الأكراد في سوريا الجديدة: جغرافيا السلطة بعد 2025

تشكل الجغرافيا البوابة الأساسية لفهم المسألة الكردية في سوريا، فالموقع الذي يشغله الأكراد في الشمال الشرقي من البلاد، والمجال الذي يديرونه منذ ما يقارب العقد من الحرب، هو عقدة مكثفة من الصراعات الإقليمية والدولية، حيث تتقاطع خطوط النفط بخطوط الهوية، والماء بالحدود، والذاكرة بالسلطة.

في رؤية أولية لهذا الموضوع يمكن العودة إلى المفكر الفرنسي إيف لاكوست ورؤيته للجغرافيا السياسية بوصفها علما “يُستخدم أولا لفهم الحروب، لا لتدريسها في المدارس”، فتحليل المكان مدخل لفهم موازين القوة، والجغرافيا السياسية للأكراد في سوريا يمكن قراءتها كنتاجٍ لتفاعل الجغرافيا مع السياسة في فضاءٍ مكسور الحدود، وليس فقط كقضية قومية معزولة

المكان كقدرٍ سياسي

الإقليم الكردي السوري، أو ما يُعرف اليوم باسم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES)، يحتل منطقة تمتد من المالكية على تخوم العراق وتركيا شرقا، حتى منبج وعين العرب غربا، وهذا المكان على المستوى الجغرافي يمثل انتقالا بين الصحارى والسهول الزراعية، يضم ثروة مائية ونفطية هائلة تتجسد بمنابع الفرات، وحقول رميلان والجبسة والعمر.

في الجغرافيا السياسية، الموارد ليست ثروة فقط، بل عبء، فكل ما يُنتج طاقة، يخلق نزاعا، والنفط السوري الذي يتركز بمعظمه في المناطق الكردية، أحد الأسباب الكامنة في اشتداد الصراع على تلك الجغرافية، فجعلها موضوع تنافس بين سلطة دمشق التي ترى فيه شريان الدولة الاقتصادي، وتركيا التي تعتبره سندا لمشروع كردي تهديدي، والولايات المتحدة التي توظفه أداة ضغط في توازناتها مع موسكو وطهران.

لم يكن موقع الأكراد الجغرافي صدفة، بل قدرهم السياسي.

الجغرافيا كأداة للسلطة

أقام الأكراد خلال السنوات التي تلت الاضطرابات في سوريا عام 2011 نموذج حكمهم الذاتي القائم على ثلاثية اللامركزية والتشاركية والدفاع الذاتي، وهذه الصيغة التي تبدو في ظاهرها إدارية، تحمل في عمقها ممارسة للسلطة عبر المكان، فالتحكم بالمجال يعني التحكم بالناس والموارد والحدود.

تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (SDF) على معظم الشمال الشرقي السوري، وهي الذراع العسكرية التي أمنت هذا الكيان وحمته من “داعش”، ولاحقا من توغلات الفصائل المدعومة تركيا، لكن سيطرنهم الميدانية لم تكن تحكما سياسيا كاملا، فداخل هذا المجال، تتعدد الولاءات والانتماءات من كردية وعربية وآشورية وسريانية وعشائرية، يُضاف إليها العامل الأميركي الذي يشكل “حاميا” ومراقبا.

عمليا فإن هذا التعدد لا يُضعف الجغرافيا السياسية بل يُعقّدها، فكلما ازدادت القوى الفاعلة على الأرض، تطورت أهمية المجال الجغرافي في لعبة الموازين، فشمال شرق سوريا تحوّل خلال سنوات الاضطراب من هامش منسي إلى مركز جيوسياسي فعّال، لأن القوى الإقليمية والدولية اكتشفت فيه “مفصل السيطرة” على قلب المشرق، فعبره تلتقي طرق الطاقة من العراق، وخطوط التماس مع تركيا، ومجال النفوذ الإيراني، قبل سقوط نظام البعث، الممتد من دير الزور إلى البحر.

الحدود كأداة ضغط

بالعودة إلى لاكوست فإنه اعتبر في رسمه للجغرافية السياسية على مبدأ أن “الحدود خطوطُ قوة قبل أن تكون خطوطَ فصل” وهذا ما يظهر في الجغرافيا الكردية السورية المحاصر بثلاثة حدود معادية أو متوجسة:

  • من الشمال تركيا التي ترى في أي كيان كردي على حدودها امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK)  وتهديدا لأمنها الداخلي، واستخدمت أنقرة الجغرافيا كأداة حرب، عبر “المنطقة الآمنة” التي تقتطعها على طول الحدود من جرابلس إلى رأس العين، حيث تعيد توطين نازحين عرب لتغيير التركيبة الديموغرافية.
  • من الشرق العراق حيث كردستان العراقية حليف طبيعي ثقافيا وسياسيا، لكنها خاضعة لحسابات بغداد وأنقرة وواشنطن، ما يجعل الحدود الشرقية للأكراد السوريين منفذا متذبذبا لا مستقرا.
  • من الغرب والجنوب دمشق التي تسعى السلطة الجديدة فيها لاستعادة السيطرة على المنطقة بوصفها جزءا من أملاكها، مع “استعداد تكتيكي” لقبول اللامركزية المؤقتة.

إن هذه الحدود الثلاثة تحول الوجود الكردي السوري إلى كيان “مُراقَب من كل الجهات”، فهي حدود تخنق أكثر مما تحمي، وتحوّل الإدارة الذاتية إلى واقع هشّ معلّق بين الوعد والتهديد.

التحالفات بوصفها جغرافيا متحركة

لا تُقاس الجغرافيا السياسية الحديثة بالمساحة فقط، بل بمدى التمدّد في شبكة التحالفات، واعتمدت قيادات الإدارة الذاتية على هذه الرؤية عبر العمل في استثمار “الهندسة المتعدّدة للمصالح”، فمنذ 2014 أقاموا شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة في الحرب ضد “داعش”، وقدّموا أنفسهم كقوة علمانية معتدلة في بحر من التطرف، وهو ما منحهم شرعية دولية لم يكن ليحلموا بها.

لكن الشرعية لم تعد بعد آذار 2025 مجرد مسألة اعتراف دولي أو دعم عسكري، بل تحوّلت إلى موقع تفاوضي داخل خريطة الحكم الجديدة، فالاتفاق الذي وُقّع في 10 آذار بين ممثلي “قوات سوريا الديمقراطية” والحكومة الانتقالية برعاية أميركية، أعاد تعريف العلاقة بين الأكراد وسلطة دمشق على أساس “الاندماج التدريجي” لا “العودة المشروطة”.
تغيّر دور واشنطن من راعٍ عسكري مباشر إلى ضامن سياسي لاتفاقات الإدارة الذاتية ضمن الدولة السورية الجديدة، في حين باتت قواتها محدودة الانتشار وتعمل بالتنسيق مع السلطة الانتقالية، والتراجع الأميركي لا يعني بالضرورة كردية، بل انتقالا في طبيعة الوصاية من عسكرية إلى دبلوماسية.

أما روسيا، التي كانت حتى مطلع 2025 تسعى للموازنة بين سلطة دمشق وأنقرة، وجدت نفسها بعد انهيار النظام القديم أمام مشهد جيوسياسي جديد، فسوريا بلا مركز واحد، وشرقها الكردي يتحول إلى رافعة للاستقرار لا إلى خطر على الوحدة، فغيّرت موسكو مقاربتها من وساطة بين خصمين” إلى “ضمان وحدة فيدرالية قيد التشكل”، مستفيدة من اتفاق العاشر من آذار لتثبيت حضورها كقوة توازن لا وصاية.

البنية الاجتماعية كعامل هشاشة

رغم الصورة النمطية عن وحدة الموقف الكردي، إلا أن الواقع أكثر تشظّيا، فداخل البيت الكردي السوري انقسامات عميقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) صاحب النفوذ الأكبر والمدعوم من الجناح العسكري، وبين المجلس الوطني الكردي (ENKS) القريب من أربيل والمظلة التركية، وهذه الانقسامات تضعف الخطاب السياسي المشترك، وتفتح الباب لتوظيف الخارج لها في لعبة النفوذ.

كما أن البعد العربي في المناطق التي توسّع فيها الأكراد بعد هزيمة داعش، مثل الرقة ومنبج ودير الزور، خلق معضلة تمثيل جديدة، فالسكان العرب هناك يشعرون بأنهم “محكومون من نخبة كردية”، رغم المشاركة الشكلية في المجالس المدنية، وشهدت بعض تلك المناطق احتجاجات متقطعة تطالب بتوزيع أكثر عدلا للسلطة والثروة.

الجغرافيا هنا ليست حيادية، فالمكان الذي يضم قوميات متعددة يصبح بطبيعته مجالا لتنازع السرديات، فالأكراد يتحدثون عن “إدارة تشاركية”، بينما يرى كثير من العرب أنها “سيطرة مقنّعة”، وهذه التناقضات البنيوية تجعل الكيان الكردي عرضةً للتفكك من الداخل أكثر مما يهدده الخارج.

الموارد كورقة تفاوض

موضوع الجغرافيا السياسية ليست فقط الأرض بل السيطرة على ما تحتها، حيث يمتلك الأكراد في شمال شرق سوريا أوراقا اقتصادية قوية من النفط والغاز والقمح والمياه، والسيطرة على الموارد دون اعتراف سياسي يجعلها ورقة ضغط مؤقتة لا ركيزة دائمة.

بعد سقوط النظام القديم وتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، لم تعد مسألة إدماج الموارد الكردية في الدولة قضية صراع بين مركز ومحيط، بل اختبارا لبنية الاقتصاد الوطني الجديد، فالمركز السياسي الناشئ في العاصمة يدرك تدرك أن استقراره المالي مرهون بتدفق النفط والغاز والقمح من الشمال الشرقي، وأن الاقتصاد السوري لن يتعافى ما لم تُدمَج إدارة الموارد ضمن منظومة وطنية.

أما واشنطن، التي خفّضت وجودها العسكري بعد اتفاق آذار، فغيّرت أدوات تأثيرها، ولم تعد تستخدم السيطرة الكردية على الموارد وسيلة “ابتزاز” لنظام “معادٍ”، بل ورقة ضغط ناعمة لضمان استمرار توازن القوى داخل الدولة السورية الجديدة، ومنع تحوّل أي طرف، سواء سلطة دمشق أو الأكراد أو الحلفاء الإقليميين، إلى مركز احتكار للثروة، ودخل الاتحاد الأوروبي على الخط عبر “صندوق إعادة الإعمار والحوكمة المحلية” الذي يشترط توزيعا عادلا للموارد بين المركز والمناطق.

تحوّل النفط الكردي من “عملة جغرافية في سوق المساومات” إلى اختبار لنضج الدولة السورية الاتحادية الوليدة، فهل تستطيع تحويل الثروة إلى عنصر استقرار، لا إلى سلاح تفاوض؟ الجواب، كما تشير الوقائع الميدانية، لا يزال عالقا بين تعقيدات السياسة الإقليمية وبطء بناء عقد اجتماعي يجعل الدولة لكل السوريين.

في معنى “اللامركزية” بين النظرية والممارسة

تقدّم الإدارة الذاتية نفسها نموذجا لـ”سوريا ديمقراطية لامركزية”، لكن التجربة أثبتت أن اللامركزية في السياق السوري ليست مفهوما إداريا، بل مفصل صراع على السلطة، فكلما اتسع نطاق القرار المحلي، ضاق أفق الدولة المركزية.

القبول بمبدأ اللامركزية في دستور جديد لسوريا يشكل مخرجا نظريا، لكنه يتطلب بيئة ثقة معدومة اليوم، وضمانات إقليمية ودولية مستبعدة في ظل توازنات متحركة، فيبقى المشروع الكردي عالِقا بين واقع فرضته الجغرافيا، ومستقبل تصوغه توازنات الآخرين.

آفاق ما بعد 2025

المشهد الراهن يشير إلى بداية مرحلة تفاوضية جديدة بين سلطة دمشق والأكراد برعاية روسية – إيرانية – وربما عربية. فالاتفاق المبدئي الذي جرى في ربيع 2025 حول دمج مؤسسات «قوات سوريا الديمقراطية» في الجيش الوطني هو محاولة لإعادة تعريف السيادة، لكنه أيضاً اختبارٌ لنية السلطة في دمشق وقدرتها على تقاسم السلطة.

من ناحية أخرى، تدفع تركيا باتجاه احتواء أي مخرجات تُشرعن الحكم الذاتي الكردي، وتلوّح بعمليات عسكرية جديدة في حال ظهور كيانٍ فيدرالي، هذا يجعل المشهد المقبل رهين ثلاث معادلات:

  1. توازن القوة الميدانية.
  2. التفاهم الأميركي – التركي.
  3. إرادة سلطة دمشق في التكيّف أو الصدام.

المسألة الكردية في سوريا ليست صراعا على هوية فقط، بل على التحكم في المكان بوصفه سلطة، فالجغرافية التي يتواجد فيها الأكراد هو نقطة تماس بين ثلاث خرائط كبرى:

  • خريطة الشرق الأوسط الموروثة عن سايكس – بيكو.
  • خريطة الطموح الكردي العابر للحدود المرسومة على الأخص في اتفاقية سان ريمون.
  • وخريطة القوى الدولية التي ترى في الشمال السوري منصة لإدارة الصراع لا حله.

وبين هذه الخرائط، يتحرك الأكراد في مساحة رمادية، فلا دولة أو انفصال أو حتى اندماج كامل.

ربما يكون الدرس الأعمق في هذه الجغرافيا السياسية أن “من يملك المكان لا يملك الزمن”، فالأكراد يسيطرون اليوم على الأرض، لكن مستقبلهم يتوقف على قدرتهم على تحويل السيطرة إلى شرعية، والمكان إلى مشروع، لا مجرد ورقة تفاوض في يد الآخرين.

الجغرافيا السياسية للأكراد في سوريا

الجغرافيا السياسية للأكراد في سوريا

تمثل هذه الرسوم البيانية تحليلاً للجغرافيا السياسية للأكراد في سوريا، بناءً على المقال المقدم. تعكس البيانات التوزيع الجغرافي، القوى المؤثرة، والموارد الاستراتيجية في شمال وشرق سوريا.

التوزيع الجغرافي والموارد

القوى المؤثرة في شمال وشرق سوريا

تطور السيطرة على المناطق (2011-2025)

الإدارة الذاتية
القوات السورية
تركيا والفصائل المتحالفة
داعش

الاستنتاجات الرئيسية:

  • يتمتع الأكراد بموقع استراتيجي في شمال وشرق سوريا مع موارد طبيعية هامة
  • تتأثر المنطقة بتوازن قوى معقد بين القوى المحلية والإقليمية والدولية
  • تطور وضع الإدارة الذاتية من سيطرة عسكرية إلى تفاوض سياسي بعد 2025
  • الموارد الطبيعية تمثل ورقة تفاوض مهمة ولكنها ليست ضماناً للاستقرار الطويل الأمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *