في دمشق القديمة، حيث تشكّل الأسواق مثل الحميدية والحريقة جزءا من البنية الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، يطفو على السطح نزاع معقد حول ما يعرف بـ”الفروغ”.
ما يبدو في ظاهره خلافا على عقود إيجار قديمة هو في جوهره قضية أوسع لأنه صراع بين حقوق الملكية ومصالح المستأجرين، وبين تشريعات مضى عليها أكثر من سبعين عاما وواقع اقتصادي واجتماعي يفرض معادلات جديدة، وتكشف الأزمة خللا بنيويا في القوانين التي لم تواكب التحولات، وتطرح تساؤلات جدية حول مستقبل الأسواق التقليدية في ظل محاولات الدولة إعادة صياغة قواعد التعامل العقاري والتجاري.
جذور الأزمة: تشريع من زمن آخر
تعود جذور نظام “الفروغ” إلى المرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952، الذي أرسى مبدأ “التمديد الحكمي” لعقود الإيجار، مانحا المستأجر حماية شبه مطلقة من طرد المالك، وكان الهدف حينها حماية التجار الصغار في مرحلة ما بعد الاستقلال، لكن القانون تجمّد في الزمن، فيما تغيّر كل شيء من حوله.
مع مرور السنوات، تحولت عقود “الفروغ” إلى ما يشبه الملكية المقنّعة، فدفع التجار مبالغ باهظة للفروغ، تعادل في بعض الأحيان ثمن منازل كاملة، وبنوا حياتهم الاقتصادية والاجتماعية على أساسها، أما المالك، فوجد نفسه أمام ملكية “معطلة”، عاجزا عن الاستفادة من عقاره أو إعادة تقييمه في السوق.
شرخ يتعمّق: بين المالك والمستأجر
بعد سبعين عاما من هذا التشريع، يظهر الشرخ عميقا، فالمالك يطالب بحق مشروع باستعادة ملكيته واستثمارها في زمن الغلاء وانهيار العملة، بينما المستأجر يرى نفسه شريكا أصيلا، لا مجرد ضيف عابر، بحكم استثماراته الطويلة وتوارثه للمحل عبر أجيال.
فؤاد الشماع، أحد تجار دمشق القدامى، يقول: “دفعت فروغا يعادل ثمن بيت… واليوم يريدون إخراجي وكأنني مغتصب للعقار”، على الطرف الآخر، يرد أسامة سليق، أحد المالكين: “أنا لا أطالب بطرد أحد، لكن لم أستفد منذ 70 سنة من ملكي”.
بين هذين الموقفين المتناقضين، تقف الدولة عاجزة عن التوفيق بين مصالح متضاربة، والقرارات الأخيرة لوزارة العدل، ومنها تمديد مدة تسجيل العقود حتى نهاية سبتمبر 2025، لم تهدئ الأزمة بل أججت الخوف من إخلاءات جماعية تشمل آلاف المحلات.
التداعيات الاقتصادية: تفكيك العمود الفقري
الأسواق الدمشقية ليست مجرد متاجر، فهي العمود الفقري للاقتصاد الحضري السوري، والشبكة التي تربط التجار بالعمال وبالمستهلكين، وأي هزة عنيفة في هذه المنظومة تعني انهيار سلسلة الإمداد المحلية، وارتفاع أسعار السلع، واندفاع رؤوس الأموال القليلة الباقية إلى الخارج.
محمد الباشا، الخبير الاقتصادي، يرى أن تجار دمشق هم “العمود الفقري للاقتصاد السوري الحضري”، محذرا من أن أي مساس بهم سيقوض ما تبقى من السوق الداخلية، فهل تستطيع سوريا، المنهكة بعقد من الحرب والعقوبات والانهيار المالي، تحمّل ضربة جديدة بهذا الحجم؟
البعد الاجتماعي: كرامة ووجود
خارج لغة الأرقام، هناك قصص بشرية؛ فاطمة النحاس، أرملة تعيل أطفالها من محل صغير في الحريقة، تقول: “لو أخرجوني، بدي أرجع أبيع على الرصيف؟” فهذه ليست مجرد معركة قانونية، بل معركة وجودية على الكرامة والعيش.
الأزمة هنا ليست اقتصادية فحسب، بل اجتماعية بامتياز، إذا طُرد آلاف التجار من محالهم، فماذا يبقى من طبقة وسطى كانت تاريخيا ضامنا لاستقرار دمشق؟
الاحتجاجات: الشارع يتكلم
في تموز الماضي، خرج عشرات التجار في وقفات احتجاجية أمام وزارة العدل وغرفة تجارة دمشق، رافعين شعار “لا للفروغ بلا عدالة” ويتكرر المشهد من جديد خلال هذا الشهر في سوق الحريقة، حيث احتشدت مجموعات من التجار للتنديد بالقرارات الأخيرة.
لم يعد الأمر محصورا بغرف المحاكم أو مكاتب الوزارة؛ فهو خرج إلى الشارع، إلى قلب دمشق، إلى المكان الذي كان دوما رمزا للاقتصاد الوطني، والمظاهرات الأخيرة هي إشارة تحذير فإذا لم يُعالج الملف بحكمة، فإن السوق يتحول إلى بؤرة اضطراب اجتماعي.
معضلة الدولة: بين العدالة والاستقرار
أمام هذه الأزمة، تحاول الدولة أن تمسك العصا من المنتصف، فوزير العدل مظهر الويس أكد أن الحكومة “لا تزال في مرحلة الاستماع”، وأن الهدف هو “تحقيق العدالة وحماية حقوق جميع الأطراف”، لكن هذا الخطاب، وإن بدا متوازنا، يخفي مأزقا حقيقيا: كيف توفق بين حق المالك الدستوري وحق المستأجر الاجتماعي والاقتصادي؟
لكن خلف هذا الخطاب الحذر، تلوح ملامح توجه استراتيجي أوسع لدى الدولة يسعى إلى إعادة هيكلة البنية التجارية في دمشق، فالأمر لا يقتصر على نزاع قانوني بين مالك ومستأجر، بل يدخل في سياق سياسي واقتصادي يهدف إلى إعادة توزيع السيطرة على الأسواق القديمة وإدماجها في منظومة استثمارية جديدة أكثر خضوعا للمصالح الرسمية والجهات النافذة، ويبدو أن الدولة تتعامل مع ملف الفروغ ليس كمسألة حقوقية فحسب، بل كأداة لإعادة رسم الخريطة الاقتصادية للعاصمة، بما يتناسب مع رؤيتها في توزيع الثروة.
قراءة في العمق: أزمة تتجاوز دمشق
هذه الأزمة ليست فريدة من نوعها، ففي مدن بالجوار السوري، أدت الإيجارات القديمة إلى شلل مشابه، حيث يحتل المستأجرون عقارات بأجور رمزية بينما المالك محروم من عوائدها، لكن الفرق أن دمشق تواجه ذلك في ظل انهيار اقتصادي شامل، واستلام سلطة جديدة، تريد أن تستحوذ على كل شي ما يجعل المعادلة أكثر خطورة.
الأزمة تكشف خللا أعمق في بنية الاقتصاد السوري: قوانين متجمدة من خمسينيات القرن الماضي، نظام ريعي يعتمد على توازنات قديمة، وانعدام رؤية لإصلاح شامل يوازن بين الحقوق والواجبات.
نحو حل متوازن: السيناريوهات الممكنة
الحلول موجودة، لكنها تتطلب إرادة سياسية وشجاعة قانونية، ويمكن أن تشمل:
- مهلة انتقالية (3–5 سنوات) تسمح للتجار بالاستعداد، وللمالكين باستعادة عقاراتهم تدريجيا.
- تعويضات عادلة للمستأجرين الذين دفعوا مبالغ فروغ ضخمة.
- تحويل بعض عقود الفروغ إلى ملكية مقابل تسوية مالية، تحمي الأسواق من التفريغ المفاجئ.
- تدخل الدولة كوسيط لضمان ألا يتحول الخلاف إلى كارثة اقتصادية واجتماعية.
دمشق بين الماضي والمستقبل
قضية الفروغ في دمشق هي أكثر من نزاع عقاري؛ إنها اختبار لمستقبل المدينة، ولقدرة الدولة على صياغة عقد اجتماعي جديد يوازن بين حماية حقوق الملكية وضمان العدالة الاجتماعية.
الأسواق الدمشقية ليست فقط مراكز للبيع والشراء، بل ذاكرة وطنية، ورمز لصمود مجتمع في وجه حرب مدمرة، وإذا فشلت الدولة في معالجة هذا الملف، فإنها لن تخسر أسواقا فحسب، بل ستخسر ثقة شريحة أساسية من المجتمع، وربما تفقد جزءا من روح دمشق ذاتها.
في النهاية، السؤال ليس: “من يملك المحل؟” بل “أي دمشق نريد أن نملك؟”.
مابعرف ليش خربطت الامور مع الناس هيك كانوا ما كان هناك قانون ودولة وقضاء