام إلى نحو 850 ألف ليرة سورية.
لكن في ظل سعر صرف يراوح حول 12 ألف ليرة للدولار الواحد، فإن هذا المتوسط لا يتجاوز 70 دولارا شهريا في السوق الواقعية، وبالمقارنة مع الحد الأدنى للمعيشة لأسرة سورية من أربعة أفراد يتجاوز3.5 ملايين ليرة شهريا، فإن الراتب يغطي أقل من 25% من الاحتياجات الأساسية.
الزيادة الأخيرة كانت تصحيحا شكليا للأرقام الاسمية، لا تحسنا فعليا في القوة الشرائية، فجوهر الأزمة أن كل زيادة في الرواتب تُترجم فورا إلى ارتفاع في الأسعار، ما يجعل الزيادة تتآكل ذاتيا في غضون أسابيع.
المنحة الخليجية: دعم قصير بأثر سياسي طويل
تبلغ المنحة السعودية-القطرية28 مليون دولار شهريا لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتمديد، أي ما يعادل تقريباً 40% من كتلة الرواتب بالدولار في القطاع العام، وهذا رقم كافٍ لتغطية رواتب نحو مليون موظف لمدة محدودة.
لكن اللافت أن الأموال لا تمرّ عبر الخزينة السورية مباشرة، بل عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ما يجعلها خاضعة للرقابة الدولية والشفافية المانحة، فالمانح هو الذي يقرر أين تُصرف الأجور، لا وزارة المالية.
هذا الشكل من التمويل، يرمز إلى ما يمكن تسميته بـ”الخصخصة السيادية للقرار المالي”، فتتحول الدولة من مُقرّر للسياسات إلى منفّذ لإملاءات التمويل الخارجي.
اقتصاد يعيش على الدعم… لا بالإنتاج
الاقتصاد السوري اليوم لا يملك دورة إنتاج قادرة على تمويل ذاته، والإيرادات الحكومية تأتي أساسا من الرسوم والضرائب لا من إنتاجٍ فعلي، بينما تشكل كتلة الأجور أكثر من 60% من الإنفاق العام، فأي خلل في الإيرادات يُترجم مباشرة إلى أزمة أجور.
المنحة الخليجية، في هذا السياق، لا تمثل دعما تنمويا بل حقنة إسعافية، فهي لا تُستثمر في البنية الإنتاجية أو في إصلاح النظام المالي، بل تُضخ لتغطية الإنفاق الجاري فقط، وفي غياب إصلاحات حقيقية، ستتحول هذه المنحة إلى جرعة إدمان مالي جديدة، تجعل الاقتصاد أكثر هشاشة مع مرور الوقت.
التضخم القادم: الزيادة التي تبتلع نفسها
زيادة الأجور بنسبة 200% لم تكن بلا ثمن، ففي شهرين فقط، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو35% وفق تقديرات الأسواق المحلية، وهو ما يعني أن نصف أثر الزيادة تبخّر قبل نهاية أيلول، ومع ضخ 28 مليون دولار شهريا إضافية في السوق المحلية (عبر المنحة)، من المتوقع أن يُترجم الدعم إلى تضخم جديد في أسعار الغذاء والإيجارات والوقود.
تتحول المنحة من أداة استقرار اجتماعي إلى محرك تضخم مؤجل ما لم تُضبط بآليات تسعير ورقابة حقيقية، لكن هذه الرقابة غائبة في ظل الانقسام المؤسسي وضعف الإدارة المحلية.
الخليج يعود إلى دمشق: المال بدل السياسة
التحالف المالي السعودي-القطري داخل سوريا يحمل دلالات تتجاوز الاقتصاد، فبعد عقدٍ من القطيعة السياسية، تعود العاصمتان إلى دمشق من بوابة التمويل الإنساني-الاقتصادي، في إطار أممي يضمن الحياد السياسي.
إنه اختبار دبلوماسي بقدر ما هو اقتصادي، فهو محاولة لبناء نفوذ ناعم من خلال المساعدات المشروطة بالشفافية لا بالولاءات، غير أن هذا النوع من النفوذ يعيد رسم خرائط القوة الاقتصادية في سوريا، فمن يموّل الرواتب يملك، ضمنيا، القدرة على التأثير في بنية القرار المحلي، ولو من خلف الكواليس.
غياب الإصلاح… وحضور الإنفاق
في كل التجارب الاقتصادية يشكل الإنفاق الحكومي الممول خارجيا بلا إصلاح يرافقه أخطر أشكال الهشاشة، فلا يمكن إنقاذ اقتصاد متدهور عبر تمويل رواتبه فقط، وما تحتاجه سوريا اليوم هو تحوّل من دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج، وإعادة تشغيل المعامل، وتمويل المشاريع الصغيرة، وإصلاح النظام الضريبي، وتحرير التجارة المحلية من الاحتكار.
لكن حتى الآن، لا مؤشرات على نية السير في هذا الاتجاه، والزيادة الأخيرة في الأجور والمنحة الخليجية تحلان المشكلات الآنية، لكنها تؤجل الكارثة البنيوية لاقتصاد يعيش على المنح بدل أن يعيش منها.
ستُسهم المنحة الخليجية في تهدئة غضب الموظفين وتأخير الانهيار الاجتماعي خلال الشتاء المقبل، لكنها في الوقت ذاته تُرسّخ واقعا خطيرا، فالدولة لم تعد قادرة على دفع أجور مواطنيها إلا بمالٍ أجنبي، وهذا تحوّل جوهري في مفهوم السيادة الاقتصادية.
إنها، لحظة “الاستقرار الميتافيزيقي” عندما يبدو النظام مستقرا على السطح، لكنه فارغ من الداخل.
حسابات المنحة في ضوء الاقتصاد الحقيقي
إذا اعتبرنا أن كتلة الأجور العامة تقارب70 مليار ليرة شهريا ( نحو 5 ملايين دولار وفق سعر الصرف الموازي)، فإن المنحة البالغة 28 مليون دولار شهريا تغطي ما يعادل خمسة أضعاف كتلة الأجور المحلية،
وهذا يكفي لتوضيح أن الاقتصاد السوري يعيش خارج قدرته الواقعية، فهو يستهلك أكثر مما ينتج، ويدفع أكثر مما يجبي، ويستدين من دون خطة.
المنحة ليست دعما للرواتب فقط، بل تمويل لعجز بنيوي مزمن، سيظهر مجددا بمجرد انتهاء الأشهر الثلاثة، وفي التحليل النهائي، فالمنحة تمثّل لحظة كاشفة لا منقذة، فهي تُظهر أن الدولة السورية في عام 2025 لم تعد تمتلك أدوات إدارة اقتصادها، وأن الزيادات في الأجور لم تعد سوى تجميل رقمي لأزمةٍ حقيقية.
المنحة تشتري بعض الوقت، لكنها لا تشتري الأمل، فالاقتصاد الذي يعيش على الدعم لا يعيش بالإنتاج، والدولة التي تدفع رواتبها بمنحةٍ خارجية لا تمارس السيادة، بل تحاكيها.
المنحة الخليجية وأزمة الرواتب في سوريا 2025
تحليل بياني للفجوة بين الرواتب وتكاليف المعيشة وأثر المنحة السعودية-القطرية
مقارنة المنحة الخليجية مع كتلة الرواتب
تحليل حجم المنحة مقارنة بكتلة الرواتب في القطاع العام
28 مليون دولار شهرياً لمدة 3 أشهر قابلة للتمديد
~5 ملايين دولار (بالسعر الموازي)
المنحة تغطي حوالي 560% من كتلة الرواتب المحلية

