الطاقة في سوريا بين الوعود والواقع: هل تنجح خطة التوليد الجديدة في إنهاء العتمة؟

بين الضوء والظلال

صار الضوءفي سوريا حدثا نادرا، فالنور مجرد استراحة قصيرة بين فصلين من العتمة، والكهرباء لم تعد خدمة عمومية، بل تحوّلت إلى لغة يومية للأزمة، ومرآة لعمق التآكل الاقتصادي الذي أصاب الدولة والمجتمع.
إعلان وزارة الطاقة عن قرب انطلاق “الورش التنفيذية لإنشاء محطات توليد جديدة في مختلف المحافظات بوقت واحد، يعود الأمل، أو ربما الوهم، بأن النور سيعود إلى المدن التي ألفت الظلام، وأن منظومة الكهرباء المنهكة منذ أكثر من عقدٍ ستبدأ رحلة الإنعاش المنتظرة.
لكن، ما الذي تعنيه هذه الخطة؟ وهل يمكن للنظام الطاقي السوري أن ينهض من رماده خلال ثلاث سنوات كما تعد الوزارة؟ أم أننا أمام فصلٍ جديد من سلسلة الوعود التي تصطدم دائما بوقائع الحرب والعقوبات والانهيار البنيوي؟

ملامح الخطة الرسمية – بين الطموح والاختبار

تقول وزارة الطاقة إن الخطة الجديدة تستهدف إنشاء محطات توليد بقدرة إجمالية تقارب خمسة آلاف ميغاواط خلال ثلاث سنوات، لتقليص الفجوة بين الحاجة الفعلية المقدّرة بنحو سبعة آلاف ميغاواط والإنتاج الحالي الذي لا يتجاوز في أحسن حالاته2200  ميغاواط.
كما تتضمن، وفق التصريحات الرسمية، استيراد كميات جديدة من الغاز الطبيعي لتغذية المحطات، وصيانة خطوط الربط الكهربائي مع تركيا والأردن، مع إعطاء الأولوية في التغذية للاستخدام المنزلي، وتؤكد الوزارة أن المشاريع الجديدة ستوفّر50  ألف وظيفة مباشرة وأكثر من 200 ألف وظيفة غير مباشرة، في إشارة إلى بعدها التنموي والاجتماعي.

هذه الأرقام تبدو، للوهلة الأولى، طموحة إلى حدٍّ كبير، غير أن قراءة التجارب السابقة في مشاريع الطاقة السورية تكشف أنّ العقبة ليست فقط في وضع الخطط، بل في تنفيذها ضمن بيئة تتّسم بضعف التمويل، ونقص المواد التشغيلية، وتهالك البنى التحتية.

واقع الطاقة في سوريا – أزمة مركّبة لا مجرد انقطاع كهرباء

لا يمكن فهم أزمة الكهرباء في سوريا دون العودة إلى بنيتها العميقة، فقبل عام 2011، كانت البلاد تنتج نحو 9000 ميغاواط من الكهرباء، تُغطي معظم الطلب المحلي، وتعتمد على محطات حرارية تعمل بالغاز والفيول، وانخفض الإنتاج اليوم إلى أقل من ربع ذلك الرقم، وتضررت عشرات المحطات وخطوط النقل بسبب الحرب، كما تراجع إنتاج الغاز المحلي بنسبة تفوق 60%.

إلى جانب الدمار الفيزيائي، تراكمت أزمة مالية وهيكلية، فالدعم الحكومي المستمر للوقود والكهرباء استنزف الموازنة، فيما أدت خسائر القطاع، التي تُقدَر بأكثر من مليار دولار سنويا، إلى تآكل قدرة الدولة على إعادة الاستثمار في البنية التحتية، وبدل أن تتحول إعادة الإعمار إلى فرصة لتحديث قطاع الطاقة، تحوّل الأمر إلى سباق يائس لتأمين الحد الأدنى من التشغيل.

وعد “تحسّن الكهرباء خلال عام ونصف” هو رهان سياسي وليس خطة تنفيذية محسوبة، فلا توجد حتى الآن تفاصيل واضحة حول الشركات المنفذة، أو مصادر التمويل، أو نوعية المحطات (حرارية أم متجددة)، ولا حول القدرة على تأمين الوقود اللازم لتشغيلها في ظل الواقع الاقتصادي الصعب.

فجوة الإنتاج والاستهلاك – اقتصاد في الظلام

الأزمة الطاقية ليست مجرد خلل تقني، بل أحد أهم أسباب تباطؤ النشاط الاقتصادي في سوريا، فالمعامل الصغيرة والمتوسطة تعمل في أغلبها بمولدات خاصة تعتمد على الوقود المستورد أو المهرّب، بأسعار باهظة تقوّض قدرتها التنافسية.
القطاع الزراعي يعاني بدوره من نقص الكهرباء في مضخات الري، ما أدى إلى تراجع الإنتاج في مناطق حيوية مثل الغاب والجزيرة.
أما الخدمات العامة (مياه، صحة، تعليم)، فتخضع بدورها لإيقاع التقنين الكهربائي القاسي الذي يجعل حتى المستشفيات تعتمد على مولدات باهظة التشغيل.

هذا الواقع جعل من “الطاقة” أحد محددات اللامساواة الجديدة في سوريا، فالمناطق التي تمتلك إمكانات لتأمين الطاقة البديلة (شمسية، خاصة، أو مولدات) أصبحت أكثر قدرة على الصمود، فيما تغرق المناطق الأفقر في عتمة متواصلة، وتحوّل انقطاع الكهرباء إلى مؤشر طبقي واجتماعي بامتياز.

مقاربة مقارنة – سوريا وجوارها الإقليمي

رغم تشابه معاناة بعض دول المنطقة في ملف الطاقة، فإن سوريا تحتل موقعا استثنائيا من حيث عمق التدهور وصعوبة التعافي.

  • لبنان: الانهيار الموازي

يواجه لبنان أزمة كهرباء حادة مشابهة من حيث الانقطاعات، لكن بنيته التحتية لا تزال أكثر سلامة نسبيا، كما يحظى بدعم أممي وخارجي لتأمين الفيول وتمويل مشاريع الربط مع الأردن ومصر، ومع ذلك، فإن العجز المالي والفساد الإداري جعلا “مؤسسة كهرباء لبنان” عاجزة عن النهوض، والفارق أن بيروت تتعامل مع أزمة مالية – سياسية، بينما دمشق تواجه أزمة إنتاجية – هيكلية.

  • نموذج الاستقرار النسبي

الأردن، على الرغم من محدودية موارده، تمكّن من تحويل أزماته الطاقية إلى فرصة، فبفضل سياسات تنويع المصادر، أصبح اليوم يُولد أكثر من 25% من كهربائه من الطاقة المتجددة، وأقام بنية تنظيمية مستقرة تسمح بالاستثمار الخاص، ويعتمد جزئيا على الغاز المصري والعراقي، لكنه يتمتع بشبكة متكاملة وإدارة فعالة للطلب، وهو ما تفتقر إليه سوريا حاليا.

  • العراق: وفرة الوقود وغياب الكفاءة

العراق يملك احتياطيات هائلة من النفط والغاز، لكنه يعاني من نقص في إدارة المنظومة، ورغم إنفاق مليارات الدولارات، يبقى العجز في التوليد والنقل مرتفعا، والاعتماد على استيراد الكهرباء من إيران مستمرا، والمشترك بين دمشق وبغداد هو الإرث الإداري الثقيل، لكن الأخير يمتلك على الأقل إمكانات مالية هائلة تمكّنه من المناورة، في حين تفتقر سوريا إلى ذلك.

تركيا: القوة الصاعدة

على النقيض، تمكّنت تركيا خلال العقدين الأخيرين من التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، بفضل استثمارات ضخمة في الطاقة الحرارية والمتجددة وخطوط الأنابيب العابرة، وتنتج تركيا اليوم أكثر من 100 ألف ميغاواط من الكهرباء، وتصدّر جزءا منها إلى الجوار.

هذه المقارنة تكشف حجم الفجوة بين سوريا وجيرانها الشماليين من حيث البنية، والسياسات، والانفتاح على الشراكات الدولية.

البعد الجيوسياسي للطاقة السورية

ما يُضاف إلى الأزمة السورية هو بعدها الجيوسياسي المركّب، فإمدادات الغاز والنفط تمرّ في مناطق تسيطر عليها قوى متعددة (روسية، تركية، كردية)، ما يجعل أي خطة وطنية للطاقة خاضعة لتوازنات ميدانية أكثر منها اقتصادية.
كما أن خطوط الربط مع الأردن وتركيا ليست مجرد مشاريع فنية، بل رهانات سياسية، ترتبط بمسار العلاقات الإقليمية والتطبيع الجزئي الجاري.
وفي الواقع الحالي تبقى قدرة الحكومة السورية على عقد اتفاقيات تمويل دولية محدودة للغاية، ما يفسّر غياب الشفافية حول هوية “التحالف الدولي” الذي سيبني المحطات الجديدة.

الطاقة المتجددة – الأمل المؤجّل

رغم الإمكانات الشمسية الكبيرة في سوريا (أكثر من 300 يوم إشعاع شمسي سنويا)، فإن الاستثمار في الطاقة المتجددة ظل هامشيا، والمبادرات الحالية تبقى محلية أو فردية، مع غياب إطار تنظيمي متكامل يتيح للشركات الخاصة إنتاج الكهرباء وبيعها للشبكة العامة.
وفي حين تضخّ دول مثل الأردن ومصر استثمارات ضخمة في “الطاقة النظيفة”، ما تزال سوريا تتعامل مع هذا الملف كخيار ثانوي، لا كاستراتيجية مستقبلية، فغياب رؤية طاقية وطنية متكاملة يجعل من أي “خطة بناء محطات” مشروعا جزئيا، لا يرقى إلى مستوى التحول البنيوي المطلوب.

نحو قراءة نقدية

البيان الوزاري الأخير يحمل نَفَسا سياسيا أكثر منه برنامجا تنفيذيا، فالوعد بتحسين الكهرباء خلال 18 شهرا يستند إلى فرضيات غير مثبتة بعد، من القدرة على التمويل، واستيراد الغاز، وحماية خطوط النقل، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية ضخمة في بيئة أمنية واقتصادية هشّة.
كما أنّ غياب الشفافية حول عقود الشراكة والتمويل يجعل من الصعب تقييم مدى جدّية هذه المشاريع، فبدون بيانات مالية معلنة، ومواقيت تنفيذية دقيقة، ومراقبة مستقلة، تبقى الوعود أقرب إلى “خطاب تعبئة” منها إلى خطة وطنية.

التركيز الرسمي على “زيادة الإنتاج” يتجاهل سؤالًا آخر لا يقل أهمية، كيف نستهلك الطاقة؟ ففي غياب سياسات لترشيد الاستهلاك، وتحديث الشبكات، وتقليل الفاقد الفني الذي يتجاوز 30%، فإن أي زيادة في الإنتاج تتبخر قبل أن تصل إلى المستهلك النهائي.

الطاقة ليست مسألة تقنية، بل هي جوهر التنمية والسيادة، وسوريا التي كانت يوما تصدّر الكهرباء إلى لبنان والأردن، أصبحت اليوم تعتمد على الشراء والاستيراد في ظل منظومة متهالكة، ومع أن إعلان وزارة الطاقة عن إطلاق مشاريع جديدة يوحي ببداية مرحلة جديدة، إلا أن المسافة بين التخطيط والإنجاز ما تزال طويلة، فلكي يخرج قطاع الطاقة السوري من أزمته، يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة لكل المسار الاقتصادي السوري.

أزمة الطاقة في سوريا – رسم بياني تفاعلي

الطاقة في سوريا: بين وعود الإقلاع وقيود الواقع

قراءة نقدية في أزمة بنيوية ممتدة

صار الضوء في سوريا حدثاً نادراً، فالنور مجرد استراحة قصيرة بين فصلين من العتمة، والكهرباء لم تعد خدمة عمومية، بل تحوّلت إلى لغة يومية للأزمة، ومرآة لعمق التآكل الاقتصادي الذي أصاب الدولة والمجتمع.

فجوة الإنتاج والطلب
تطور الأزمة
مقارنة إقليمية
عوامل الأزمة

فجوة الطاقة الكهربائية في سوريا

الخطة الرسمية للطاقة

تأثير أزمة الطاقة على القطاعات

تطور أزمة الطاقة في سوريا

مقارنة إقليمية لأزمة الطاقة

سوريا

أزمة إنتاجية – هيكلية، تدهور البنية التحتية، عجز قدرة 4800 ميغاواط

لبنان

أزمة مالية – سياسية، بنية تحتية أكثر سلامة نسبياً، دعم دولي

الأردن

نموذج استقرار نسبي، 25% من الكهرباء من مصادر متجددة، بنية تنظيمية مستقرة

العراق

وفرة الوقود وغياب الكفاءة، إرث إداري ثقيل، إمكانات مالية هائلة

تركيا

قوة صاعدة، إنتاج 100 ألف ميغاواط، مركز إقليمي للطاقة، تصدير للجوار

⚙️

تدهور البنية التحتية

تضررت عشرات المحطات وخطوط النقل بسبب الحرب

💰

أزمة مالية وهيكلية

خسائر القطاع تُقدَر بأكثر من مليار دولار سنوياً

🌍

البعد الجيوسياسي

إمدادات الطاقة تخضع لتوازنات ميدانية أكثر منها اقتصادية

☀️

غياب استراتيجية الطاقة المتجددة

رغم الإمكانات الشمسية الكبيرة (أكثر من 300 يوم إشعاع شمسي سنوياً)

العوامل المؤثرة في أزمة الطاقة السورية

خلاصة نقدية

البيان الوزاري الأخير يحمل نَفَساً سياسياً أكثر منه برنامجاً تنفيذياً، فالوعد بتحسين الكهرباء خلال 18 شهراً يستند إلى فرضيات غير مثبتة بعد، من القدرة على التمويل، واستيراد الغاز، وحماية خطوط النقل، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية ضخمة في بيئة أمنية واقتصادية هشّة.

الطاقة ليست مسألة تقنية، بل هي جوهر التنمية والسيادة، وسوريا التي كانت يوماً تصدّر الكهرباء إلى لبنان والأردن، أصبحت اليوم تعتمد على الشراء والاستيراد في ظل منظومة متهالكة.

تم إنشاء هذا الرسم البياني بناءً على محتوى المقال المقدم. البيانات استرشادية وتعكس التحليل الوارد في النص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *