الجولان 2025: إسرائيل تفرض سيطرتها على المياه

كتب إيف لاكوست أن “السيطرة على الأرض ليست سوى السيطرة على ما تختزنه من موارد، وما تتيحه من مراقبة”، هذه الجملة وحدها كافية لتلخص جوهر ما يجري في الجولان السوري المحتل عام 2025.

الهضبة التي توصف بأنها “عسكرية” من حيث الإشراف على دمشق أو مراقبة شمال فلسطين، تكشف اليوم عن وجهها الأعمق، فهي خزان مياه استراتيجي، ومن يسيطر على منابعها وبحيراتها الصغيرة يملك في الحقيقة زمام الحياة اليومية لآلاف البشر، وتوضح طبيعة الجغرافيا غير المحايدة، وتحولها إلى أداة قسرية لإعادة تشكيل “المكان” وفق منطق الاحتلال.

وإذا كانت الحروب الكلاسيكية تُخاض بالسلاح والجيش، فإن الحرب التي تخاض في الجولان عام 2025 تُدار عبر شبكة من النقاط المائية؛ بحيرات محوطة بالأسلاك، وينابيع محولة إلى مناطق عسكرية، ومحطات ضخ محمية بالحراسة، وأنابيب تحدد من يشرب ومن يظمأ.

في هذه اللحظة الجيوسياسية، تظهر مقاربة خاصة لفهم الاحتلال حيث لا بد من قراءة الخريطة من جديد، لا كوثيقة صماء، بل كشبكة من مواقع استراتيجية تفرض واقعاً مائيا–سياسيا جديدا.

النقاط المحورية: من الجغرافيا إلى الاستراتيجية

في عام 2025 رسّخت إسرائيل وجودها عبر مجموعة نقاط محددة تحولت إلى عقدة السيطرة المائية في الجولان، وهي ليست انتشارا عشوائيا ولا حواجز عسكرية فحسب، بل مواقع مدروسة على قمم الهضاب وحواف البحيرات وحول منابع الينابيع، يمكن تلخيص أبرزها في:

  • محيط بحيرة مسعدة حيث أنشئت محطات ضخ حديثة تنقل المياه إلى خزانات ضخمة تُغذي المستوطنات.
  • منابع بانياس التي تحولت إلى منطقة عسكرية مغلقة لا يُسمح للسكان السوريين بالوصول إليها، بعدما رُبطت مباشرة بشبكات تحويل نحو الجليل.
  • المحاور الشرقية القريبة من وادي الرقاد حيث أُقيمت نقاط مراقبة تتحكم في جريان المياه الموسمية نحو حوض اليرموك.
  • محطات التحلية الصغيرة حول المستوطنات الزراعية التي تعمل على إعادة تدوير المياه العادمة وإعادة ضخها في شبكات الري.

هذه النقاط ليست مبعثرة؛ إنها تشكّل “خريطة القوة”، تتحول فيها الطبيعة إلى بنية تحتية للهيمنة.

المياه كمعيار سيادة

في الجولان 2025، لم تعد السيادة تُقاس برفع الأعلام أو تسيير الدوريات فقط، بل بتحديد من يفتح الصمام ومن يغلقه، عبر هذه النقاط، فرضت “إسرائيل” نظاما مائيا هرمياً

  • المستوطن الإسرائيلي في قمة الهرم، يحصل على حصته كاملة لري كرومه وأبقاره.
  • الإدارة العسكرية في الوسط، تتحكم في توزيع الفائض على شكل قرارات تنظيمية.
  • القرى السورية المتبقية في أسفل الهرم، تُعطى حصصا محدودة بالكاد تكفي للشرب والزراعة الصغيرة.

هكذا تصبح المياه أداة لإعادة إنتاج الخضوع. فمن يطالب بحفر بئر أو بناء خزان مستقل يُواجَه بالرفض بحجة أمن المياه”، أي بعبارة أوضح: أمن الاحتلال.

التغير المناخي كسند استعماري

في عام 2025، لم يعد الجفاف في المشرق يُقرأ كحالة طبيعية عابرة، بل صار عاملا مضاعفا يغيّر معادلات إدارة الموارد، فالتراجع في معدلات الأمطار وازدياد موجات الجفاف يدفع “السلطات الإسرائيلية” إلى تقديم سياسات جديدة لإدارة المياه في الجولان المحتل.

هذه السياسات تُطرح في الخطاب الرسمي على أنها جزء من استراتيجية “الإدارة الرشيدة” و”التكيف مع التغير المناخي”، حيث يجري إبراز التقنيات الزراعية المتقدمة وإعادة تدوير المياه كحلول لمواجهة الأزمة، غير أن هذا التوجه لا ينفصل عن البنية الأمنية القائمة، إذ يتقاطع مع السيطرة الفعلية على منابع المياه ومرافق الضخ والخزانات الحيوية.

خلف هذا التكيّف المناخي المعلن، يظل البعد السياسي واضحا، فالتحكم بالماء هو شكل من أشكال التحكم بالمجتمع، فحين تحدد السلطة الحاكمة كمية المياه المخصصة لقرية أو مستوطنة، فهي تتحكم في أنماط الزراعة، وفي إمكانات النمو الديمغرافي، وفي شروط البقاء نفسها، فالجفاف ليس مجرد تحدٍّ بيئي، بل سياق يعمّق منطق السيطرة ويحوّل الماء إلى أداة لإعادة تنظيم الفضاء الجغرافي والبشري في الجولان.

النقاط كأدوات رسم خريطة جديدة

الخرائط ليست وثائق محايدة، بل أدوات سلطة، والنقاط التي استولت عليها “إسرائيل” في الجولان ليست سوى علامات على رسم خريطة جديدة تُقصي السكان الأصليين وتُرسّخ موازين قوة غير قابلة للعكس.

  • النقطة حول بحيرة مسعدة لم تعد مجرد موقع تقني، بل خط حدود فعلي يمنع القرى السورية من التمدد نحو الجنوب.
  • النقاط على منابع بانياس ليست حراسة لماء جار، بل إعلان سيطرة على التاريخ نفسه، إذ يُحرم السوري من الماء الذي كان ينساب نحو حقوله منذ قرون.
  • النقاط على وادي الرقاد تحوّلت إلى صمامات جغرافية، تفصل بين الجولان والعمق السوري، وتحرم درعا من جزء من مواردها الموسمية.

هكذا تتحول الجغرافيا إلى شبكة من الخطوط المخفية، فهي ليست حدودا على الخرائط الرسمية، بل خطوط صدع مائية تعيد تعريف الممكن والممنوع.

البعد القانوني والإنساني في 2025

في القانون الدولي، يُعتبر استغلال الموارد الطبيعية للأرض المحتلة جريمة نهب، لكن “إسرائيل” نجحت في قلب المعادلة عبر خطاب “التنمية المستدامة” و”الابتكار الزراعي”، ومشاريع الري الذكي في المستوطنات تُعرض للعالم كنموذج “إدارة رشيدة”، بينما يعيش السوريون على هامش هذه الخريطة، مقيدين بقيود بيروقراطية ومائية.

إنها حالة ما يمكن تسميته بـ”الاستعمار عبر النقاط”، حيث لا يحتاج الاحتلال إلى حشود عسكرية ضخمة، بل يكفيه أن يسيطر على عدد قليل من المواقع الحساسة ليُخضع أرضاً بأكملها.

الجغرافيا ضد السكان

أثبتت التجربة أن الجغرافيا يمكن أن تتحول إلى أداة حرب بطيئة فلا معارك ولا صواريخ، بل شبكة أنابيب ومحطات ضخ، والنتيجة أن القرى السورية تجد نفسها أمام خيارين فإما الامتثال للقيود المفروضة، أو مواجهة العطش، فهي حرب استنزاف بلا ضجيج، لكنها أكثر قسوة لأنها تضرب أساس الحياة اليومية.

ومن زاوية جيوسياسية، يمكن أن نرصد ثلاث اتجاهات محتملة:

  1. تثبيت دائم للسيطرة بالنقاط بحيث تتحول هذه المواقع إلى خطوط سيادة غير قابلة للتفاوض، شبيهة بالحدود الطبيعية.
  2. احتجاج محلي متصاعد يحول أزمة المياه إلى شرارة رفض سياسي في القرى السورية، ويعيد الجولان إلى دائرة الصراع الدولي.
  3. إدماج النقاط في مشاريع إقليمية عبر ربطها بخطط تعاون مائي–طاقوي في المنطقة، ما يجعل من الجولان شرطا ضمنيا لأي تسوية إقليمية.

في الجولان اليوم يتجسد حقيقة أن الجغرافيا ليست بريئة”، فالنقاط المائية التي سيطرت عليها إسرائيل ليست تفاصيل تقنية، بل هي مفاتيح قوة، من يسيطر على بحيرة صغيرة أو ينبوع ضيق، يسيطر في الحقيقة على جماعة بشرية كاملة، فهي حرب النقاط التي تُعيد رسم الخريطة ببطء، وتجعل الماء حدوداً جديدة للسيادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *