تحليل خطاب حمزة المصطفى في مؤتمر السويداء: سيطرة الدولة أم تحايل إعلامي؟

في أول إطلالة رسمية له على خلفية تصاعد التوترات في السويداء، خرج وزير الإعلام السوري، حمزة المصطفى، ليقدّم رواية السلطة عمّا اعتبره “مواجهة محدودة مع جماعات مسلّحة خارجة عن القانون”.

المؤتمر الصحفي، الذي بثّته وسائل الإعلام المركزية ظهر السبت، لم يكن حدثا عابرا، بل لحظة كاشفة لتموضع السلطة تجاه الجنوب، وحدود قدرتها على إنتاج خطاب وطني مقنع في لحظة تأسيس ما بعد الصدمة.

المفارقة أن الوزير تحدث مطوّلا عن التهدئة والاستقرار والسيادة، لكنه لم يذكر كلمة “شرعية” مرة واحدة. وهذا الغياب لم يكن سهوا لغويا، بل تجسيدا لأزمة فكر سياسي ما يزال يتعامل مع الجغرافيا السورية بوصفها معادلة أمنية، لا مشروعا وطنيا.

الجنوب كاختبار للسلطة لا للميدان

كان خطاب الوزير محاولة في احتواء العنف أكثر من كونه رؤية لحل سياسي، فثلاثية “ضبط المجموعات وعودة مؤسسات الدولة وفتح المعابر” التي كررها، تصلح كنشرة عمليات لفرقة أمنية، لا كتصوّر لحل أزمة تتشابك فيها الطبقات الاجتماعية والرمزية والطائفية والاقتصادية.

السويداء لا تعيش مجرّد تمرد مسلح، بل تصدّعا في علاقة السلطة مع إحدى أكثر الكتل الاجتماعية تجانسا وإصرارا على الخصوصية، والرد بخطاب مركزي يعيد إنتاج منطق “الوحدة القسرية” و”المصلحة العليا” دون إشراك حقيقي للفاعلين المحليين، يعمّق الهوة بدل أن يجسرها.

ماذا أراد الوزير أن يقول… وما الذي لم يستطع قوله؟

من الواضح أن الوزير كان حريصا على إظهار الحكومة بمظهر “المبادر لا المنكفئ”، وأعلن عن التهدئة من طرف واحد، ودعا الفصائل المحلية إلى الالتزام، وتحدث عن “عفو موسّع” و”تسويات فورية”، لكنه صمت أمام سؤال طرحه أحد الصحفيين: “من يمثل السويداء في هذا الحوار؟”، وتهرّب المصطفى، وقال إن “الدولة تحاور أبناءها كل يوم عبر المؤسسات”، وهذا التصريح كافي لإدراك حجم الفراغ التمثيلي الذي يواجهه الجنوب، وحجم التردد المركزي في الاعتراف بالتعدد الفعلي للسلطة على الأرض.

عنف بلا سياسة، واحتواء بلا أفق

في خلفية المؤتمر، كانت الاشتباكات لا تزال تُسجل في ريف صلخد، ومراكز محلية تُعلن رفضها دخول أي قوى أمنية ما لم يسبقه اتفاق سياسي واضح، وبدا كأن خطاب الوزير ينتمي إلى مرحلة زمنية مختلفة حيث السيطرة ممكنة بالإعلام، والتهدئة إعلان، والوطن “عائلة كبيرة تحتاج لبعض الانضباط”.

لكن الواقع يُظهر أن الجنوب خرج من مرحلة “الهدنة الهشة” إلى طور جديد من التمرّد المُعلن، الذي لم تعد تحكمه فصائل تقليدية أو جماعات عشائرية فقط، بل تيارات اجتماعية تستند إلى شبكات مدنية، وإلى سردية تاريخية ترى في “الحياد الدرزي” موقفا وجوديا، لا تفصيلا أمنيا.

خريطة الولاءات الجديدة: من يُمسك بالأرض؟

بعيدا عن الدعاية السياسية، من يراقب السويداء اليوم يلحظ انتقالا حاسما من مرحلة “الزعامات التقليدية” إلى شبكة ميدانية مركّبة، فهناك فصائل محلية، ومجموعات ذات طابع دفاعي لكنها متجذرة اجتماعيا، وامتدادات إقليمية تنشط إعلاميا وربما لوجستيا، والسلطة، في المقابل، لا تملك سوى أدوات ضغط أمني وقنوات تفاوض استخبارية.

في مؤتمره، لم يُشر الوزير إلى هذه التحولات، بل تحدّث كما لو أن المحافظة لا تزال كتلة متجانسة بانتظار التوجيه المركزي، وهذا التجاهل يُعقّد أي مسعى لإعادة دمج السويداء في كيان سياسي لا يزال هو ذاته يبحث عن هويته.

مأزق المركز: كيف تبني دولة بلا توافق؟

ما كشفه المؤتمر هو أن السلطة الجديدة لا تزال تفكّر بمنطق “السيطرة أولا، والتمثيل لاحقا”، وهذا المنطق، الذي ينجح تكتيكيا في لحظات أمنية، يفشل استراتيجيا حين تواجهه مجتمعات ذات سرديات سياسية وتاريخية خاصة.

السويداء ليست مجرد موقع جغرافي على الخريطة السورية، بل تمثّل عقدة رمزية في سؤال الدولة والمركز، فهل تُبنى سوريا الجديدة كاتحاد قسري تحت قوة العاصمة؟ أم كفضاء تفاوضي بين مكونات متباينة؟ غياب الإجابة الصريحة في خطاب الوزير يوحي بأن المركز لم يحسم هذا السؤال بعد، أو أنه لا يزال يراهن على عامل الوقت لا الإرادة السياسية.

خطاب بلا شرعية… وشرعية بلا مشروع

في لحظة سياسية حاسمة، كان يُفترض بخطاب الوزير أن يقدّم تصورا لمرحلة تأسيسية، فيتحدث عن الدستور والتمثيل وتوزيع السلطة، ومصير أجهزة الدولة وشكل العلاقة مع الهوامش، لكنه بدلا من ذلك، طرح بيانا لإدارة أزمة ميدانية، بلا خريطة مستقبل.

السويداء كاختبار سياسي ليست فقط تحديا أمنيا، فهي سؤال مطروح على طاولة دمشق؛ فهل السلطة الجديدة قادرة على إنتاج وطن، أم أنها مجرد بنية انتقالية تؤجل المواجهة الكبرى إلى حين؟

السويداء لا تنتظر خطابا، بل شراكة

مشكلة المؤتمر الصحفي لم تكن في لغته، بل في ما عكسه من بُنية تفكير لا تزال أسيرة نموذج أحادي، وفي السويداء، كما في الساحل والجزيرة، لا يكفي التلويح بالسيادة، بل يجب إعادة تعريفها عبر التفاوض والتمثيل والشراكة.

الجنوب السوري والجزيرة والساحل لا يرفضون المركز بوصفه عاصمة، بل بوصفه عقلية تُقصي ولا تشارك، وما لم تستوعب دمشق الجديدة هذا التحوّل، فإن كل مؤتمراتها الصحفية، وكل بيانات التهدئة، ستبقى حالة عبثية، لا تُقنع أحدا، ولا تُرسي دولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *