هندسة الوجود الأميركي بعد رفع العقوبات: قراءة نقديّة لسيناريوهات واشنطن في سوريا

تتقاطع خرائط الإمبراطوريات القديمة في إسطنبول مع خرائط الصراعات الجديدة، ومنها يتم اليوم النظر إلى شرقي المتوسط، فالدبلوماسيّة الأميركيّة أعلنت عن تحوّل بدا كأنّه يُقلب لوحة الشطرنج السورية رأسا على عقب.

بعد ساعاتٍ فقط من إصدار وزارة الخزانة «الرخصة العامّة 25» التي رفعت الحصار المالي المفروض منذ “قانون قيصر” ReutersU.S. Department of the Treasury، وصل المبعوث الخاص طوماس باراك ليصافح الرئيس أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني في قصرٍ يطلّ على البوسفور، حاملاً وعدا بأنّ سنوات النزيف الطويلة يمكن أن تنقلب إلى حقبة ازدهار» AA.

 حرارة المصافحات تخفي معادلةً أشبه بصفقةٍ حدّية: واشنطن تعرض انسحابا واستثماراتٍ مُيسَّرة، مقابل التزام دمشق بطرد المقاتلين الأجانب وفتح قنواتٍ مع إسرائيل، وهي شروطٌ أثنى باراك على الشرع لبدء تلبيتها بالفعل The Times of Israel.

بين ضفّتي البوسفور، انطلق فصلٌ جديد تلتقي فيه المصالح الأميركية والتركية والإسرائيلية؛ وهو يُشبه رقصة شطرنج على رقعةٍ من رمالٍ متحرّكة”.

من “قانون قيصر” إلى الرخصة ٢٥

منذ تسع سنوات صاغ الكونغرس قانون قيصر” لعزل دمشق اقتصاديا، لكنّ إدارة ترامب أوقفت مفعوله بإصدار الرخصة العامّة ٢٥ (GL 25)  في ٢٣ مايو ٢٠٢٥، مُجيزة معظم المعاملات المالية مع الحكومة الجديدة (OFAC, U.S. Department of the Treasury).

كما أوضحت وزارة الخزانة أنّ الهدف “تسهيل الاستثمار والقطاع الخاص بما ينسجم مع إستراتيجية أميركا أوّلا” (U.S. Embassy Turkey)، بينما لفت وزير الخارجية ماركو روبيو إلى أنّ القرار سيكون قابلا للعكس ما لم يلبِّ الشرع شروط واشنطن حيال إخراج المقاتلين الأجانب ومحاربة داعش (Al Jazeera).

السيناريو الأوّل: “الانسحاب المشروط” وإعادة التوازن

يتمثّل السيناريو في خفض الحضور العسكري المباشر مقابل “وكالة مُقيَّدة” تُسند إلى أنقرة، مع الإبقاء على قدرات ردع جوّي شرق الفرات، ولقاء المبعوث الخاص طوم باراك مع الشرع في إسطنبول يؤشّر إلى هذا التوجّه؛ حيث شدّد على تمكين الحكومة من خلق ظروفٍ للازدهار” مع المحافظة على قنوات مكافحة الإرهاب (Kurdistan 24).

حضور الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في المحادثات يشي بتحالفٍ تكتيكي جديد بين واشنطن وأنقرة لضبط الشمال السوري، وإعادة دمج وحدات YPG ضمن أجهزة دمشق الأمنية، (Reuters) غير أنّ موسكو سترى في أيّ انسحابٍ أميركي “تكتيكاً للتفرّغ إلى جبهاتٍ أخرى لا إعلانَ هزيمة” (ndupress.ndu.edu)؛ ما يعني أنّها ستُبقي على قواعد حميميم وطرطوس رافعةً استعدادها لملء أيّ فراغ.

السيناريو الثاني: “التعويض الاقتصادي” ودبلوماسيّة القطاع الخاص

تراهن واشنطن على ما يُسمّى “الاستثمار التعويضي”، أي السماح لشركات طاقة وبُنى تحتيّة بدخول السوق السورية سريعا لتعويض كلفة الانسحاب العسكري، وإعادة تأهيل الشرع كـ”حليف معقول للغرب”، وصحيفة “فايننشل تايمز” وصفت رفع العقوبات بأنّها “أوسع تغيير في سياسة العقوبات منذ ١٤ عاما” (Financial Times)، بينما رأت «تايمز أوف إنديا» أنّ خطوة رفع العقوبات “بوّابة لإعادة الانخراط” (The Times of India).

الرسم البياني للعوائد المتوقّعة بحسب وزارة الخزانة يقدّر تدفّق ٨–١٠ مليارات دولار خلال ١٨ شهرا، لكنّ أرقام مجلس الأمن تفيد بأنّ إعادة الإعمار تتطلّب ما لا يقلّ عن ٢٥٠ مليار دولار (Security Council Report)، ما يطرح سؤال الفجوة التمويلية ومصادرها الإقليمية.

السيناريو الثالث: “الاستدارة الأمنية” ومكافحة الإرهاب

يُخوّل السيناريو واشنطن رعاية “عقد أمني” جديد مع دمشق، فالشرع يتعهّد بتفكيك مخيم الهول ومراكز الاحتجاز شرق الفرات، وتسلّم قوّات عربية مُدمجة مع وحدات YPG مهام الحراسة؛ بالمقابل ترفع أميركا الحظر عن تجهيزات مزدوجة الاستخدام وتقدّم تدريباً استخبارياً.

باراك صرّح أنّ الشرع “اتّخذ خطوات جدّية في ملف المقاتلين الأجانب وعلاقاته مع إسرائيل” (Kurdistan 24).  غير أنّ خبراء مركز PIR الروسي ينبّهون إلى أنّ “المقاربة الأمنية غالباً ما تتجاهل الجذور المحلية للتطرّف”، وهو ما يُحوّل مناطق الشمال الشرقي إلى “أفغانستان مُصغَّرة” إذا لم تُقترن بإصلاحٍ سياسي عميق (University of California Press).

السيناريو الرابع: “اللعبة الإقليمية” ومحاولة احتواء روسيا وإيران

يعكس السيناريو الرابع وجهة نظر روسية، حيث ترى موسكو أنّ واشنطن تستخدم “رفع العقوبات” لاستكمال تفكيك محور طهران–دمشق، وبناء محور يستدرج سوريا إلى معسكرٍ ثلاثي (تركي–أميركي–إسرائيلي) يُحيّد النفوذ الشيعي عن الحدود الجنوبية (ndupress.ndu.edu).

لقاء الشرع–إردوغان غداة إعلان GL 25 يعزّز هذا الطرح، إذ عبّر الرئيس التركي عن “ترحيبه” بالقرار ونيّته “دمج عناصر الـYPG  في المؤسّسات السورية” (Al Jazeera)، أمّا إيران التي غابت عن مشهد إسطنبول فحذّرت عبر وكالة “إسنا” من أنّ “انفتاح دمشق على واشنطن لن يُنهي الحاجة إلى مقاومة الاحتلالين الأميركي والصهيوني”، ما ينبئ بسباق نفوذ مستجدّ في البادية والجنوب.

التحدّيات البنيويّة أمام السيناريوهات

  1. هشاشة الشرعية: رغم الاعتراف الأميركيّ، ما زال الشرع يواجه حالة “فراغ دستوري”، يمكن أن تستدعي محادثات جنيف 4 عبر رعاية أممية غير محسومة النتائج (Congress.gov).
  2. التمويل غير الكافي: تدفّق الرساميل مشروط بآليات الامتثال المالي الغربية؛ وشركات الطاقة تخشى “عودة سريعة” للعقوبات إذا تغيّرت حسابات البيت الأبيض في انتخابات 2026 (UPI).
  3. الرفض الروسي–الإيراني: موسكو تُمسك بورقة إعادة الإعمار الثقيلة (الفساد، الكهرباء، الحبوب) بينما تسيطر طهران على خطوط تهريب البضائع من البوكمال؛ أيّ تعطيلٍ منهما يُفرغ GL 25 من مضمونها (Xinhua News).
  4. معضلة إقليم شرق الفرات: اندماج YPG ليس مضموناً؛ فالجناح السياسي (PYD) يربط قبول الصفقة بضمانات لامركزية موسّعة، ما يفتح احتمال صدام مع العشائر العربية التي تُفضّل عودة الدولة المركزية بشروطها الخاصة (Reuters).

أيُّ مستقبلٍ لواشنطن في سورية؟

يُظهر تحليل السيناريوهات الأربعة أنّ السياسة الأميركية انتقلت من “احتواءٍ عن بعد” إلى “تدبيرٍ مشروط” يُراهن على أدوات اقتصادية–أمنية أخفّ وطأة من الاحتلال المباشر، ومع أنّ إدارة ترامب تُسوّق الخطوة كاختراق إنساني، فإنّ المقاربة محفوفة بثلاث مغالطات:

  • أوّلا، إنّ رفع العقوبات لا يلغي بنية الاقتصاد الريعي التي دمّرت الطبقة الوسطى السورية؛ بل يُعيد إنتاجها بمُموّلين جدد من الخليج والغرب.
  • ثانيا، الرهان على وساطة تركية يتجاهل حقيقة أنّ أنقرة لها أجندتها الخاصّة في تفكيك الكيانات الكردية وخرائط النفط.
  • ثالثا، استبعاد موسكو من صياغة المرحلة الانتقالية يُحوّل الصراع السوري إلى مسرحٍ إضافي لتنافس القوى العظمى، لا إلى نموذجٍ للتسوية.

تبدو واشنطن أمام خيارَيْن: إمّا خلق نموذج جديد لـ”صيغة أستانا” يضم واشنطن مع الصين والاتحاد الأوروبي، فتجني “سلاما باردا” يُنقذ استثماراتها، أو الاستمرار في سياسة “الخطوة – خطوتين” كمقاربة أميركيّة للتنازلٍ أو تقديم حافزٍ واستعداد للعودة خطوتين إلى الوراء إذا لم تحقّق دمشق الالتزامات، وهو ما سيفضي إلى صدامٍ بالوكالة يقلب المكاسب الراهنة، في الحالتين فإنّ كلّ مقاربةٍ لا تأخذ بالاعتبار “تاريخ سورية الاجتماعيّ” و”بيئة أمن شرق المتوسط” محكومةٌ بالتعثّر.

1 فكرة عن “هندسة الوجود الأميركي بعد رفع العقوبات: قراءة نقديّة لسيناريوهات واشنطن في سوريا”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *