بعد تسريبات “انديبندنت عربي” عن أنّ منظمة “إنتر ميديت” البريطانية تولّت تأهيل أحمد الشرع سياسيا، تحوّلت العلاقة بين الطرفين إلى محورٍ رئيسي لإعادة صياغة المشهد السوري، حيث تتجه القراءات أن هذه المنظمة غير الحكومية أطلقت مسارا دبلوماسيا موازيا أكسب الشرع شرعية غربية، وفتح الباب أمام رفع جزئيٍ للعقوبات، واستقطاب دعمٍ بريطاني-أميركي مشترك.
لكن نجاح هذا “التطبيع المؤسَّس عبر المنظمات” ما زال معلقا على قدرة دمشق على تفكيك إرث “هيئة تحرير الشام”، واحتواء الصراع الأهلي الكامن، وتقديم إصلاحاتٍ تُقنع اللاعبين الإقليميين بأنّ سوريا لن تعود منطلقا للجهاد العابر للحدود.
أولاً: كيف هندست “إنتر ميديت” صعود الشرع؟
كشفت اندبندنت عربية أنّ “إنتر ميديت” دعت الشرع إلى سلسلة دوراتٍ سرّية في لندن وإسطنبول منذ 2023؛ لتلقينه تقنيات التفاوض وإدارة الحكم، بمشاركة السفير الأميركي السابق روبرت فورد وأكّد فورد لاحقا انخراطه في “مبادرةٍ لإدماج الشرع في الحياة السياسية”، بعد أن كان متردّدا بسبب سجلّه الجهادي؛ هذا التحوّل ترافق مع إعلان الجولاني في خطابٍ داخلي أنّ “الجهاد مرحلة وانتهت”، قبل أن يقود تحالفا يسد الفراغ في سوريا بعد 8 كانون الأول 2024.
عمليا تم استخدام خبرة جوناثان باول، كبير موظفي توني بلير سابقا، في “إنتر ميديت” التي أسسها عام 2011، ثمّ تركها عند تعيينه مستشارا للأمن القومي البريطاني في ديسمبر 2024، ما سمح بتداخلٍ نادر بين “دبلوماسية الظل” وصنع القرار الرسمي في لندن، وشارك في التأسيس أيضاً الدبلوماسي الأممي مارتن غريفيث، موفراً خبرة أممية في مسارات اليمن ولبنان.
ثانياً: الانفتاح الغربي السريع
بعد أسبوعين من سقوط النظام السوري، أجرت وفود أمريكية أول لقاء معلَن مع الشرع في دمشق، ورفعت عن رأسه مكافأة الـ10 ملايين دولار، لاحقاً، صرّح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام مجلس الشيوخ أنّ سوريا “على بُعد أسابيع من الانهيار إن لم نتدخّل”، ما دلّ على تحوّلٍ من “المقاطعة” إلى الاحتواء المشروط”.
صحيفة ذا ناشيونال وثّقت زيارة غير معلَنة لجوناثان باول إلى دمشق في فبراير 2025 لترتيب دعمٍ اقتصادي مباشر، بينما جاءت خطوة لندن برفع العقوبات عن المصرف المركزي السوري لتكون أوّل كسر حقيقي للحصار المالي، وهذه الإجراءات مهّدت لقرار واشنطن رفع العقوبات الأشد في 13 مايو 2025
ثالثاً: التداعيات الأمنية
أبرز تحدٍّ أمني هو دمج ما لا يقلّ عن 20 ألف مقاتل من “تحرير الشام” في مؤسّسات الدولة الجديدة، ورغم تعيين أحد قادة الحركة وزيراً للدفاع، فإن التقارير مركز “الشرق الأوسط” تتحدث عن انقسامات داخلية ربما تؤدّي إلى انشقاقاتٍ راديكالية إذا تَقدّمت هذه العملية بلا ضماناتٍ أيديولوجية واضحة، بينما يرى معهد MEI أنّ نجاح الدمج يوجّه :الضربة القاضية” لداعش عبر سحب الحاضنة السنيّة من تحت قدميه.
أجواء الانفتاح على دمشق شجّعت إسرائيل على تكثيف ضرباتها في الجنوب السوري، فيما تحاول تركيا توسيع نطاق نفوذها شمالاً لضمان حزام أمني ضدّ وحدات الـ PKK (Foreign Policy). عدم الاتّساق في أولويات الحلفاء الإقليميين يُبقي خطر «حرب الوكالة» قائماً.

رابعاً: الاقتصاد وإعادة الإعمار
رغم رفع القيود البريطانية والأوروبية جزئيّا، إلا أنّ الاقتصاد السوري يترنّح بين بنية شبه منهارة وعُملة بلا احتياطي حقيقي، ورفع العقوبات الأميركية مشروطٌ بآليات رقابة على التحويلات المالية، ما يؤجّل دخول الرساميل الخليجية التي يَعوّل عليها الشرع لإعادة بناء البُنى التحتية.
تقرير Chatham House يحذّر من أنّ تحوّل سوريا إلى “محورٍ سعودي-إسرائيلي جديد” رهن بمدى قدرة الشرع على احترام التنوّع الديني وتمكين السلطات المحلّية، وتوصّي دراسة “خارطة الطريق” الصادرة عن معهد الشرق الأوسط بإطلاق حوارٍ وطني واسع ولامركزيّة اقتصادية لتجاوز اقتصاد الحرب .
على الجانب العربي تربط الرياض تطبيعها مع إسرائيل بمدى “احترام السيادة السورية”، ضمن صفقةٍ أوسع مع واشنطن، ما يجعل دمشق مركز موازنةٍ إقليمي جديد، في المقابل، خسرت طهران أحد أقوى حلفائها، ما يدفعها إلى توسيع نفوذها في العراق واليمن لتقليل الخسائر الاستراتيجية.
خامسا: سيناريوهات ما بعد 2025
السيناريو | ملامحه | عناصر النجاح / الفشل |
تحوّل مؤسَّس | دمج جماعي للمقاتلين، إطلاق دستور انتقالي، تدفّق استثمارات | رقابة دولية شفافة؛ تسويات محلية؛ معالجة ملف المعتقلين |
تعثر انتقالي | صراع بين تيار شرع المدني وقيادات جهادية رافضة | فوضى أمنية؛ إعادة التفاف داعش؛ عودة العقوبات |
تقاسم نفوذ | استمرار الكانتونات (كردية شمالاً، تركية غرباً، إيرانية شرقاً) | غياب صفقة إقليمية؛ توازن قوى ثابت بالقوة العسكرية |
تحذير روبيو من «انهيار خلال أسابيع» يظلّ احتمالاً قائماً إذا فشل الشرع في انتزاع اعترافٍ داخلي كامل واحتواء الصراعات الطائفية المتجذّرة .

ماذا تعكس الأرقام؟
- وزن السيناريوهات
- الانفتاح الأميركي-البريطاني (رفع عقوبات لندن على البنك المركزي 24 أبريل 2025، إعلان ترامب 13 مايو 2025 عن رفع العقوبات) عزّز احتمال “التحول المؤسسي”.
- تحذير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي من “لا شيك على بياض” يُبقي” خطر “التعثّر” قائماً.
- استمرار وجود قوات تركية و إسرائيلية” يُغذّي سيناريو “تقاسم النفوذ”.
- معضلة دمج المقاتلين
- نجاح خطة الدمج شرطٌ مسبق لحصول دمشق على حزمة الاتحاد الأوروبي البالغة 2.5 مليار يورو لإعادة الإعمار.
- أي فشل في استيعاب الأقلية «المنشقّة» قد ينسف وعود الإعمار ويفتح ثغرة لعودة داعش.
دلالة الرسوم للسياسة العامة
- تحديد الأولويات الأمنية: يذكّر الرسم الثاني بأنّ 10 % من القوة القتالية تتحوّل إلى تهديد عابر للحدود، ما يستلزم آليات مراقبة دولية وتعاونا استخباريا مبكرا.
- قياس المخاطر: يُظهر الرسم الأول أنّ المسار “المؤسساتي” متقدم لكن ليس حتميا، ما يدفع المانحين على ربط الأموال بسقف زمني ومؤشرات أداء واضحة.
- ربط المسارين الاقتصادي والأمني: بدون دمج حقيقي للمقاتلين لا معنى لتدفق المنح، والعكس صحيح؛ والرسمين يبرزان ذلك الترابط.
بعينٍ نقديةٍ تبدو تجربة “إنتر ميديت” نموذجاً على قدرة “شبكات الوساطة” على إعادة توجيه مسارات صراع معقّد، لكنها تحمل أيضاً بذور فشلها: شرعية مستندة إلى المجتمع الدولي أكثر منها إلى عقدٍ اجتماعي داخلي؛ هياكل أمنية قائمة على إعادة تدوير الفصائل بدلَ تفكيكها؛ واقتصادٌ مرتهنٌ للمِنَح المشروطة. مستقبل سوريا سيُحسم عند تقاطع ثلاثة اختبارات: دمقرطة السلاح، ولامركزية السلطة، وعدالةٌ انتقالية لا تستثني أحدا، فنجاح الشرع في تلك المعادلة سيحوّل حقبة “الجهاد المعولم” إلى درسٍ عابر؛ أما الإخفاق، فسيعيد تدوير العنف ويمنح داعش وأشباهه فرصة جديدة للصعود.