قراءة جيوسياسية في المشهد الأمني السوري الراهن
في شمال غرب سوريا، حيث تمتزج الفوضى الأمنية ببقايا النزاع الأيديولوجي، برزت كتيبة المجاهدين الفرنسيين، أو ما يُعرف بـ”فرقة الغرباء” كأحد أكثر الملفات حساسية في علاقة سلطة دمشق الحالية بقيادة أحمد الشرع ببقايا الفصائل الأجنبية التي كانت حليفة لهيئة تحرير الشام.
تُعدّ هذه الكتيبة، التي تضم نحو 150 مقاتلا فرنسيا، أحد الرموز الباقية للجيل الجهادي العابر للحدود الذي شارك في الاضطرابات ضد النظام السابق، ثم وجد نفسه خارج معادلة السلطة الجديدة.
من ضيوف الحرب إلى عبء ما بعد الصراع
تعود جذور الكتيبة إلى عام 2013 حين تدفق مئات المقاتلين من فرنسا إلى سوريا عبر تركيا، ومعظمهم انضموا إلى جبهة النصرة ثم إلى هيئة تحرير الشام.
وبحسب تقرير المخابرات الفرنسية الصادر في حزيران 2024، قُدّر عدد المقاتلين الفرنسيين الذين بقوا في إدلب بعد الحرب بنحو 150، معظمهم تحت قيادة عمر ديابي المعروف باسم عمر أومسن.
كان الجولاني وعدهم بمنح الجنسية السورية ودمجهم في الأجهزة الأمنية مقابل دعمهم العسكري خلال المعارك الأخيرة ضد النظام السابق، لكن تلك الوعود تلاشت بعد انتقال السلطة إلى السعي للاعتراف الدولي ورفع العقوبات الأمريكية.
من منظور الجهاديين الفرنسيين، لم تكن الوعود مجرد وعود سياسية، بل “عهد جهادي” نُكث به، ولذلك يرون أن ما يجري اليوم ليس سوى محاولة لتصفيتهم ضمن صفقة أوسع بين الشرع وواشنطن [4].
عمر أومسن – الأمير الخارج عن الطاعة
يُعدّ عمر أومسن (Omar Diaby) من أبرز الجهاديين الفرنسيين، وذو خلفية سنغالية–فرنسية، وبحسب صحيفة ليبراسيون الفرنسية، فإن أومسن مسؤول عن تجنيد أكثر من 80% من المقاتلين الناطقين بالفرنسية الذين توجهوا إلى سوريا والعراق.
يقود اليوم معسكرا محصنا في منطقة حارم بريف إدلب، يضم نحو150 مقاتلاً و70 عائلة، ويُعرف محليا باسم “مخيم الفرنسيين”، ويتصرف كحاكم فعلي للمخيم، مُنشئاً ما يشبه “إدارة شرعية مصغّرة” تشمل جهاز شرطة وقضاء وسجون داخلية [6].
في لقاء مع قناة France 2 عام 2022، أعلن أومسن بوضوح: “لم نأتِ لتحرير سوريا فحسب، بل لتحرير العالم بأسره، بما في ذلك فرنسا”.
تلك الجملة اختزلت رؤيته الكونية التي تتجاوز حدود الصراع السوري، وتجعل من وجوده تحديا مستمرا لسلطة دمشق وللمجتمع الدولي في آن واحد.
اشتباكات حارم – اختبار سيادة الدولة
في تشرين الأول 2025 اندلع اشتباك مسلح بين قوات الأمن العام السوري التابعة لسلطة دمشق الحالية وبين مقاتلي كتيبة الفرنسيين في حارم، ووفق بيان رسمي صادر عن وزارة الأمن الوطني، فإن العملية كانت تهدف إلى “تفكيك بؤرة خارجة عن القانون تُدار من قبل عناصر أجنبية”.
لكن الاشتباك تحوّل إلى مواجهة مفتوحة استمرت لساعات، واستخدمت فيها القوات السورية طائرات استطلاع من طراز “شاهين” ومدفعية متوسطة.
تدخّلت لاحقا فصائل أجنبية أوزبكية وشيشانية لمساندة الفرنسيين، ما وسّع نطاق المعركة وجعلها أشبه بتجربة مصغّرة لاحتمالات التمرّد الأجنبي في الشمال الغربي، مصادر أمنية أكدت لـ”سوريا الغد” أن العملية تمت بتنسيق غير معلن مع الجانب الفرنسي، إذ تسعى باريس إلى إنهاء وجود مقاتليها في سوريا دون إعادتهم إلى أراضيها.
ازدواجية باريس – بين الخوف والإنكار
تعيش فرنسا معضلة مزدوجة حيال هذا الملف، فبينما تُصرّ على رفض عودة الجهاديين الفرنسيين لأسباب أمنية، تُدرك أن بقاءهم في سوريا يشكّل قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الإقليمي، والمدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب، أوليفييه كريستين، صرّح في مقابلة مع France 2: “إذا غادر الجهاديون الفرنسيون سوريا، فسيُعتقلون فور وصولهم، من الأفضل أن يبقوا هناك”.
أما أومسن فكان ردّه ساخرا في حديثه للصحيفة نفسها: “لا أشتاق إلى فرنسا… الشيء الوحيد الذي أفتقده هو الجبن الفرنسي”.
تُظهر هذه المراسلات الخطابية أن المعركة لم تعد فقط ميدانية، بل رمزية، فهي معركة حول من يملك الشرعية في تعريف “المواطنة” و”الانتماء”.
المعسكر ككيان موازٍ للدولة
المخيم الذي يقوده أومسن على تلة حارم يضم نحو10 آلاف شخص من مقاتلين وعائلاتهم من جنسيات متعددة (فرنسية، شيشانية، أوزبكية، وإيغورية)، ويُعد آخر تجمع للمقاتلين الأجانب في سوريا.
وفق تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن المخيم يدار “بسلطة شرعية خاصة”، ويفرض على السكان “ضرائب دعم الجهاد” وقيودا على الحركة.
هذه البنية المغلقة تمثل دولة ظلّ مصغّرة ضمن الجغرافيا السورية، تشكّل تحديا مباشرا لسيادة دمشق الحالية، أم ردّ حكومة الشرع كان:
- أمنيا، تمّ فرض طوق على المنطقة وقطع طرق التموين.
- سياسيا، بدأت حملة إعلامية واسعة لتشويه صورة أومسن واتهامه بخطف قاصرات وتهريب سلاح ومخدرات.
البعد الجيوسياسي للصراع
لا يمكن قراءة الصدام في حارم بمعزل عن السياق الأوسع، فبحسب تقرير استخباراتي مشترك فرنسي–أمريكي نُشر في آب 2025، تشترط واشنطن على دمشق تحييد المقاتلين الأجانب مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
من جهة أخرى، تسعى فرنسا لإغلاق ملف المقاتلين قانونيا دون استقبالهم، بينما تُحاول حكومة الشرع إثبات قدرتها على فرض النظام والسيطرة، فملف كتيبة المجاهدين الفرنسيين نقطة تقاطع بين ثلاث مصالح:
- الولايات المتحدة تريد إنهاء الظاهرة الجهادية دون تدخل مباشر.
- فرنسا تريد التخلص من “مواطنيها الجهاديين” دون إعادتهم.
- السلطة في دمشقتسعى لإثبات وجودها وإظهار نضجها كدولة ما بعد الحرب.
مأزق الشرعية والثقة المفقودة
منذ استلامه السلطة، يواجه أحمد الشرع تحديا مزمنا في بناء شرعية وطنية تتجاوز الولاءات الفصائلية، فالتحول من نظام البعث إلى سلطة انتقالية تحاول الجمع بين الواقعية السياسية والضغط الدولي يجعل قراراته محفوفة بالمخاطر.
وأشار في خطابه أمام المجلس الأمني في أغسطس الماضي: “من حمل السلاح دفاعا عن الأرض، عليه أن يضعه اليوم لبناء الدولة”، لكن كلمات الشرع لم تلق صدى في حارم، حيث يرى أومسن نفسه وريثا “لجهاد عالمي”، لا جزءا من دولة إقليمية محدودة السيادة.
حارم كمرآة لتناقضات سوريا الجديدة
تُظهر أزمة كتيبة المجاهدين الفرنسيين أن سوريا ما بعد الحرب لا تزال عالقة بين منطق الدولة ومنطق الفصائل، فالسلطة في دمشق، رغم استقرارها النسبي، عاجزة عن فرض منطق الدولة، وغير قادرة على معالجة التركة الجهادية التي خلّفتها حرب استمرت عقد من الزمن.
تظل كتيبة أومسن نموذجا مكثفًا لتلك المعضلة:
- فوجودها يُذكّر العالم بأن الصراع السوري لم ينتهِ فعلا.
- واشتباكها مع الأمن السوري يُظهر أن إعادة بناء الدولة أصعب من إسقاط النظام.
من منظور جيوسياسي، فإنّ حارم ليست مجرد بلدة صغيرة، بل نقطة التقاء بين السيادة المحلية والذاكرة الجهادية العالمية، وعدم احتواء هذا الملف يجعل من أي شرارة صغيرة تعيد إشعال حربٍ أكبر عنوانها:
من يملك حقّ البقاء في أرضٍ احترقت باسم الله وباسم الوطن في آنٍ واحد.
كتيبة المجاهدين الفرنسيين في سوريا
قراءة جيوسياسية في المشهد الأمني السوري الراهن بين قبضة الدولة الجديدة وهاجس التصفية
التوزيع الجغرافي للكتيبة
منطقة حارم بريف إدلب
يقود عمر أومسن معسكراً محصناً في منطقة حارم يعرف محلياً باسم “مخيم الفرنسيين”، ويتصرف كحاكم فعلي للمخيم.
الخلفية الزمنية
تدفق مئات المقاتلين من فرنسا إلى سوريا عبر تركيا
أعلن أومسن: “لم نأتِ لتحرير سوريا فحسب، بل لتحرير العالم بأسره”
تقرير المخابرات الفرنسية يقدّر عدد المقاتلين الفرنسيين بـ 150
اشتباكات حارم بين قوات الأمن السوري وكتيبة الفرنسيين
الأطراف الرئيسية
ازدواجية باريس
“إذا غادر الجهاديون الفرنسيون سوريا، فسيُعتقلون فور وصولهم، من الأفضل أن يبقوا هناك” – أوليفييه كريستين
توزيع المقاتلين حسب الجنسية
تجمع متعدد الجنسيات
المخيم يضم مقاتلين وعائلاتهم من جنسيات متعددة (فرنسية، شيشانية، أوزبكية، وإيغورية)
البعد الجيوسياسي للصراع
نقطة تقاطع المصالح
الولايات المتحدة تريد إنهاء الظاهرة الجهادية، فرنسا تريد التخلص من “مواطنيها الجهاديين” دون إعادتهم، ودمشق تسعى لإثبات وجودها كدولة ما بعد الحرب.


لله درك يا بلد
الله يخلصنا على خير
الله يستر منهم