ستّ حكايات من موت سوري عادي: يوم في تشرين التاني يكشف خريطة الفوضى والدم

في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2025، كان السوريون يتهيؤون ليومٍ عادي آخر؛ لا قصف واسع النطاق، لا بيانات كبرى ولا معارك معلنة، فقط أخبار متفرّقة في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي: ستّة قُتلوا، قضوا، أو “استُشهدوا” في ظروف مختلفة.
لكن خلف الأرقام الصغيرة، تقف البلاد الكبيرة بثقلها كله على حكايات متوازية عن موت بلا عنوان، ووطن باتت الجغرافيا فيه تُحدّد شكل النهاية.

الزوجان من السويداء: رصاص الغموض

في منطقة رساس بريف السويداء، كان صباح الأحد صامتا إلا من همسات المارة الذين تجمّعوا حول نقطة محددة، حيث عُثر على جثتين لرجل وزوجته من بلدة “عرى”، بعد أكثر من أسبوعين على اختفائهما.
لم يكن في المشهد ما يُشير إلى جريمة مدروسة بقدر ما يُشي بانتقامٍ غامض؛ رصاصاتٌ متقاربة، وجثتان ملقيّتان قرب الطريق الفرعي المؤدي إلى البلدة، بلا رسالة أو توقيع.
في السويداء، المدينة التي كانت يوما رمزا لخصوصيةٍ اجتماعية، بات القتل فيها جزءا من إيقاع الحياة اليومية؛ عمليات خطفٍ متبادلة، واغتيالات على خلفيات طائفية، وميليشيات محليّة في صراع مع السلطة في دمشق.

اختفاء الزوجين منذ 2 تشرين الثاني لم يكن خبرا طارئا؛ فالقائمة طويلة لأشخاص يُفقدون ثم يُعثر عليهم لاحقا، إمّا في مقبرة مجهولة أو على حافة طريقٍ يعرفه الجميع.

راعي البادية: بين السماء والنار

في بادية تدمر، المشهد مختلف، فالأرضٌ بلا ظلّ، وسماءٌ تخترقها المروحيات، وكان الراعي يقود قطيعه حين مرّت ثلاث مروحيات تابعة للتحالف الدولي، وفي لحظة غامضة، أطلق النار نحوها، ربما بدافع الخوف أو سوء الفهم، والرصاص لم يصل، لكن ردّ المروحيات كان فوريا.
طلقةٌ من الجوّ أنهت حياته على الفور.
في بيانات التحالف، سيُشار إليه لاحقًا بأنه “فرد مسلح فتح النار على القوات”، لكنّ أبناء البادية يعرفون أنّ كثيرين من الرعاة يحملون السلاح كما يحملون عصا الرعي، فهي جزء من حياتهم لا من الحرب، والراعي لم يكن ضدّ أحد، لكنه عاش في منطقة لا تُسامح الخطأ.

الحادثة ليست الأولى، فالبادية الممتدة بين حمص ودير الزور صارت واحدة من أكثر الجغرافيا التباسا في سوريا؛ خطوط تماس وخلايا “داعش”، ودوريات التحالف، ووسط هذا كله، يقف المدنيّ وحيدا يُحاسَب كما لو كان طرفا في حربٍ لا يفهم خرائطها.

ثأر جرابلس: موت مؤجل

في جرابلس، المدينة التي تنام على ضفة الفرات تحت نفوذ الفصائل الموالية لأنقرة، سُمع إطلاق نارٍ في الحي الشرقي.. دقائق، وسقط رجل في الثلاثين من عمره مضرجا بدمه أمام متجره الصغير.
تقول المصادر إن الجريمة وقعت “على خلفية ثأرٍ قديم”، لكنّ هذا التفسير، كما العادة، يخفي أكثر مما يُظهر، فالثأر في شمال سوريا لا يكون فقط بين عائلتين، بل بين أزمنةٍ متراكبة من الفوضى؛ مظالم الحرب، وحسابات الفصائل، والانقسام بين مدنيين وجنود سابقين.

منذ 2016، تحوّلت جرابلس إلى مدينة هجينة، نصفها إداري ونصفها عسكري، ونسيجها الاجتماعي مشدود بين المهجّرين والوافدين، وفي مثل هذه المدن، يكفي أن تُذكّر خصمك بخلاف قديم حتى تُستدعى البنادق من النسيان.
ابن معرين الجبل: الذاكرة المتروكة

في الجنوب من محافظة حماة، بلدة صغيرة اسمها “معرين الجبل”، وقبل ثلاثة أشهر، اختفى أحد أبنائها أثناء عمله في جبلة بريف اللاذقية، وظنّ أهله أنه خُطف أو اعتُقل، لكنهم ظلّوا ينتظرون، وفي يوم 19 تشرين الثاني، وصلهم الخبر: عُثر على جثمانه.
لم يُعرف من قتله، ولا لماذا تأخر الإعلان عن موته، فالجسد وحده عاد محمولا على شاحنة صغيرة من دون أي ملامح للعدالة.

في سوريا ما بعد 2025، اختفاء الأشخاص صار شكلا آخر من القتل، فحين يعود الجسد يُغلق الملف، كأنّ العدالة استُوفيت بمجرد عودة الرفات، لكنّ الأسئلة تظلّ بلا إجابات؛ من احتجزه؟ من قتله؟ ولماذا في جبلة بالذات؟

جثة السيدة في قفيلون: صمت الريف

في قرية قفيلون بريف حماة الغربي، كان الهدوء ثقيلًا حين دخل أحد الجيران منزل سيدة خمسينية بعد غيابها يومين، وعثر عليها مقتولة بأداة حادة، لا سرقة، لا أثر لكسر الباب، فقط جريمة داخل البيت في قرية يعرف فيها الجميع بعضهم.
في القرى السورية، القتل داخل البيت جريمة نادرة، لأن الجدران هناك شاهدة، والجيران يعرفون حتى أنفاس بعضهم، لذلك بدا الصمت الذي تبع الجريمة أكثر قسوة من القتل نفسه.

لم تعلن السلطات عن مشتبه به، فوحدها صفحة محلية على “فيسبوك” كتبت: “اللهم انتقم ممن ظلمها”،
موتٌ موزّع… وبلادٌ بلا رواية

ستّ جرائم وستّ مناطق، وطرق مختلفة للموت في يومٍ واحد؛ من السويداء إلى البادية، ومن جرابلس إلى قفيلون، والخط واحد: غياب الدولة بوصفها مرجعا للحياة أو للمحاسبة.
في سوريا اليوم، لم تعد الحرب حدثا يُعلن في نشرات الأخبار، بل حالة مستمرة تُمارس بوسائل متعددة، من سلاح فردي في يد ثائر قديم، أو مروحية أجنبية في سماء بلا سيادة، أو خنجر في غرفةٍ مغلقة.

ما يوحّد هذه الحوادث ليس عدد الضحايا، بل تشتّتهم، فكلّ جريمة تقع في عالم صغير مكتفٍ بذاته؛ الراعي وحده، والسيدة وحدها، والزوجان وحدهما، حتى الموت هنا صار فرديا، بلا سردية جامعة أو ذاكرة وطنية.

لكن حين تُجمع هذه الأخبار في سطرٍ واحد، ستة قُتلوا في ظروف مختلفة، يُدرك المرء أن المأساة ليست في الحدث نفسه، بل في اللغة التي تصفه، فـ”الظروف المختلفة” ليست اختلافا في التفاصيل، بل وحدة في المصير.

تلك كانت سوريا في يومٍ عادي من عام 2025؛ لا معركة كبرى، ولا بيان نصر ولا انهيار، فقط حياة تتساقط بهدوء، مثل رمال البادية التي تُغطي آثار الخطى بعد دقائق، وفي بلدٍ أنهكته الحروب، صار الموت بلا سياق هو القصة الكبرى.
ولعلّ ما يُفزع أكثر من الدم، هو أن السوريين باتوا يعرفون كيف يمرّون فوقه دون أن يلتفتوا، لأن النجاة هنا لم تعد تعني الحياة، بل القدرة على الاستمرار في التظاهر بأن كلّ هذا طبيعي.

موت متفرّق في جغرافيا واحدة

موت متفرّق في جغرافيا واحدة

ستّ حكايات من يومٍ سوري عادي – 19 تشرين الثاني 2025
السويداء – رساس

الزوجان من السويداء: رصاص الغموض

عُثر على جثتي رجل وزوجته بعد أكثر من أسبوعين على اختفائهما. رصاصات متقاربة وجثتان ملقيّتان قرب الطريق الفرعي بلا رسالة أو توقيع. في السويداء، بات القتل جزءاً من إيقاع الحياة اليومية.

بادية تدمر

راعي البادية: بين السماء والنار

راعي يقود قطيعه حين مرّت مروحيات التحالف الدولي. أطلق النار نحوها بدافع الخوف، فردّ المروحيات كان فورياً. طلقة من الجوّ أنهت حياته على الفور.

جرابلس

ثأر جرابلس: موت مؤجل

سُمع إطلاق نار في الحي الشرقي.. دقائق، وسقط رجل في الثلاثين من عمره مضرجا بدمه أمام متجره الصغير. الجريمة وقعت “على خلفية ثأرٍ قديم”.

معرين الجبل – حماة

ابن معرين الجبل: الذاكرة المتروكة

قبل ثلاثة أشهر، اختفى أحد أبناء البلدة أثناء عمله في جبلة. في 19 تشرين الثاني، وصلهم الخبر: عُثر على جثمانه. لم يُعرف من قتله، ولا لماذا تأخر الإعلان عن موته.

قفيلون – ريف حماة

جثة السيدة في قفيلون: صمت الريف

دخل أحد الجيران منزل سيدة خمسينية بعد غيابها يومين، وعثر عليها مقتولة بأداة حادة. لا سرقة، لا أثر لكسر الباب، فقط جريمة داخل البيت في قرية يعرف فيها الجميع بعضهم.

سوريا

موت موزّع… وبلاد بلا رواية

ست جرائم وست مناطق، وطرق مختلفة للموت في يوم واحد. الخط واحد: غياب الدولة بوصفها مرجعا للحياة أو للمحاسبة. في سوريا اليوم، لم تعد الحرب حدثاً يُعلن في نشرات الأخبار، بل حالة مستمرة.

خلاصة: موت بلا سياق

ما يوحّد هذه الحوادث ليس عدد الضحايا، بل تشتّتهم، فكل جريمة تقع في عالم صغير مكتف بذاته. حتى الموت هنا صار فردياً، بلا سردية جامعة أو ذاكرة وطنية. حين تُجمع هذه الأخبار في سطر واحد، “ستة قُتلوا في ظروف مختلفة”، يُدرك المرء أن المأساة ليست في الحدث نفسه، بل في اللغة التي تصفه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *