رفعُ العقوبات عن سوريا: قراءة نقديّة لمبررات الغرب في ضوء تقرير “معهد دراسة الحرب”

منذ إعلان مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في 20 أيار 2025 عن رفع عقوباته الاقتصادية عن سوريا، ومع  قيام إدارة واشنطن في بلورة مسارٍ مشابه، وإنْ كان أكثر تعقيدا، ظهر جدل حاد حول الحكمة من هذه الخطوة.

التقرير التحليلي الصادر حديثا عن معهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة(ISW)  يحذّر من أن تخفيف القيود المالية “لن يلمس الجذور الحقيقية لعدم الاستقرار، “بل يوفّر أوكسجينا قاتلا” لشبكاتٍ مسلّحة واقتصاد حربٍ ما زال فاعلا.

إغاثة الشعب أم الاستثمار السياسي؟

المسوّغ الأول الذي يقدّمه الاتحاد الأوروبي هو “مساعدة السوريين على بناء سوريا شاملة وسلميّة”، لكنّ التقرير يُذكِّرنا بأنّ 70% من السكان يعيشون تحت خط الفقر بفعل تدمير البُنى الإنتاجية، لكن أيّ استثمار خارجي يتطلّب بيئة قانونية ومصرفية سليمة، وشرعية مؤسسية غائبة حتى الآن، فالحجة الإنسانية في أفضل أحوالها، رهانا على مستقبلٍ افتراضي لا على واقع ملموس.

على الجانب الأمريكي يمنح تفاوت السرعة بين بروكسل وواشنطن نافذةً ضبابيّة، فالإدارة الأمريكية تحتاج إلى إبطال قوانين متراكمة، ما يخلق شهورا من الارتباك التنظيمي، وتقرير ISW  يستشهد بالتجربة الفاشلة لـ الإعفاء المؤقّت في كانون الثاني 2025 مستثمرون محتملون تردّدوا لأنّ إدارة الخزانة لم توضّح ما إذا كان تمويل قطاع الطاقة أو الاتصالات مُجازا، والنتيجة بقيت رؤوس الأموال في انتظار “كتاب أبيض” لم يصدر بعد، فيما استثمرت شبكات التهريب الفراغ لزيادة أرباحها بالدولار النقدي.

تحريك عجلة الاقتصاد أم تكريس اقتصاد الحرب؟

يرى داعمو الرفع أنّ ضخ السيولة سيعيد الرواتب ويعالج التضخّم، فموظف الحكومة سيقبض راتبا أعلى، لكن القيمة المُضافة هزيلة ما دامت الصناعات متوقفة وسلاسل الإمداد مقطّعة، والأخطر أنّ الكتلة النقدية الجديدة ربما تنتهي في جيوب قادة فصائل اندمجوا اسميا في وزارة الدفاع مثل أبو عمشة، سيف أبو بكر، فهيم عيسى، وهؤلاء، وفق التقرير، يديرون “إماراتٍ اقتصادية” في الريف الحلبي والحسكة تقتات على الضرائب غير الرسمية والتهريب، ورفع القيود النقدية من دون ضوابط حَوْكمة يُعيد إنتاج الريع نفسه الذي غذّى الحرب سابقاً.

وهنا تجادِل بروكسل بأنّ الانتعاش المالي سيعزِّز شرعية الحكومة الانتقالية ويفتح الطريق أمام مصالحة وطنية، غير أنّ الواقع، كما يرصده ISW، يُظهِر انعدام الثقة الأعمق لدى الجماعات المكوّنة، فالأكراد يصرّون على سلاحهم خوفا من فصائل مدعومة تركيّا؛ والدروز يفاوضون للاحتفاظ بميليشياتهم كضمانة ذاتية، وتوفّر الأموال للحكومة من دون برنامج دمج أمني شامل يدفع دمشق لعقد “صفقات حماية” مع أمراء الحرب بدل حلّهم، فتزداد الفجوة بين المركز والأطراف.

العقوبات الموجَّهة كصمّام أمان … ثغرات التطبيق

الغرب وفق الادعاءات سيوازن الرفع بعقوبات فردية تردع المنتهِكين، لكنّ التجربة العراقية بعد 2003 تُبيّن أن انتقاء الأفراد عملية بطيئة ومسيّسة، وغالبا ما تلاحق الحلقة الوسطى وتغفل قادة الصفّ الأول المستفيدين من شبكات غسل الأموال الإقليمية، إضافةً إلى ذلك، يحتاج الرئيس أحمد الشرع إلى ولاء هذه الفصائل لفرض سيطرته، ما يجعل أي محاولة لإقصائهم عبر عقوباتٍ خارجية ورقة تفاوضية لا ضمانةً تنفيذية.

غمليا فأن تقارير أوروبية غير رسمية تَعزو الحماسة الحالية إلى القلق من موجة لجوء ثانية إذا انهار الاقتصاد السوري أكثر، وينظر بعض أعضاء الاتحاد إلى شرق المتوسط كمسرح لاستثمار طاقي يستوجب حدّا أدنى من الاستقرار السوري–التركي، وهذه الحسابات الواقعية مفهومٌ دافعها استراتيجي، لكنها لا تُعلَن للرأي العام السوري، ما يُفقدها الشرعية داخليا ويُعطي خصوم الغرب مادة دعائية عن “استغلال ثروات البلاد.

يقدّم تقرير ISW طرحا وسطيا عبر رفع مرحلي مرتبط بمؤشراتأداء، ويمكن مثلا الإفراج عن تمويلات قطاع الصحة والتعليم فورا، مقابل تجميد العقوبات على قطاع الطاقة إلى أن تُنجز خطواتٍ قابلة للقياس في تفكيك اقتصاد الكبتاغون ونزع السلاح شبه النظامي، وهذا النموذج يتيح فحص النتائج وتعديل المسار، بدلاً من رفعٍ شامل قد يصعب التراجع عنه سياسياً.

إن التعافي الاقتصادي ليس سلَّما جاهزا للسلام، بل مادة خام يحتاج بَنّاء مؤسَّسي كي يصنع منه سلَّما، وفي ضوء التقرير الأخير لمعهد دراسة الحرب، تبدو مبرّرات رفع العقوبات على أهميتها الإنسانية تعاني من تفاؤل ماليّ يعلّق الآمال على بنية اقتصادية متهالكة، ومبالغة سياسية في قدرة الحكومة الانتقالية على ضبط الفصائل المسلّحة، ومن دون تلازم صارم بين المال والإصلاح، سيتحول الانفراج النقدي إلى وقود للإدارة بالحرب لا بالتنمية، فالمطلوب ليس مجرّد “رفع” العقوبات، بل إعادة هندسة هذه الأداة العقابية، وتحويلها من حملة ضغطٍ جماعي أصابت الشعب بالضرر، إلى رافعةٍ ذكية تُكافِئ السلوك الإصلاحي وتُعاقِب المفسدين بما يضمن أن تكون سوريا الغد أقل هشاشة لا أكثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *